أماكن 2 / أمن إنكليزي (2 من 2)
جمال الغيطاني
| جمال الغيطاني |
تعجبت، كيف تعيش بريطانيا العظمى من دون أمن مركزي؟ أين البوابات الإلكترونية؟، أين الشرطة؟ وكيف تترك أبواب أحد أهم متاحف العالم مفتوحة هكذا من دون حراسة، من دون تذاكر دخول، المتحف مفتوح مجانا، فيما عدا المعارض الخاصة التي تقام به، الآن به معرض للوحات ليوناردو دافنشي، غير أن بطاقتي الصحافية توفر عليّ أسعار الدخول في أوروبا كلها.
المتحف مؤسسة ثقافية متكاملة، يوميا أكثر من محاضرة، برامج تعليمية، زيارته جزء من المناهج التعليمية، لذلك يزدحم بمجموعات الطلبة بدءا من أطفال الحضانة حتى تلاميذ الدراسات العليا، هذا ما نفتقده في مصر، فالمتاحف في مصر خلال العقود الأخيرة جزر معزولة عن التعليم، عن المجتمع، حتى الخمسينات كانت زيارة المتاحف والمواقع الأثرية جزءا من العملية التعليمية، لم يعد الأمر كذلك، وهذا ما يحتاج إلى إعادة نظر وتعاون أوثق بين الوزارات والمؤسسات ثقافية وتعليمية، مضيت بعد وقفة قصيرة أمام حجر رشيد إلى حجر شاباكا، أن تقرأ ليس مثل أن ترى، توقفت مبهورا أمام الحجر المستطيل المثبت إلى الجدار، إنه يحتوي على نَص مهم يقص خَلق العالم بواسطة الإله الواحد الأحد، هذا يحتاج إلى حديث طويل سأعود إليه في اليوميات، لكن ما أذهلني تلك الخطوط الأحد عشر التي تشبه أشعة الشمس المتفجرة من حفرة مربعة تتوسط الحجر.
يقول بعض الأثريين إنها نتيجة استخدام الحجر كقاعدة لرحاية طحين، وأقول واثقا إن تلك الخطوط ليست صدفة، إنما تعبر عن رؤية متممة لمضمون المتن الذي يشرح خَلق العالم بواسطة إله واحد أحد، ولي عودة إلى حجر شاباكا وما يعنيه.
الأربعاء...
صبري حافظ من أقدم أصدقاء العمر، هو الآن أحد أساتذة الأدب العربي المرموقين في العالم، أستاذ كرسي في جامعة لندن، لا تكتمل زيارتي إلى لندن إلا برؤيته وصحبته، وزيارة بيته الأنيق الذي يحتفظ فيه بلوحات أصلية لكبار الفنانين العرب والأجانب، وتناول العشاء الذي يعده بنفسه، خصوصا الأرز بالشعرية الذي يتقن طهيه، في هذه المرة صحبتنا الروائية الكبيرة أهداف سويف.
حدثني صبري عن انتظاره كل خميس لحلقات الأستاذ محمد حسنين هيكل في الجزيرة، عن انبهاره بذاكرة الأستاذ وثقافته، قلت إنني أتفق معه تماما، خصوصا في البعد الثقافي الذي يضفي عمقا وشمولية على أحاديثه، رغم أنه يخفي هذا الجانب ولا يتحدث عنه، قلت لصبري وأهداف: إنني أحاول منذ فترة إجراء مقابلة طويلة أكشف فيها جذور التكوين الثقافي للأستاذ، قال صبري إنني لو نجحت فسيكون ذلك أمرا مهمًّا، نتمنى أن تنجح فيه.
في لندن مصريون يعيشون منذ سنوات، بعضهم يفخر الإنسان به، خصوصا العلماء منهم، وبالتحديد الأطباء، زرت مع صبري وأهداف.. الدكتور حسام إبراهيم سعدالدين في منزله الأنيق بمنطقة ويمبلدون، والدكتور حسام من كبار المتخصصين الآن في الخصوبة.
في لندن يعيش أيضا بعض المصريين الهاربين من التاريخ ومن العقاب، في مكان ما يعيش شمس بدران أحد الشخصيات الغامضة في تاريخنا المعاصر، وقد فوجئت بأنه لايزال حيا يسعى عندما رأيته في فضائية عربية، بالنسبة لي هو أحد الوجوه المرتبطة بالظروف المؤدية إلى هزيمة يونيو.
في مكان آخر من لندن، لعله قصر منيف، أو فندق فخم، يمرح، ويسعى ممدوح إسماعيل، أحد رموز الفساد المعاصر، الذي ساعده رموز الفساد الأكبر على الهروب من مصر بعد غرق أكثر من ألف إنسان في عبَّارته.
كنت أتهيأ للنوم عندما خطر لي أن أعرف الأخبار، في محطة البي بي سي، رأيت الرمزين الجليلين للعدالة المستشار هشام البسطويسي والمستشار محمود مكي يمضيان إلى الجلسة كمتهمين، تحيط بهما قوات كثيفة، خطر لي ممدوح إسماعيل الذي خرج محميا معززا هنا في لندن، بينما يحاكم شرفاء مصر وتلفق لآخرين التهم، كيف سيرى من يجيئون بعدنا أحوالنا التي تتجاوز مسرح اللامعقول؟
هيثرو... رحيل... الخميس
لم تستغرق إجراءات السفر أمام مكتب مصر للطيران إلا دقائق، بعدها اتجهت إلى بوابات الرحيل، أتأمل كثيرا في الكلمتين المتضادتين، «وصول، رحيل»، أليس ما بينهما تلخيصا للمعنى كله؟.
أمسكت بجواز السفر، مررت بالبوابة الإلكترونية، فوجئت أنني داخل صالة السفر مباشرة، تصميمها مبهج، يفيض بالحيوية، أين بوليس الجوازات؟ متى سأختم الجهاز؟ هل ارتكبت خطأ ما؟ قلت فلأنتظر، ربما يوجد ضابط الجوازات عند مدخل الطائرة.
حتى دخولي الطائرة المصرية التي أقلعت في موعدها بدقة لم يختم جواز سفري، لم أمر على مكتب جوازات، بل إنني لم أر أي ضابط أو جندي في المطار كله مع أنه هدف ثمين لغزوات أخرى يقوم بها بن لادن وجماعته.
سألت أحد الخبراء بإنكلترا، يتردد عليها بانتظام، قال: إن فلسفة الأمن هناك مختلفة، أي خفي، غير ظاهر، لكن كل شيء مرصود، الحركة في الشوارع مراقبة بالكاميرات.
قلت غير مقتنع: إذاً كيف عرفوا سفري رغم أن الجواز لم يختم؟
قال: لديهم وسائلهم.
قلت: إنني لم أر جنود اسكتلاند يارد، لم أر الجنود في عربات النقل تصطف على الطرق حول المنشآت مثل نقابات الصحافيين والمحامين والمهندسين، أي أمن هذا؟!
قال: إن الأمن القوي هو الذي لا يسفر عن نفسه، وأحيانا تعبر القوات الكثيفة والحضور الأكثف عن ضعف، وليس عن قوة.
عندئذ قلت محتجا: لكنني لم أر حتى فرق كاراتيه.
ضحك صاحبي بينما كنت أمسك بجوازي الخالي من ختم المغادرة غير قادر على الاستيعاب.
تعجبت، كيف تعيش بريطانيا العظمى من دون أمن مركزي؟ أين البوابات الإلكترونية؟، أين الشرطة؟ وكيف تترك أبواب أحد أهم متاحف العالم مفتوحة هكذا من دون حراسة، من دون تذاكر دخول، المتحف مفتوح مجانا، فيما عدا المعارض الخاصة التي تقام به، الآن به معرض للوحات ليوناردو دافنشي، غير أن بطاقتي الصحافية توفر عليّ أسعار الدخول في أوروبا كلها.
المتحف مؤسسة ثقافية متكاملة، يوميا أكثر من محاضرة، برامج تعليمية، زيارته جزء من المناهج التعليمية، لذلك يزدحم بمجموعات الطلبة بدءا من أطفال الحضانة حتى تلاميذ الدراسات العليا، هذا ما نفتقده في مصر، فالمتاحف في مصر خلال العقود الأخيرة جزر معزولة عن التعليم، عن المجتمع، حتى الخمسينات كانت زيارة المتاحف والمواقع الأثرية جزءا من العملية التعليمية، لم يعد الأمر كذلك، وهذا ما يحتاج إلى إعادة نظر وتعاون أوثق بين الوزارات والمؤسسات ثقافية وتعليمية، مضيت بعد وقفة قصيرة أمام حجر رشيد إلى حجر شاباكا، أن تقرأ ليس مثل أن ترى، توقفت مبهورا أمام الحجر المستطيل المثبت إلى الجدار، إنه يحتوي على نَص مهم يقص خَلق العالم بواسطة الإله الواحد الأحد، هذا يحتاج إلى حديث طويل سأعود إليه في اليوميات، لكن ما أذهلني تلك الخطوط الأحد عشر التي تشبه أشعة الشمس المتفجرة من حفرة مربعة تتوسط الحجر.
يقول بعض الأثريين إنها نتيجة استخدام الحجر كقاعدة لرحاية طحين، وأقول واثقا إن تلك الخطوط ليست صدفة، إنما تعبر عن رؤية متممة لمضمون المتن الذي يشرح خَلق العالم بواسطة إله واحد أحد، ولي عودة إلى حجر شاباكا وما يعنيه.
الأربعاء...
صبري حافظ من أقدم أصدقاء العمر، هو الآن أحد أساتذة الأدب العربي المرموقين في العالم، أستاذ كرسي في جامعة لندن، لا تكتمل زيارتي إلى لندن إلا برؤيته وصحبته، وزيارة بيته الأنيق الذي يحتفظ فيه بلوحات أصلية لكبار الفنانين العرب والأجانب، وتناول العشاء الذي يعده بنفسه، خصوصا الأرز بالشعرية الذي يتقن طهيه، في هذه المرة صحبتنا الروائية الكبيرة أهداف سويف.
حدثني صبري عن انتظاره كل خميس لحلقات الأستاذ محمد حسنين هيكل في الجزيرة، عن انبهاره بذاكرة الأستاذ وثقافته، قلت إنني أتفق معه تماما، خصوصا في البعد الثقافي الذي يضفي عمقا وشمولية على أحاديثه، رغم أنه يخفي هذا الجانب ولا يتحدث عنه، قلت لصبري وأهداف: إنني أحاول منذ فترة إجراء مقابلة طويلة أكشف فيها جذور التكوين الثقافي للأستاذ، قال صبري إنني لو نجحت فسيكون ذلك أمرا مهمًّا، نتمنى أن تنجح فيه.
في لندن مصريون يعيشون منذ سنوات، بعضهم يفخر الإنسان به، خصوصا العلماء منهم، وبالتحديد الأطباء، زرت مع صبري وأهداف.. الدكتور حسام إبراهيم سعدالدين في منزله الأنيق بمنطقة ويمبلدون، والدكتور حسام من كبار المتخصصين الآن في الخصوبة.
في لندن يعيش أيضا بعض المصريين الهاربين من التاريخ ومن العقاب، في مكان ما يعيش شمس بدران أحد الشخصيات الغامضة في تاريخنا المعاصر، وقد فوجئت بأنه لايزال حيا يسعى عندما رأيته في فضائية عربية، بالنسبة لي هو أحد الوجوه المرتبطة بالظروف المؤدية إلى هزيمة يونيو.
في مكان آخر من لندن، لعله قصر منيف، أو فندق فخم، يمرح، ويسعى ممدوح إسماعيل، أحد رموز الفساد المعاصر، الذي ساعده رموز الفساد الأكبر على الهروب من مصر بعد غرق أكثر من ألف إنسان في عبَّارته.
كنت أتهيأ للنوم عندما خطر لي أن أعرف الأخبار، في محطة البي بي سي، رأيت الرمزين الجليلين للعدالة المستشار هشام البسطويسي والمستشار محمود مكي يمضيان إلى الجلسة كمتهمين، تحيط بهما قوات كثيفة، خطر لي ممدوح إسماعيل الذي خرج محميا معززا هنا في لندن، بينما يحاكم شرفاء مصر وتلفق لآخرين التهم، كيف سيرى من يجيئون بعدنا أحوالنا التي تتجاوز مسرح اللامعقول؟
هيثرو... رحيل... الخميس
لم تستغرق إجراءات السفر أمام مكتب مصر للطيران إلا دقائق، بعدها اتجهت إلى بوابات الرحيل، أتأمل كثيرا في الكلمتين المتضادتين، «وصول، رحيل»، أليس ما بينهما تلخيصا للمعنى كله؟.
أمسكت بجواز السفر، مررت بالبوابة الإلكترونية، فوجئت أنني داخل صالة السفر مباشرة، تصميمها مبهج، يفيض بالحيوية، أين بوليس الجوازات؟ متى سأختم الجهاز؟ هل ارتكبت خطأ ما؟ قلت فلأنتظر، ربما يوجد ضابط الجوازات عند مدخل الطائرة.
حتى دخولي الطائرة المصرية التي أقلعت في موعدها بدقة لم يختم جواز سفري، لم أمر على مكتب جوازات، بل إنني لم أر أي ضابط أو جندي في المطار كله مع أنه هدف ثمين لغزوات أخرى يقوم بها بن لادن وجماعته.
سألت أحد الخبراء بإنكلترا، يتردد عليها بانتظام، قال: إن فلسفة الأمن هناك مختلفة، أي خفي، غير ظاهر، لكن كل شيء مرصود، الحركة في الشوارع مراقبة بالكاميرات.
قلت غير مقتنع: إذاً كيف عرفوا سفري رغم أن الجواز لم يختم؟
قال: لديهم وسائلهم.
قلت: إنني لم أر جنود اسكتلاند يارد، لم أر الجنود في عربات النقل تصطف على الطرق حول المنشآت مثل نقابات الصحافيين والمحامين والمهندسين، أي أمن هذا؟!
قال: إن الأمن القوي هو الذي لا يسفر عن نفسه، وأحيانا تعبر القوات الكثيفة والحضور الأكثف عن ضعف، وليس عن قوة.
عندئذ قلت محتجا: لكنني لم أر حتى فرق كاراتيه.
ضحك صاحبي بينما كنت أمسك بجوازي الخالي من ختم المغادرة غير قادر على الاستيعاب.