مها بدر الدين / الحوار السوري في المقبرة

تصغير
تكبير
كل يوم يزداد فتيل الثورة السورية اشتعالاً، وتزداد معه تصريحات المسؤولين السوريين استفزازاً وتضارباً بين القول والفعل، ففي الوقت الذي تؤكد فيه المستشارة بثينة شعبان إصدار أوامر رئاسية حازمة بوقف إطلاق النار على المواطنين يكتشف فيه أهالي درعا مقبرة جماعية لعدد كبير من أحبائهم وأهلهم الذين استشهدوا برصاص الأمن السوري ودفنوا سراً في أحد تلال المدينة، وبينما يشكل رئيس النظام لجنة حوار لبدء التحاور مع المعارضة، يُسمع في تلكلخ أزيز الرصاص العشوائي على الأهالي وقصف دبابات الجيش لبيوت المدينة السكنية فتقتل من تقتل وتجرح من تجرح وتشرد من تشرد.

وتتزامن تصريحات القريب الحبيب للنظام السوري رامي مخلوف حول أمن إسرائيل المرتبط بالأمن على الجانب السوري، مع الوصول المفاجئ لمئات من الشباب السوريين واللاجئين الفلسطينين إلى الجولان المحتل والهادئ منذ أربعين عاماً من عمر الممانعة والمقاومة، وهو ما يعتبر رسالة سيئة الصيغة يبعث بها النظام المتمرس بالسيناريوهات السياسية الركيكة إلى الولايات المتحدة الأميركية مفادها أنه حامي حمى الديار الإسرائيلية وأن بمقدوره أن يفتح حدود الجبهة الآمنة عندما يستشعر الخطر الأميركي على كيانه ويخترق أمن ربيبتها إسرائيل إذا حاولت الضغط السياسي على النظام، ومن جهة أخرى يحاول هذا النظام المتخلف إعلامياً وديبلوماسياً إبعاد أنظار الرأي العام العالمي عما يحدث في الأراضي السورية من انتهاكات إنسانية خطيرة وتحويلها إلى ما يحدث في إسرائيل.

وبينما تحاول المستشارة شعبان بصفتها عضواً في لجنة الحوار بدء التحاور مع بعض الشخصيات المعارضة المعروفة للشارع السوري نجد أن هؤلاء يسارعون إلى التأكيد بأنهم لا يمثلون سوى أنفسهم وآرائهم وأن الشباب السوري الثائر لم يفوضهم بالتحاور نيابة عنهم ما يجعل هذا الحوار الوطني المزمع إجراؤه يبدأ بعزف منفرد طويل وممل، مع معارضة متناثرة هنا وهناك تحتاج إلى أجواء من الحرية السياسية لتتمكن من تنظيم نفسها تحت لواء واحد وهو ما يصعب توافره حالياً في ظل الممارسات القمعية الأمنية المتزايدة لفرض العبودية على الشعب السوري.

كما يحيط الشك والريبة الكثير من السوريين حول قدرة أعضاء لجنة الحوار مع المعارضة على استحواذ ثقة الشارع السوري لارتباط هذه الشخصيات ارتباطاً وثيقاً بالنظام الحالي وسياسته، فالسيد فاروق الشرع خدم النظام منذ أعوام طويلة وبإخلاص شديد منعه من تسجيل أي موقف معارض لقصف مدينته درعا فلم يبد أي احتجاج على قتل أهله وعشيرته وأبناء مدينته مما أفقده الاحترام والمصداقية بعد أن كان ينتظر منه على الأقل تقديم استقالته والبعد عن العمل السياسي الدنيء الذي استهدف أولاً مسقط رأسه.

أما المستشارة الإعلامية بثينة شعبان فليست بأكثر قبولاً من السوريين بعد أن احترقت أوراقها منذ الأيام الأولى للاحتجاجات عندما باعت الوهم الإصلاحي لملايين السوريين وسوقت لهم سورية الجديدة الإصلاحية بحزمة من القرارات الزائفة التي نفذ عكسها تماماً على أرض الواقع، وسقطت ورقة التوت الأخيرة عنها بتصريحها المريب عن أن سورية قد اجتازت المرحلة الصعبة في أزمتها وهو ما نحاول حتى الآن تفسيره وربطه بالأحداث الدموية الجارية في الكثير من المدن السورية حالياً من جهة وبمواقف بعض الدول الغربية المتباطئة والمتواطئة من جهة أخرى، وهو ما يوحي بإمكانية وجود صفقات دولية تجري وراء الكواليس لإطلاق يد النظام وأجهزته الأمنية في سورية.

ويعتبر التاريخ المخابراتي للواء محمد ناصيف كونه كان من قادة أجهزة الأمن الجبابرة حتى زمن قريب، حجر عثرة في إضفاء حسن النوايا على الحوار مع المعارضة، فللرجل نقاط سوداء في الذاكرة السورية لايمكن إغفالها عند الجلوس معه على طاولة واحدة يفترض أن تفرش عليها الأوراق بكل حرية وجرأة وتجرد، ولا تقل السيدة نجاح العطار عنه قهراً ثقافياً ذاقته الثقافة السورية والمثقفون السوريون على يديها منذ توليها منصب وزارة الثقافة لمدة أربع وعشرين عاماً لم تزد خلالها ثقافتنا السورية إلا ذبولاً وهي التي كانت يوماً منبعاً ومنارة وزهرة عبقة تنشر شذاها على كل البلاد الناطقة بالضاد.

ان هذه التشكيلة الفريدة والمتأصلة بالعمل في أروقة النظام الحالي وبلاطه الملوث بدماء الشهداء لن تتمكن من إدارة الحوار مع المعارضة السورية التي فقدت الثقة بأركان النظام من قمة هرمه إلى قاعدته، ولن تستطيع بدء الحوار الإصلاحي والمتحضر والمتطلع إلى مستقبل أفضل في ظل الممارسات القمعية المستمرة من أجهزة النظام الأمنية للمحتجين السلميين، ولن تقدر أن تبني حواراً وطنياً فعالاً وفاعلاً على أرضية تخوينية وتخريبية تطلق فيها التهم جزافاً على الناس الأبرياء ويتستر على القتلة تحت مسميات مختلقة وكاذبة ومفضوحة، في حين كان الأجدر بالنظام لو صدقت نواياه تجاه الحل السلمي وفتح باب التعرف على الآخر أن يختار شخصيات مقبولة نسبياً في ساحات الاحتجاج ليهدأ المواطن السوري ويطمئن قلبه لمساعي النظام الجادة للإصلاح، كما كان عليه أن يخلق المناخ السياسي الصحي والآمن ليشجع المعارضين على تقديم أوراقهم وتطلعاتهم ووجهات نظرهم باطمئنان نفسي على النفس والروح والأهل، فلا يمكن للحوار أن يكون حراً وجدياً ومجدياً تحت سماء يغطيها دخان الدبابات والمدرعات وعلى أرض امتلأت بقاعها بالمعتقلات.

والأهم أن هذه اللجنة المنوط بها وضع النقط على الحروف لن تسطيع أبداً أن تحدد النقطة الأولى التي سينطلق منها الحوار الوطني، هل ستكون البداية من لحظة الصفر قبل سقوط أول قطرة دم من دماء شهداء الحرية من الشعب السوري، أم أنها بعد اكتشاف المقبرة الجماعية في درعا، التي قد تكون واحدة من مقابر أخرى في المناطق التي تم استهدفها بالقصف ولعل ما خفي كان أعظم؟



مها بدر الدين

كاتبة سورية

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي