في الأسبوع الأخير من مارس الماضي، بدأت الحملة العسكرية على ليبيا. كان الهدف من المرحلة الأولى للحملة تدمير الدفاعات الجوية للقوات الموالية للعقيد معمر القذّافي من جهة ووقف زحف قواته في اتجاه بنغازي من جهة اخرى. نجحت الحملة الأولى، التي قادها الأميركيون أساساً، في «الانتهاء من سلاح الجو الليبي ومن الدفاعات الجوية وفي منع حمام دم في بنغازي». هذا على الأقلّ ما ورد في تقرير فرنسي عن الهجمات التي يشنها التحالف الغربي على ما كان يسمى «الجماهيرية».
بدأت المرحلة الثانية من الحملة العسكرية مطلع ابريل الماضي وكانت بقيادة حلف الأطلسي. خف عدد الغارات الجوية على مواقع عسكرية معيّنة وصار التركيز بدل ذلك على الأسلحة الثقيلة التي في حوزة القوات الموالية للزعيم الليبي. وابتداء من الرابع من ابريل الماضي، توقف الأميركيون عن المشاركة في الغارات الجوية، خصوصاً بعدما اختلط المقاتلون الموالون بالسكان المدنيين.
في منتصف مايو الماضي، بدأت المرحلة الثالثة من الحملة العسكرية التي جرى التمديد لها ثلاثة أشهر أخرى. لا يزال الأميركيون خارج المعركة التي تحول الفرنسيون والبريطانيون إلى رأس الحربة فيها إذ بوشر باستخدام طائرات هليكوبتر في المواجهة مع الموالين للزعيم الليبي. توسعت الحملة العسكرية التي صارت تستهدف خصوصاً مقر القذّافي في طرابلس فضلاً عن مراكز القيادة والتوجيه مع السعي في الوقت نفسه إلى منع القوات الموالية من اختراق هذه الجبهة أو تلك.
من الواضح بعد شهرين وأسبوع على بدء الحملة العسكرية الغربية على القذّافي أن الهدف الوحيد الذي تحقق يتمثل في تقسيم ليبيا إلى كيانين عاصمة الأوّل طرابلس والآخر بنغازي. السؤال إلى متى يستمر الوضع الراهن؟ بكلام آخر، هل يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية؟
الثابت أن الأميركيين أثبتوا أنهم القوة الوحيدة القادرة على ازاحة القذّافي بالقوة. تبين أن الولايات المتحدة، بما تملكه من قوة نارية وتكنولوجيا متقدمة، هي الطرف الوحيد القادر على الخروج من الطريق المسدود الذي بلغته الحملة العسكرية على ليبيا. هل هناك من ينوي اتخاذ قرار في هذا الشأن، أي كسر الحلقة المغلقة في المستقبل القريب، أم أن الهدف الحقيقي من الحملة العسكرية، التي تبدو وكأنها فقدت زخمها، إدامة الوضع الراهن بضعة اشهر يستنزف خلالها النظام الليبي بهدوء على حساب الليبيين؟
في كل الأحوال، سقط النظام الليبي عملياً مع بداية الثورة الشعبية في السابع عشر من فبراير الماضي. أثبت الليبيون ابتداء من ذلك اليوم أنهم يرفضون «الجماهيرية» وأنهم ما زالوا متمسكين بالصيغة القديمة، أي بالنظام الذي كان معمولاً به قبل أول سبتمبر 1969. فعلى الرغم من مرور أربعة عقود وعامين على سقوط النظام الملكي، يتذكّر الليبيون أنهم ما زالوا يطمحون إلى العيش في ظلّ دولة القانون بعيداً عن أي نوع من المغامرات، لا في الداخل ولا في الخارج. بكلمات بسيطة، لم يستطع العقيد القذّافي تغيير طبيعة المجتمع الليبي في العمق. بقي الليبيون ليبيين وهم يتذكرون أن آخر يوم أبيض في حياتهم كان اليوم الأخير من العهد الملكي بحسناته وسيئاته. كانت ليبيا على الأقلّ دولة طبيعية تدرك حدودها ليست لديها أي طموحات من أي نوع كان لا على صعيد تحقيق الوحدة العربية بالقوة في مرحلة ما ولا على صعيد الانتقال فجأة من الدعوة إلى الوحدة... إلى تشجيع اداة جزائرية مثل جبهة «بوليساريو» على النيل من وحدة التراب المغربي!
ما نشهده اليوم هو مرحلة انتظار. بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة، في أبعد تقدير، سيقرر بعدها الأميركيون ما الذي سيفعلونه بليبيا. بين الخيارات تكريس الوضع الراهن مع ما يعنيه ذلك من تقسيم للبلد. الأكيد أن أموراً كثيرة تعتمد على ظهور شخصيات قوية لديها مشروعها السياسي المقبول من المجتمع الدولي تاخذ على عاتقها اتمام المرحلة الانتقالية بأقل مقدار ممكن من الأضرار. هل بين الشخصيات التي يضمها المجلس الوطني الانتقالي من هو قادر على قيادة المرحلة الانتقالية؟ ثمة من يقول ان هذه االشخصيات موجودة وثمة من يعتقد أن البحث لا يزال جارياً عن مثل هذا النوع من الشخصيات القادرة على الجمع بين طرابلس وبنغازي وبناء دولة عصرية...
يتبين يوماً بعد يوم أنه سيكون من الصعب التخلص نهائياً من نظام معمّر القذّافي من دون القوة الأميركية. وهذا يطرح سؤالاً في غاية الأهمية هو الآتي: هل الأميركيون على استعداد لإرسال عدد كبير من الطائرات إلى قواعد قريبة من ليبيا لمعاودة قصف مواقع معيّنة، هل هم على استعداد لمثل هذا القصف تمهيدا للقيام بعملية انزال تشمل طرابلس نفسها والمناطق المحيطة بها، أي القيام بميني-حرب على الطريقة العراقية؟
لعلّ اسوأ ما في الأحداث التي تمرّ بها ليبيا أن الأميركيين لا يمتلكون بديلاً جاهزاً من نظام معمّر القذّافي. استغلوا هم والأوروبيون فرصة الاضطرابات التي شهدتها مدن عدة بينها طرابلس وبنغازي للانقضاض على «الجماهيرية» آخذين في الاعتبار أنها مرفوضة من الليبيين.
ما يمكن قوله أن أخطر ما في الأمر هو القدرة الأميركية على الانتظار من دون أخذ في الاعتبار للعذابات التي يعاني منها الشعب الليبي. هذه القدرة على الانتظار يمكن أن تدفع بواشنطن إلى الاستسلام للأمر الواقع والقبول بالتقسيم، على أن يتكفل الوقت باستنزاف القذّافي ونظامه. من قال إن الإدارة الأميركية تقدّم الديموقراطية وحريات الشعوب على مصالحها؟
خيرالله خيرالله
كاتب لبناني مقيم في لندن