«الراي» في وادي خالد بن الوليد... قبالة «جسر» خليل حاوي وعلى مرمى العين من الواقع «الصادم»
شهادات لنازحين من تلكلخ عن عمليات تطهير الـ 02 لـ 04

إلى وادي خالد والوقائع الصادمة (تصوير: جوزف نخلة)

الجيش اللبناني وشريطه الشائك وخلفهما... العريضة السورية

نازحون في انتظار من... ينزحون

عائلة نزحت للتو

نازحون يعبرون النهر بين سورية ولبنان







| بيروت ـ من وسام أبو حرفوش |
... قبل ايام، في ذكرى النكبة، أخذ لبنان كـ «الماء» شكل اللحظة التي وضع فيها، فصار في لحظة «الوطن المنكوب» من رأسه حتى اخمص قدميه. نكبة في عموم البلاد من شرقها الى غربها، نكبة في الجنوب ونكبة لا تقلّ ايلاماً في الشمال.
نكبة الداخل خرجت من الكواليس على شكل التسليم بـ «كوابيس» الفراغ الملغوم المرشح للاستمرار الى اجل غير مسمى. فتحالف «السلطة الجديدة» لن يشكل الحكومة ولن يعلن عجزه، رغم الشكوك المتبادلة بين اطرافه وتراشقها باتهامات المخادعة والبلطجة والجنون والتشبيح.
نكبة الجنوب، 11 ضحية في مارون الراس تواطأ على اغتيال «حلمها الثوري» بتخطي «الخطوط الحمر»، العدو المتغطرس وساعي البريد. عدو تمرس على سفك الدماء 63 عاماً، وساعي بريد ارادها رسالة على عجل حبرها غير السري «استقرار اسرائيل من استقرار سورية».
نكبة الشمال، قتلى يعبرون الجسر والفجر ونازحون يفرون من الجور عبر النهر، لاجئون من سورية الى الجوار في وادي خالد اللبنانية. تقارير عن احداث مرعبة في تلكلخ على المقلب الآخر وصور لاطفال ونسوة ومواد اغاثة واشرطة شائكة ووجوه غاضبة.
الى اي نكبة نتجه؟
الى تخوم فلسطين، النكبة «المحروسة» بجيوشٍ ادارت ظهرها وانظمة استولت على علمها ومقاومات «خصخصت» قضيتها وايديولوجيات جعلتها جعبة «علاقات عامة»، فصارت النكبة... نكبات.
الى الداخل اللبناني المسكون بـ «الفوضى المنظمة» والمحكوم بخواء يوحي وكأنه على فوهة «شر مستطير» تتطاير شظاياه من كل حدب وصوب، من السياسة الى لا سياسة فيها، ومن الامن غير آلامن.
الى تخوم سورية «المقلوبة» رأساً على عقب وحكايا «الحمام الزاجل» عن الشعب المصاب بـ «صرعة» التغيير والنظام المصاب بـ «صداع» لا شفاء منه، وما بينهما من صراع صعب و«صاعق» ايضاً.
ببساطة اخترنا الذهاب شمالاً الى حافة النهر الجنوبي الكبير، الى «النكبة المستجدة» هناك في البعيد ـ القريب على الحدود اللبنانية ـ السوري المرسومة من دون ترسيم فوق جغرافيا يقلقها التاريخ ويجعلها الحاضر مجرد ممرات سرية يحكمها القنص ويتسلل منها نازحون وأخبار غير سارة.
ثلاث ساعات ونصف الساعة امضيناها لعبور 160 كليومتراً من بيروت الى الحدود الشمالية مع سورية. تركنا بيروت المصابة بـ «انفصام» لوقوف نصفها مع النظام ونصفها الاخر مع شعبه وتوّجهنا الى وادي خالد مروراً بطرابلس، صعوداً نحو شريط من البلدات التي يشبه تنوعها لبنان «الفكرة والمختبر»... سنية، مارونية، علوية وارثوذكسية، غالباً ما نأت بنفسها عن مكائد الحروب الا عندما كان يتم «استيرادها» عنوة على غرار حرب «المئة يوم» في مخيم نهر البارد الفلسطيني على تخوم طرابلس.
عندما يطل المرء على وادي خالد يفاجأ بال «لا مفاجآت». منطقة ككل الاطراف، علامتها الفارقة البؤس والحرمان، فهي تقع في اقاصي شمال لبنان الشرقي، تبعد عن البحر 45 كليومتراً وتعلوه بين 400 و 700 متر، تحوطها سورية من الشرق والشمال والغرب، اما عدد سكانها فيقدر بنحو 75 الف نسمة، وما زالت الاسرة التي يراوح عدد افرادها ما بين 5 و10 اشخاص تشكل نواة متراصة نتيجة الطابع البدوي لسكان المنطقة. فجلهم من العشائر العربية الضاربة جذورها في السعودية والعراق والبحرين واليمن وسورية.
