وليد الرجيب / أصبوحة / ظاهرة البوعزيزي

تصغير
تكبير
شكل البوعزيزي، ذاك الشاب الشهيد الذي أحرق نفسه في تونس، ظاهرة استحقت نظر العلماء والباحثين النفسيين عن قرب، حول دلالات هذا السلوك، الذي كفره وحرمه البعض ودانه البعض الآخر لعبثيته، وأيده وبرره البعض، على اعتبار أنه سلوك يائس، وردة فعل إنسان غاضب لا يستطيع مواجهة الأمن، وهو شيء يشبه الصرخة، وأنا أظن أن البوعزيزي وما فعله سيكون مادة للدراسة في المستقبل، خصوصا أنه ظهرت بعد الثورتين التونسية والمصرية كتب تتحدث عن هاتين الثورتين، سواء من ناحية تفاصيل الأحداث، أو من نواحٍ فلسفية أكثر عمقاً.

وقبل يومين شاهدت لقاءً مع إحدى الباحثات والكاتبات التونسيات، وللأسف فقد حضرت جزءاً بسيطاً من حديثها الشيق، حول ظاهرة البوعزيزي والثورة التونسية.

وعندما أقول ظاهرة هنا، لا أعني أن سلوك حرق النفس تحول إلى ظاهرة، رغم أن ذلك تكرر في تونس ومصر ودول عربية أخرى، إنما أتحدث عن انفضاض كيس الرحم في البلدان العربية، وولادة حركات بعد طول حبل، فالشعوب كانت حبلى ومحبوسة الدمع منذ عقود طويلة، وسلوك البوعزيزي كان التعبير الذي فض الأرحام فخرج ماؤها في جميع البلدان العربية.

قلنا إن البعض قال إن ما فعله البوعزيزي مجرد انتحار جبان، ولكن كان من الممكن أن ينتحر البوعزيزي في بيته، وبوسائل أخرى أسرع وأقل ألماً، بل أحرق نفسه في الشارع، وهو سلوك احتجاجي واضح، وتعبير عن وجهة نظر جميع التونسيين بل جميع الشعوب العربية، وصحيح أنه من الناحية الظاهرية السطحية كان الشاب في حالة إحباط ويأس واكتئاب شديد، لكن الاكتئاب الشديد لا يأتي دفعة واحدة، ولكنه تراكم اكتئاب يتصاعد ليصبح انتحارياً، اثر تغير في كيمياء الدماغ، أو نتيجة صدمة كبيرة لم يحتملها العقل.

وهنا فثنائية الحلال والحرام، تحتاج إلى رؤية شرعية أعمق، إذ لم يتوقف رجال الدين كثيراً أمام هذا الفعل، بل تلاشت آراؤهم في ظل الغضب العارم للشعبين التونسي والمصري وبقية الشعوب العربية.

فظاهرة البوعزيزي الجديدة لكن الكامنة تمثلت في كسر خوف الشعوب أمام الآلة العسكرتارية، تمثلت في التحول النوعي بعد تراكم كمي طويل، فما يحدث في الدول العربية بشكل متزامن هو ليس تقليد الشعوب العربية لبعضها، بل هو أشبه بالدمل العربي الذي انفتح في لحظة أوج نضجه. نعم الشعوب استفادت من تكتيكات وشعارات بعضها كما استفادت الأنظمة من تجارب بعضها، فمنهم من فوجئ ورحل، ومنهم من اتبع تكتيك القمع الوحشي، في حالة من الإنكار المرضي، ومنهم من فهم الدرس وقام بإصلاحات شبه جذرية لصالح شعبه.

وهذه الظاهرة ليست من الظواهر التي تشي بالانحسار، لأن ثقافة النضال والانتصار والانكسار هي ثقافة امتدت لقرن مضى، بل لقرون مضت، والإنسان من خصائصه تكوين خبرات ذهنية، فليس من الضروري أن يمد يده إلى اللهب في كل مرة ليعرف أن النار تحرق.





وليد الرجيب

osbohatw@gmail.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي