| بيروت - من محمد حسن حجازي |يغيب الدكتور وليد غلمية عن الساحة الموسيقية في لبنان مخلفاً وراءه زحاماً من الاسئلة وعلامات الدهشة والاستفهامات وماذا بعد؟نعم الى هذا الحد يترك هذا الفنان والاكاديمي والانسان مكاناً فارغاً ومكانة راقية في تاريخ لبنان الموسيقي الحديث، وان يكن صاحبه من الطاقات المخضرمة التي عرفت كيف تعيش زمن الكبار الذهبي، وكيف تتكيف مع المعاصر من دون صدام بل باحتضان الطاقات الكبيرة من بين الشباب والدفع بهم الى المقدمة.ولا شك ان انسحابه عن الساحة يفتح معركة شرسة لخلافته، اين منها معارك السياسيين على اختلافهم في اي من موقع السلطة، فغلمية لم يترك مناسبة او مقابلة او اطلالة اذاعية او فضائية الا وكال الهجوم على ما لا يعجبه في جيل الامس وجيل اليوم، ولم يوفر تحديداً الاخوين الكبيرين الراحلين عاصي ومنصور الرحباني الى حد ان الحقب الماضية كانت تدفع بالاستاذ منصور الرحباني الى ترك عملية الرد لنجله الاصغر اسامة الذي كان يرد بالقسوة اياها، بينما حظي توفيق الباشا، وزكي ناصيف، ومارسيل خليفة باحلى الكلام من غلمية الذي رأس المعهد العالي للموسيقى، الكونسرفاتوار على مدى عشرين عاماً متواصلة استطاع خلالها ايصال مكاتب المعهد الى كل محافظات لبنان وبعض مدنه البعيدة كثيراً مسهلاً على الراغبين في التعلم مهمة الالتحاق بمعاهد قريبة من أماكن سكنهم.كما انه سعى بدأب ونال ما يتمناه من تأسيس الاوركسترا الوطنية اللبنانية والاوركسترا الشرق عربية، وصولاً الى الاوركسترا السيمفونية الفيلهارمونية بما يعني انه ادخل لبنان الى محور العالمية من خلال هذه الانجازات المتلاحقة مركزاً ايضاً على دعوة كبار قادة الاوركسترا العالميين لكي يقوموا بمهمة العمل مع الاوركسترات اللبنانية لتأمين خبرة نموذجية لعازفيهم تجعلهم اقدر في وقت لاحق على مجاراة زملائهم في اي اوركسترا عالمية غربية.ولم يتوقف دون هنا، بل هو وعلى مدى 67 عاماً يتعامل مع الموسيقى متعلماً ومؤلفاً وعازفاً على الكمان، يعني كان في السادسة عن عمره عندما باشر علاقته الاولى بالموسيقى ومن خلالها عرف معنى العيش السعيد في مناخ من الرقي والنخبوية، الى ان سافر الى الولايات المتحدة الاميركية حيث درس قيادة الاوركسترا، والعلوم الموسيقية في جامعة كنساس وعاد بدكتوراه لم تسلم من حملة افتراءات ظالمة عليه من الاخوين فكتور سحاب والياس سحاب، شقيقي المايسترو سليم سحاب الذي طمح قبل فترة طويلة لان يعتلي كرسي رئاسة المعهد العالي للموسيقى، الكونسرفاتوار، ولم يفلح، ومع كل مناسبة كانت تثار له صحة او عدم صحة نيله شهادة الدكتوراه من الجامعة الاميركية المعروفة، ونعتقد ان غياب غلمية الان سيفتح الباب لمنافسة حامية جداً يدخل على خطها الجيل الثاني من الرحابنة، وآل سحاب، مع وجود منافس مقرب من الراحل هو العازف المعروف وليد مسلَّم، إلا اذا ذهبت الرياح في اتجاه آخر صوب فنان كبير من حجم مارسيل خليفة.غلمية الذي تتواصل فيه التعازي بكنيسة مار نقولا ـ الاشرفية ـ للروم الارثوذكس يقام له جناز يوم السبت في 11 يونيو الجاري ويوارى الثرى في مدافن العائلة ببلدة مرجعيون الجنوبية التي شهدت مسقط رأسه عام 1938، وينتظر ان يعلق على نعشه وزير الثقافة سليم وردة وساماًً من رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان تقديراً لكل اسهاماته في مجال الموسيقى، والتي لطالما رغب ان يتوجها بقصر للثقافة، ودار للاوبرا حتى لا يظل مع الاوركسترا التي استحدثها حائراً اين يتمرنون؟ واين يعزفون؟ في اي قاعة، غير الكنائس، الوحيدة التي تناسب طبيعة هندستها مع متطلبات هذا النوع من الموسيقى الخاصة والراقية والحضارية التي تنعكس توازناً نموذجياً مع العالم وما يسود فيه من مدارس فنية.صنع الكثير من الموسيقى في حياته فغنى له الكثيرون من المطربين خصوصاً فدوى عبيد (للحلوة احلالا) وجوزيف عازار وغيرهما في مهرجان بعلبك، جبيل، الارز ونهر الوفا، وصولاً الى مسرح فينيسيا الذي كان نتاج تفاهمه مع الفنان روميو لحود، وقدم موسيقى لاكثر من 35 عملاً مسرحياً اضافة الى موسيقات تصويرية لافلام كثيرة منها: بيروت يا بيروت (لمارون بغدادي عام 1975) وكفر قاسم (لبرهان علوية) واعمال اخرى لمحمد سلمان وغيره.واضافة الى تعاونه وعلى مدى عدة دورات من «استديو الفن» مع المخرج سيمون اسمر، فهو يسهم في عضوية اللجنة التنظيمية لمهرجان البستان الموسيقي، الذي اعطاه مجالاً رائعاً في آخر دوراته من خلال اطلالة الاوركسترا السيمفونية اللبنانية في ليال عدة من المهرجان الدولي.يحسب له انه اول من اشتغل على التأليف السيمفوني موقعاً 6 مقطوعات اصدرها أخيرا في مجلد واحد قال فيه انه بدعم من احد اصدقائه الذي يحب الموسيقى ويدعمها ولا يحب ان يعلق عن نفسه وهي:القادسية، المتنبي، اليرموك، الشهيد، المواكب، والقطار الاخضر (عن شعر لسليمان العيس).خسارة فنية حقيقية ليست تعوض في المدى المنظور.وصحيح ان الاوركسترا اللبنانية ستظل تحيي حفلات موسيقية مجانية اسبوعية، وان موسيقاه ستظل تسمع، لكن ماذا نفعل وقد مات وفي نفسه طموح واحد لم يتحقق: دار للاوبرا. طلب ليس مستحيلاً.