نشق طريقنا على الشريط الحدودي في هذه المنطقة التي غالباً ما ادار لبنان ظهره لها ولم يمنح سكانها الجنسية الا في العام 1993 وقبل ان نصل «الميدان الساخن» عند جسر البقيعة، شريان العبور من سورية واليها، يرتسم في الافق البعيد خيط دخان يتصاعد من تلكلخ وكأنه يؤشر الى طرف رواية صادمة عن احداث تدور خلف الصمت هناك، تقضّ مضاجعه اصوات تشبه القصف احياناً وازيز الرصاص حيناً.
وكلما اقترب المرء من مشتى حمود، الطرف اللبناني على مرمى العين من تلكلخ السورية و«اخواتها»، صار المشهد «الحدودي» اكثر وضوحاً... زحمة ناس وعدسات وسيارات اسعاف ومعدات تلفزيونية للنقل المباشر، نازحون يتجمهرون كأنهم على موعد مع المزيد من «الفارين»، وعسكر لبناني بثيابهم المرقطة والاليات، وشبان من المنطقة و«وجهاء» يهتمون بايواء اللاجئين وتوزيعهم على بيوتات في القرى المجاورة، ومخاتير ونشطاء يسعون لتأمين مواد اغاثة بعدما تأكد الجميع ان اقامة «الجالية» السورية ستطول.
على «الشاشة» في بيروت كنا نشاهد وجوهاً تعبر مسرعة من امام الكاميرات بعد اجتيازها الجسر «صورة من دون صوت» مع تجنب النازحين الكلام المباح، لكن في اللحظة التي ترجلنا في اتجاه جمهرة من الشبان السوريين بداوا كمن انفجر غضبه المكتوم دفعة واحدة ومن دون «روتوش»... عرضٌ لما حل بهم في تلكلخ بنبرة عالية من التحدي من دون خشية وكأنهم «قطعوا» خط الرجعة، حتى ان بعض «المعنيين» في المنطقة من اللبنانيين حتى الحرصاء عملوا على تهدئة روعهم وحضهم على «الرقابة الذاتية» تفادياً للاسوأ.
رواية واحدة بألسنة عدة تسمعها عن «فواجع» تلكلخ، تلك المدينة الواقعة في نطاق محافظة حمص وتبعد عن حمص المدينة 45 كليومتراً، وتتميّز بموقعها الاستراتيجي المهم بين جبال اللاذقية وجبال لبنان الغربية لإمساكها بـ «فتحة» حمص ـ طرابلس. فتلكلخ التي اكتسبت شهرتها من نبتة الكلخ وتفاخر بخيولها العربية، هي الان على كل شفة ولسان بعدما دهمتها الاضطرابات ونزح نحو خمسة آلاف من اهلها الى الجوار اللبناني.
ابن الـ 13 عاماً، الكهل، المرأة المسنة، الشباب وما تيسر من الرجال يتداولون بـ «رواية واحدة» عن عمليات قمع تعرضوا لها، يقولون انها تشبه «الابادة»... دبابات ورجال امن و«شبيحة» ومرتزقة وعسكر اقتحموا المدينة، دمروا بيوتاً وقتلوا ونكلوا وخطفوا وعطلوا الحياة في تلكلخ التي تحولت مسرح عمليات على مدى ايام، بحسب النازحين الذين فقدوا اقارب ولم يطمئنوا على اخرين بعدما فروا للنجاة بأرواحهم.
رغم الكثير من الاخذ والرد، يصعب على «المحايد» فحص الرواية التي سرعان ما تبدو وكأنها حقيقة لكثرة سماعها من اولئك الغاضبين الذين كسروا الصمت ومعه جدار الخوف، وصاروا يتزاحمون على كلام لم يخل من التهور في رأي لبنانيين جاؤوا لعونهم، ربما لان الجمرة لا تحرق الا مكانها، فـ «حرقة القلب» كانت بادية لا سيما على وجوه بعض النسوة اللواتي لم يتح لهن الاطمئنان على من بقي من اولادهن في «الداخل».
كأنك امام «افلام رعب» وانت تسمع عن جرحى ينزفون في الشارع حتى الموت تحت «لا رحمة» القناصة، وعن ذبح وتدمير المرافق الحيوية كالفرن الآلي وخزان المياه ومحطة المحروقات، عن تشتيت للعائلات التي «اختفى» بعضها وفر بعضها الاخر، غير ان الاكثر رعباً هو تظهير الطابع المذهبي لما يجري داخل تلكلخ من خلال كلام عن «ان السنة يتعرضون لما هو اكثر من القتل على ايدي العلويين».
