|القاهرة - من حنان عبدالهادي|المهتمون بفكر المفكر المصري الراحل جمال حمدان صبوا جهدهم على شرح وتوضيح عبقريته الجغرافية، متجاهلين في ذلك ألمع ما في فكره، وهو قدرته على التفكير الاستراتيجي حيث لم تكن الجغرافيا لديه إلا رؤية استراتيجية متكاملة للمقومات الكلية لكل تكوين جغرافي وبشري وحضاري ورؤية للتكوينات وعوامل قوتها وضعفها، وهو لم يتوقف عند تحليل الأحداث الآنية أو الظواهر الجزئية، وإنما سعى إلى وضعها في سياق أعم وأشمل وذات بعد مستقبلي أيضا، وجمال حمدان - هذا الرمز المصري المضيء - عانى مثل أنداده من كبار المفكرين الاستراتيجيين في العالم، من عدم قدرة المجتمع المحيط بهم على استيعاب ما ينتجونه، إذ إنه غالبا ما يكون رؤية سابقة لعصرها بسنوات، وهنا يصبح عنصر الزمن هو الفيصل للحكم على مدى عبقرية هؤلاء الاستراتيجيين.ولد جمال حمدان في 4 فبراير العام 1928 بقرية ناي بالقليوبية... وكان «حمدان» يمتلك قدرة ثاقبة على استشراف المستقبل متسلحا في ذلك بفهم عميق لحقائق التاريخ ووعي متميز بوقائع الحاضر، ففي عقد الستينات، وبينما كان الاتحاد السوفياتي في أوج مجده، والزحف الشيوعي الأحمر يثبت أقدامه شمالا وجنوبا أدرك «حمدان» ببصيرته الثاقبة أن تفكك الكتلة الشرقية واقع لا محالة، وكان ذلك في العام 1968، وكان صاحب السبق في فضح أكذوبة ان اليهود الحاليين هم أحفاد بني إسرائيل الذين خرجوا من فلسطين خلال حقب ما قبل الميلاد، وأثبت في كتابه «اليهود والإنثروبولوجيا» الصادر في العام 1967 ، بالأدلة العملية أن اليهود المعاصرين الذين يدعون أنهم ينتمون إلى فلسطين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمي هؤلاء إلى إمبراطورية «الخرز التترية» التي قامت بين «بحر قزوين» و«البحر الأسود»، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي، وهو ما أكده بعد ذلك بعشر سنوات «آرثر كويستلر» مؤلف كتاب «القبيلة الثالثة عشرة» الذي صدر العام 1976.ويعد جمال حمدان... واحدا من قلة محدودة للغاية من المثقفين المسلمين الذين نجحوا في حل المعادلة الصعبة المتمثلة في توظيف أبحاثهم ودراساتهم من أجل خدمة قضايا الأمة، حيث خاض ـ من خلال رؤية استراتيجية واضحة المعالم ـ معركة شرسة لتفنيد الأسس الواهية التي قام عليها المشروع الصهيوني في فلسطين .وأدرك مبكرا من خلال تحليل متعمق للظروف التي أحاطت بقيام المشروع الصهيوني أن «الأمن» يمثل المشكلة المحورية لهذا الكيان اللقيط، واعتبر أن وجود إسرائيل رهن بالقوة العسكرية وبكونها ترسانة وقاعدة وثكنة مسلحة، مشيرا إلى أنها قامت ولن تبقى.حدد جمال حمدان الوظيفة التي من أجلها أوجد الاستعمار العالمي هذا الكيان اللقيط، بالاشتراك مع الصهيونية العالمية، وهي أن تصبح قاعدة متكاملة آمنة عسكريا، ورأس جسر ثابت استراتيجي، ووكيل عام اقتصاديا، أو عميل خاص احتكاريا، وهي في كل أولئك تمثل فاصلا أرضيا يمزق اتصال المنطقة العربية ويخرب تجانسها ويمنع وحدتها وإسفنجة غير قابلة للتشبع تمتص كل طاقاتها ونزيفا مزمنا في مواردها.من الاستشرافات المهمة التي تضمنتها أوراق جمال حمدان... تلك المتعلقة بعودة الإسلام ليقود من جديد، حيث يقول: «يبدو لي أن عودة الإسلام أصبحت حقيقة واقعة في أكثر من مكان، عودة الإسلام حقيقة ودالة جدا تحت ناظرينا»، ويلفت إلى أنه في الوقت نفسه يبدو أن ديناميات الإسلام تختلف تماما، فقديما كان الإسلام يتقلص في تراجع نحو الجنوب في جبهته الأوروبية وجنوب جبـهته الأفريقية، الآن هناك عودة للإسلام في أوروبا. ومن المؤسف بعد ذلك كله، ان جمال حمدان عانى من تجاهل ونسيان لأكثر من «30» عاما قضاها منزويا في شقته الضيقة، ينقب ويحلل ويعيد تركيب الوقائع والبدهيات.وعندما مات بشكل مأسوي، خرج من يتحدث عن قدرة خارقة لحمدان على التفرغ للبحث والتأليف بعيدا عن مغريات الحياة، كما لو كان هذا الانزواء قرارا اختياريا وليس عزلة فرضت عليه لمواقفه الوطنية الصلبة، وعدم قدرة المؤسسات الفكرية والمثقفين العرب على التعاطي مع أفكاره التي كانت سابقة لزمانها بسنوات.وحظي المفكر المصري الراحل... بالتكريم داخل مصر وخارجها وعرض عليه كثير من المناصب الكبيرة في مصر وخارجها لكنه اعتذر عنها جميعا مفضلا التفرغ للبحث العلمي وكانت بعض الترشيحات هي ترشيحه لتمثيل مصر في إحدى اللجان المهمة بالأمم المتحدة، وعضوية مجمع اللغة العربية ورئاسة جامعة الكويت .وغير ذلك الكثير.وفي 17 أبريل عام 1993 عثر على جثته والنصف الأسفل منها محروقا، واعتقد الجميع أن «حمدان» مات متأثرا بالحروق، ولكن مفتش الصحة بالجيزة الدكتور يوسف الجندي أثبت في تقريره أن الفقيد لم يمت مختنقا بالغاز، كما أن الحروق ليست سببا في وفاته، لأنها لم تصل لدرجة أحداث الوفاة.اكتشف المقربون من «حمدان» اختفاء مسوّدات بعض الكتب التي كان بصدد الانتهاء من تأليفها، وعلى رأسها كتابه عن اليهودية والصهيونية.مع العلم أن النار التي اندلعت في الشقة لم تصل لكتب وأوراق «حمدان»، ما يعني اختفاء هذه المسوّدات ـ بفعل فاعل وحتى هذه اللحظة لم يعلم أحد سبب الوفاة ولا أين اختفت مسوّدات الكتب التي كانت تتحدث عن اليهود .وقد فجّر رئيس المخابرات السابق أمين هويدي مفاجأة من العيار الثقيل، حول الكيفية التي مات بها جمال حمدان، وأكد هويدي أن لديه ما يثبت أن ـ الموساد الإسرائيلي ـ هو الذي قتل حمدان .