ووسط «هرج ومرج» الشهادات عن واقع يصعب التأكد منه نتيجة انقطاع الاتصالات على انواعها مع تلكلخ، يحاول المرء ان يصم اذنية قليلاً عن «هول» الكلام، فيطلق العنان لـ «العين» تحدق بعيداً في التاريخ والجغرافيا، فتكر السبحة من خالد بن الوليد الذي «مر من هنا» فأخذ الوادي اسمه، الى الشاعر خليل حاوي الذي انتحروه يوم اطلق رصاصة على رأسه وهو ينظم قصيدة «الجسر» ويقول:
«يعبرون الجسر في الصبح خفافاً (...) من كهوف الشرق من مستنقع الشرق الى الشرق الجديد».
ها هو الجسر، وها هم العشرات من النازحين السوريين في وادي خالد (بن الوليد) ينتظرون وقوفاً وعيونهم مسمرة على الطرف الاخر من الحدود، يراقبون الجسر ملياً وبلهفة... لا ندري ما اذا كان هذا الجسر يقود الى «الشرق الجديد»، فما نسمعه ربما يوحي باننا نخرج من «مستنقع الشرق» الى... «مستنقع جديد» اقله نتيجة «الكلام المأسوي» عن ابعاد مذهبية لما تتعرض له تلكلخ، التي قالت تقارير الحقوقيين انه احصي سقوط نحو 30 في غضون ايام قليلة من احداثها.
الاحاديث عن النازحين من تلكلخ تنطوي على الكثير من «المفاجآت» منها ان «القلوب المليانة» التي انفجرت اليوم هي «بنت» احداث تعود لنحو عام ونصف العام مع اعتقالات شملت العديد من اهالي المدينة، التي يجري تصويرها وكأنها «جزيرة» سنية في محيط علوي، وسط اتهامات من النظام بانها تؤسس لـ «امارة اسلامية» ودفوع اكثر من شكلية من الاهالي الذين يصرون على ان الحملات ذات ابعاد مذهبية.
شاب اربعيني يشبه «شهود العيان»، قال ان اسمه احمد، روى «ان الشبيحة قتلوا عائلتين بينهم اطفال»، مشيراً الى ان «الجرحى غالباً ما يموتون في الشارع لان احداً لا يجرؤ على الاقتراب لانقاذهم نتيجة رصاص القنص».
«اسمعوا... اسمعوا»، قال احمد وهو يلفت انتباهنا الى اصوات رشقات من الرصاص في المقلب الاخر من الحدود، ويمضي بالكلام: «سمعنا اشاعات كثيرة عن ان النظام بدأ بتسليح العلويين من اتباعه مع بدء احداث مصر وليبيا، ولم نكن نصدّق الى ان شاهدنا بأم العين (...)».
الشبيحة، وهم الاسم الحركي لمسلحين موالين للنظام في سورية، يشكلون، بحسب ابو عماد، احد النازحين من تلكلخ، «رأس الحربة في الهجوم على مدينتنا، يدعمهم «الامن» والشرطة ووحدات من الجيش على رأسها ضباط موالون للنظام». وهو يلاحظ «كيف فر بعض الجنود الذين رفضوا الامتثال للاوامر بفتح النار على الاهالي» ويذكر ان ضابطاً من الشرطة قتل على يد الشبيحة يدعى علاء للسبب عينه، زاعماً ان «بعض البيوت في تلكلخ دمرت بقصف من الدبابات، من بينها بيتنا».
ولانه لا يمكن التأكد من صحة هذه الروايات سألنا عن اشرطة وصور كتلك التي تبث على المواقع الالكترونية، فكان الجواب «ان احداً لا يستطيع التحرك مع انتشار القناصة، وبالكاد تمكنا من الافلات بأرواحنا، وبعض العائلات لم يتح لها انتظار افرادها للفرار الى هنا خشية الموت».
كلام يحتاج الى «تدقيق» تماماً كما الرواية «غير المقنعة» عن وجود ما وصفه جمال بـ «المرتزقة» الى جانب قوات الامن السورية. فهو قال ان عناصر من «حزب الله» وايرانيين يشاركون في «العمليات» ضد الاهالي في تلكلخ، موضحاً انهم يرتدون ثياباً أسود وعلى اذرعهم شارات حمراء واخرى بيضاء.
نسأل جمال، الرجل الخمسيني: «هل يحتاج الجيش السوري ومعه الامن العسكري والامن السياسي والشرطة ومن تصفونهم بالشبيحة الى «مؤازرة» عناصر «حزب الله» والايرانيين؟ الا تعتقد انهم «بِكفوا ويِوّفوا» بحسب ما يقال: فيرد «انهم مشغولون في اكثر من منطقة، في درعا وحمص وبانياس وريف دمشق وفي امكنة اخرى كثيرة».
وفي «مداخلة» لا تخلو من السياسة اردف جمال قائلاً: «نحن نتوجه لـ (الامين العام لحزب الله السيد حسن) نصرالله ونسأله هل الحلال في البحرين حرام في سورية؟ نحن في تلكلخ فتحنا بيوتنا وقلوبنا لاخواننا اللبنانيين ابان حرب يوليو 2006، ولم نميز بين سني وشيعي، فهل من الوفاء ان يرد علينا «حزب الله» بهذه الطريقة؟».
يمضي جمال وشأنه ويأتي ابو عبده وفي «وجهه حكي»، لا ينتظر ان نسأله عن «الاحوال» ويقول: «لي سبعة اشقاء في السجن منذ عام ونصف العام ولا ادري ما مصيرهم، واربعة اشقاء اخرين لي كانوا قتلوا سابقاً وصلتُ الى هنا وبالكاد اطمئن على مصير اولادي الثلاثة الذين لم استطع المجيء بهم، يتصلون من شرائح هاتفية لبنانية خلسة لكن انقطعت اخبارهم منذ يومين».
لماذا اشقاؤه بعضهم قتل وبعضهم في السجن ومنذ عام ونصف العام، نسأل ابو عبده، فيجيب «يومها جرّدت «الجوية» (اي المخابرات الجوية) حملات اعتقال واسعة، تخللتها عمليات بطش بعدما جعلوا من اعمال التهريب التي نقوم بها عمليات ارهاب. فنحن ومنذ زمن بعيد نداوي حرماننا من الوظائف لاسباب مذهبية بالاتكال على تهريب المازوت والدخان وسلع اخرى من شمال لبنان».
وفاجأنا ابو عبده، وهو يمضي في الحديث عن احداث مرت بالكشف عن انحاء من جسده لنشاهد اثار ثلاث رصاصات اصيب بها «يتهموننا بالسلفية لتهجيرنا. اعتقلوا اشهر طبيب جراح يدعى ناصر مرعي قبل عام ونصف العام واطلقوه اخيراً قبل ان يعيدوا اتهامه بانه مؤسس امارة اسلامية، وهي اتهامات لم تعد تنطلي على احد».
يخرج ابو عبده من جيبه بطاقة الهوية و«يكشف» عن معادلة رقمية خطرة «ان الـ 02 يخوضون عمليات تطهير ضد الـ 04». نسأله ما المقصود بذلك فيشير الى ان رقم بطاقة الهوية الذي يبدأ بـ 04 مخصص للسنة، اما الذي يبدأ بـ 02 فمخصص للعلويين، وان عمليات الاضطهاد تمارس على الهوية».
عند هذا التوصيف المأسوي «يتوقف الكلام»، وكأننا لا نود سماع الاكثر عن وقائع لا يمكننا «فحص» ادلتها، ونقصد امرأة وصلت قبل ايام من تلكلخ، وتعرف عن نفسها بـ «ام صبحي»، لا ادري لماذا ذكرتني بـ «ام جورج»، في مسلسل بيت الحارة، ولم يمض الكثير من الوقت حتى تأكدت من «صحة انطباعاتي».
امرأة «حديدية»، قادرة على تظهير ما تريد قوله بـ «طلاقة»: «بصراحة نحن ومع بدء تحرك الشارع في سورية نظمنا اكثر من تظاهرة وكنا نردد «سلمية سلمية بدنا اسرى الجوية»، في اشارة الى المعتقلين على يد المخابرات الجوية. اليوم وبعد كل ما تعرضنا له لن نكتفي بشعار اسقاط النظام بل نطالب بمحاكمة بشار (الاسد) وماهر (الاسد) ورامي مخلوف».
ام صبحي، تبدي جرأة مفاجئة وهي تقول: «خدعنا بالرئيس الاسد، المثقف والاصلاحي بعدما سقط القناع واظهر مع الاخرين الوجه البشع... 800 شاب من تلكلخ اعتقلوا قبل اكثر من سنة خرجنا للمطالبة بهم فواجهونا بالدبابات. كنا نعيش بـ «ابو غريب» كبير، يتحدثون عن النكبة، فليذهبوا الى تلكلخ ويشاهدوا النكبة هناك، مدينة مطوقة بالدبابات، يقصفون على البيوت... هربنا والرصاص يطاردنا، لا اعلم اي شيء عن اولادي هناك».
الا تريدين العودة للمجيء بهم نسألها فترد «هربت من الموت فهل اذهب اليه. اولادي لهم الله، سلمت امرهم لله... انهم يطلقون النار على السيارات، بنت اربعة اعوام قتلت، فماذا تريدوننا ان نقول»، وتضيف: «كل ذنبنا اننا تظاهرنا مطالبين باسرنا فجاؤا بـ «كوكتيل» اجهزة الامن والشبيحة للانتقام منا وقتلنا».
تهدأ ام صبحي قليلاً قبل ان تقول: «اين اردوغان الغالي، واين الامم المتحدة؟ فليأتوا ويشاهدوا النكبة بام العين. اين الجامعة العربية ودولها... انظروا هل اوحي لكم بالسلفية، فليرسلوا لجنة تحقيق دولية، هل من نظام يقتل شعبه بهذه الطريقة؟!».
تتحدثين وكأنك لا تريدين العودة الى تلكلخ، قلنا لتلك السيدة الناقمة، فترد وبأسرع من البرق: «هم سيرحلون ونحن سنعود.. بشار وماهر ومخلوف ومعهم رستم غزالة ايضاً»، وكأنها اقحمت رستم لـ «رمزيته» اللبنانية.
ولم تنس ام صبحي شكر مضيفيها في وادي خالد «لا اعرفهم، استقبلوننا بكرم وشهامة واخوة، ونحن نعرف سوء الاوضاع الاقتصادية واوضاع الناس هنا، وما نخشاه ان تطول اقامتنا...»، ثم تضيف: «على هيئات الاغاثة الالتفاتة الى العائلات التي تستضيفنا، وطالما انكم صحيفة كويتية فإننا نناشد القيمين على اسطول الحرية الذين لم يسمح لهم بالوصول الى درعا ان يقصد وادي خالد لاغاثة النازحين هنا».
*****
لم تكن مسافة الـ 160 كليومتراً ومعها ثلاث ساعات ونصف الساعة ذهاباً الى الوادي ومثلها في العودة، مهمة متعبة بقدر ما كانت «مقلقة» تلك الوقائع عن واقع صادم يوحي بما هو اسوأ واخطر وافدح و... أرعب.
... قبل ايام، في ذكرى النكبة، أخذ لبنان كـ «الماء» شكل اللحظة التي وضع فيها، فصار في لحظة «الوطن المنكوب» من رأسه حتى اخمص قدميه. نكبة في عموم البلاد من شرقها الى غربها، نكبة في الجنوب ونكبة لا تقلّ ايلاماً في الشمال.
نكبة الداخل خرجت من الكواليس على شكل التسليم بـ «كوابيس» الفراغ الملغوم المرشح للاستمرار الى اجل غير مسمى. فتحالف «السلطة الجديدة» لن يشكل الحكومة ولن يعلن عجزه، رغم الشكوك المتبادلة بين اطرافه وتراشقها باتهامات المخادعة والبلطجة والجنون والتشبيح.
نكبة الجنوب، 11 ضحية في مارون الراس تواطأ على اغتيال «حلمها الثوري» بتخطي «الخطوط الحمر»، العدو المتغطرس وساعي البريد. عدو تمرس على سفك الدماء 63 عاماً، وساعي بريد ارادها رسالة على عجل حبرها غير السري «استقرار اسرائيل من استقرار سورية».
نكبة الشمال، قتلى يعبرون الجسر والفجر ونازحون يفرون من الجور عبر النهر، لاجئون من سورية الى الجوار في وادي خالد اللبنانية. تقارير عن احداث مرعبة في تلكلخ على المقلب الآخر وصور لاطفال ونسوة ومواد اغاثة واشرطة شائكة ووجوه غاضبة.
الى اي نكبة نتجه؟
الى تخوم فلسطين، النكبة «المحروسة» بجيوشٍ ادارت ظهرها وانظمة استولت على علمها ومقاومات «خصخصت» قضيتها وايديولوجيات جعلتها جعبة «علاقات عامة»، فصارت النكبة... نكبات.
الى الداخل اللبناني المسكون بـ «الفوضى المنظمة» والمحكوم بخواء يوحي وكأنه على فوهة «شر مستطير» تتطاير شظاياه من كل حدب وصوب، من السياسة الى لا سياسة فيها، ومن الامن غير آلامن.
الى تخوم سورية «المقلوبة» رأساً على عقب وحكايا «الحمام الزاجل» عن الشعب المصاب بـ «صرعة» التغيير والنظام المصاب بـ «صداع» لا شفاء منه، وما بينهما من صراع صعب و«صاعق» ايضاً.
ببساطة اخترنا الذهاب شمالاً الى حافة النهر الجنوبي الكبير، الى «النكبة المستجدة» هناك في البعيد ـ القريب على الحدود اللبنانية ـ السوري المرسومة من دون ترسيم فوق جغرافيا يقلقها التاريخ ويجعلها الحاضر مجرد ممرات سرية يحكمها القنص ويتسلل منها نازحون وأخبار غير سارة.
ثلاث ساعات ونصف الساعة امضيناها لعبور 160 كليومتراً من بيروت الى الحدود الشمالية مع سورية. تركنا بيروت المصابة بـ «انفصام» لوقوف نصفها مع النظام ونصفها الاخر مع شعبه وتوّجهنا الى وادي خالد مروراً بطرابلس، صعوداً نحو شريط من البلدات التي يشبه تنوعها لبنان «الفكرة والمختبر»... سنية، مارونية، علوية وارثوذكسية، غالباً ما نأت بنفسها عن مكائد الحروب الا عندما كان يتم «استيرادها» عنوة على غرار حرب «المئة يوم» في مخيم نهر البارد الفلسطيني على تخوم طرابلس.
عندما يطل المرء على وادي خالد يفاجأ بال «لا مفاجآت». منطقة ككل الاطراف، علامتها الفارقة البؤس والحرمان، فهي تقع في اقاصي شمال لبنان الشرقي، تبعد عن البحر 45 كليومتراً وتعلوه بين 400 و 700 متر، تحوطها سورية من الشرق والشمال والغرب، اما عدد سكانها فيقدر بنحو 75 الف نسمة، وما زالت الاسرة التي يراوح عدد افرادها ما بين 5 و10 اشخاص تشكل نواة متراصة نتيجة الطابع البدوي لسكان المنطقة. فجلهم من العشائر العربية الضاربة جذورها في السعودية والعراق والبحرين واليمن وسورية.
نشق طريقنا على الشريط الحدودي في هذه المنطقة التي غالباً ما ادار لبنان ظهره لها ولم يمنح سكانها الجنسية الا في العام 1993 وقبل ان نصل «الميدان الساخن» عند جسر البقيعة، شريان العبور من سورية واليها، يرتسم في الافق البعيد خيط دخان يتصاعد من تلكلخ وكأنه يؤشر الى طرف رواية صادمة عن احداث تدور خلف الصمت هناك، تقضّ مضاجعه اصوات تشبه القصف احياناً وازيز الرصاص حيناً.
وكلما اقترب المرء من مشتى حمود، الطرف اللبناني على مرمى العين من تلكلخ السورية و«اخواتها»، صار المشهد «الحدودي» اكثر وضوحاً... زحمة ناس وعدسات وسيارات اسعاف ومعدات تلفزيونية للنقل المباشر، نازحون يتجمهرون كأنهم على موعد مع المزيد من «الفارين»، وعسكر لبناني بثيابهم المرقطة والاليات، وشبان من المنطقة و«وجهاء» يهتمون بايواء اللاجئين وتوزيعهم على بيوتات في القرى المجاورة، ومخاتير ونشطاء يسعون لتأمين مواد اغاثة بعدما تأكد الجميع ان اقامة «الجالية» السورية ستطول.
على «الشاشة» في بيروت كنا نشاهد وجوهاً تعبر مسرعة من امام الكاميرات بعد اجتيازها الجسر «صورة من دون صوت» مع تجنب النازحين الكلام المباح، لكن في اللحظة التي ترجلنا في اتجاه جمهرة من الشبان السوريين بداوا كمن انفجر غضبه المكتوم دفعة واحدة ومن دون «روتوش»... عرضٌ لما حل بهم في تلكلخ بنبرة عالية من التحدي من دون خشية وكأنهم «قطعوا» خط الرجعة، حتى ان بعض «المعنيين» في المنطقة من اللبنانيين حتى الحرصاء عملوا على تهدئة روعهم وحضهم على «الرقابة الذاتية» تفادياً للاسوأ.
رواية واحدة بألسنة عدة تسمعها عن «فواجع» تلكلخ، تلك المدينة الواقعة في نطاق محافظة حمص وتبعد عن حمص المدينة 45 كليومتراً، وتتميّز بموقعها الاستراتيجي المهم بين جبال اللاذقية وجبال لبنان الغربية لإمساكها بـ «فتحة» حمص ـ طرابلس. فتلكلخ التي اكتسبت شهرتها من نبتة الكلخ وتفاخر بخيولها العربية، هي الان على كل شفة ولسان بعدما دهمتها الاضطرابات ونزح نحو خمسة آلاف من اهلها الى الجوار اللبناني.
ابن الـ 13 عاماً، الكهل، المرأة المسنة، الشباب وما تيسر من الرجال يتداولون بـ «رواية واحدة» عن عمليات قمع تعرضوا لها، يقولون انها تشبه «الابادة»... دبابات ورجال امن و«شبيحة» ومرتزقة وعسكر اقتحموا المدينة، دمروا بيوتاً وقتلوا ونكلوا وخطفوا وعطلوا الحياة في تلكلخ التي تحولت مسرح عمليات على مدى ايام، بحسب النازحين الذين فقدوا اقارب ولم يطمئنوا على اخرين بعدما فروا للنجاة بأرواحهم.
رغم الكثير من الاخذ والرد، يصعب على «المحايد» فحص الرواية التي سرعان ما تبدو وكأنها حقيقة لكثرة سماعها من اولئك الغاضبين الذين كسروا الصمت ومعه جدار الخوف، وصاروا يتزاحمون على كلام لم يخل من التهور في رأي لبنانيين جاؤوا لعونهم، ربما لان الجمرة لا تحرق الا مكانها، فـ «حرقة القلب» كانت بادية لا سيما على وجوه بعض النسوة اللواتي لم يتح لهن الاطمئنان على من بقي من اولادهن في «الداخل».
كأنك امام «افلام رعب» وانت تسمع عن جرحى ينزفون في الشارع حتى الموت تحت «لا رحمة» القناصة، وعن ذبح وتدمير المرافق الحيوية كالفرن الآلي وخزان المياه ومحطة المحروقات، عن تشتيت للعائلات التي «اختفى» بعضها وفر بعضها الاخر، غير ان الاكثر رعباً هو تظهير الطابع المذهبي لما يجري داخل تلكلخ من خلال كلام عن «ان السنة يتعرضون لما هو اكثر من القتل على ايدي العلويين».
ووسط «هرج ومرج» الشهادات عن واقع يصعب التأكد منه نتيجة انقطاع الاتصالات على انواعها مع تلكلخ، يحاول المرء ان يصم اذنية قليلاً عن «هول» الكلام، فيطلق العنان لـ «العين» تحدق بعيداً في التاريخ والجغرافيا، فتكر السبحة من خالد بن الوليد الذي «مر من هنا» فأخذ الوادي اسمه، الى الشاعر خليل حاوي الذي انتحروه يوم اطلق رصاصة على رأسه وهو ينظم قصيدة «الجسر» ويقول:
«يعبرون الجسر في الصبح خفافاً (...) من كهوف الشرق من مستنقع الشرق الى الشرق الجديد».
ها هو الجسر، وها هم العشرات من النازحين السوريين في وادي خالد (بن الوليد) ينتظرون وقوفاً وعيونهم مسمرة على الطرف الاخر من الحدود، يراقبون الجسر ملياً وبلهفة... لا ندري ما اذا كان هذا الجسر يقود الى «الشرق الجديد»، فما نسمعه ربما يوحي باننا نخرج من «مستنقع الشرق» الى... «مستنقع جديد» اقله نتيجة «الكلام المأسوي» عن ابعاد مذهبية لما تتعرض له تلكلخ، التي قالت تقارير الحقوقيين انه احصي سقوط نحو 30 في غضون ايام قليلة من احداثها.
الاحاديث عن النازحين من تلكلخ تنطوي على الكثير من «المفاجآت» منها ان «القلوب المليانة» التي انفجرت اليوم هي «بنت» احداث تعود لنحو عام ونصف العام مع اعتقالات شملت العديد من اهالي المدينة، التي يجري تصويرها وكأنها «جزيرة» سنية في محيط علوي، وسط اتهامات من النظام بانها تؤسس لـ «امارة اسلامية» ودفوع اكثر من شكلية من الاهالي الذين يصرون على ان الحملات ذات ابعاد مذهبية.
شاب اربعيني يشبه «شهود العيان»، قال ان اسمه احمد، روى «ان الشبيحة قتلوا عائلتين بينهم اطفال»، مشيراً الى ان «الجرحى غالباً ما يموتون في الشارع لان احداً لا يجرؤ على الاقتراب لانقاذهم نتيجة رصاص القنص».
«اسمعوا... اسمعوا»، قال احمد وهو يلفت انتباهنا الى اصوات رشقات من الرصاص في المقلب الاخر من الحدود، ويمضي بالكلام: «سمعنا اشاعات كثيرة عن ان النظام بدأ بتسليح العلويين من اتباعه مع بدء احداث مصر وليبيا، ولم نكن نصدّق الى ان شاهدنا بأم العين (...)».
الشبيحة، وهم الاسم الحركي لمسلحين موالين للنظام في سورية، يشكلون، بحسب ابو عماد، احد النازحين من تلكلخ، «رأس الحربة في الهجوم على مدينتنا، يدعمهم «الامن» والشرطة ووحدات من الجيش على رأسها ضباط موالون للنظام». وهو يلاحظ «كيف فر بعض الجنود الذين رفضوا الامتثال للاوامر بفتح النار على الاهالي» ويذكر ان ضابطاً من الشرطة قتل على يد الشبيحة يدعى علاء للسبب عينه، زاعماً ان «بعض البيوت في تلكلخ دمرت بقصف من الدبابات، من بينها بيتنا».
ولانه لا يمكن التأكد من صحة هذه الروايات سألنا عن اشرطة وصور كتلك التي تبث على المواقع الالكترونية، فكان الجواب «ان احداً لا يستطيع التحرك مع انتشار القناصة، وبالكاد تمكنا من الافلات بأرواحنا، وبعض العائلات لم يتح لها انتظار افرادها للفرار الى هنا خشية الموت».
كلام يحتاج الى «تدقيق» تماماً كما الرواية «غير المقنعة» عن وجود ما وصفه جمال بـ «المرتزقة» الى جانب قوات الامن السورية. فهو قال ان عناصر من «حزب الله» وايرانيين يشاركون في «العمليات» ضد الاهالي في تلكلخ، موضحاً انهم يرتدون ثياباً أسود وعلى اذرعهم شارات حمراء واخرى بيضاء.
نسأل جمال، الرجل الخمسيني: «هل يحتاج الجيش السوري ومعه الامن العسكري والامن السياسي والشرطة ومن تصفونهم بالشبيحة الى «مؤازرة» عناصر «حزب الله» والايرانيين؟ الا تعتقد انهم «بِكفوا ويِوّفوا» بحسب ما يقال: فيرد «انهم مشغولون في اكثر من منطقة، في درعا وحمص وبانياس وريف دمشق وفي امكنة اخرى كثيرة».
وفي «مداخلة» لا تخلو من السياسة اردف جمال قائلاً: «نحن نتوجه لـ (الامين العام لحزب الله السيد حسن) نصرالله ونسأله هل الحلال في البحرين حرام في سورية؟ نحن في تلكلخ فتحنا بيوتنا وقلوبنا لاخواننا اللبنانيين ابان حرب يوليو 2006، ولم نميز بين سني وشيعي، فهل من الوفاء ان يرد علينا «حزب الله» بهذه الطريقة؟».
يمضي جمال وشأنه ويأتي ابو عبده وفي «وجهه حكي»، لا ينتظر ان نسأله عن «الاحوال» ويقول: «لي سبعة اشقاء في السجن منذ عام ونصف العام ولا ادري ما مصيرهم، واربعة اشقاء اخرين لي كانوا قتلوا سابقاً وصلتُ الى هنا وبالكاد اطمئن على مصير اولادي الثلاثة الذين لم استطع المجيء بهم، يتصلون من شرائح هاتفية لبنانية خلسة لكن انقطعت اخبارهم منذ يومين».
لماذا اشقاؤه بعضهم قتل وبعضهم في السجن ومنذ عام ونصف العام، نسأل ابو عبده، فيجيب «يومها جرّدت «الجوية» (اي المخابرات الجوية) حملات اعتقال واسعة، تخللتها عمليات بطش بعدما جعلوا من اعمال التهريب التي نقوم بها عمليات ارهاب. فنحن ومنذ زمن بعيد نداوي حرماننا من الوظائف لاسباب مذهبية بالاتكال على تهريب المازوت والدخان وسلع اخرى من شمال لبنان».
وفاجأنا ابو عبده، وهو يمضي في الحديث عن احداث مرت بالكشف عن انحاء من جسده لنشاهد اثار ثلاث رصاصات اصيب بها «يتهموننا بالسلفية لتهجيرنا. اعتقلوا اشهر طبيب جراح يدعى ناصر مرعي قبل عام ونصف العام واطلقوه اخيراً قبل ان يعيدوا اتهامه بانه مؤسس امارة اسلامية، وهي اتهامات لم تعد تنطلي على احد».
يخرج ابو عبده من جيبه بطاقة الهوية و«يكشف» عن معادلة رقمية خطرة «ان الـ 02 يخوضون عمليات تطهير ضد الـ 04». نسأله ما المقصود بذلك فيشير الى ان رقم بطاقة الهوية الذي يبدأ بـ 04 مخصص للسنة، اما الذي يبدأ بـ 02 فمخصص للعلويين، وان عمليات الاضطهاد تمارس على الهوية».
عند هذا التوصيف المأسوي «يتوقف الكلام»، وكأننا لا نود سماع الاكثر عن وقائع لا يمكننا «فحص» ادلتها، ونقصد امرأة وصلت قبل ايام من تلكلخ، وتعرف عن نفسها بـ «ام صبحي»، لا ادري لماذا ذكرتني بـ «ام جورج»، في مسلسل بيت الحارة، ولم يمض الكثير من الوقت حتى تأكدت من «صحة انطباعاتي».
امرأة «حديدية»، قادرة على تظهير ما تريد قوله بـ «طلاقة»: «بصراحة نحن ومع بدء تحرك الشارع في سورية نظمنا اكثر من تظاهرة وكنا نردد «سلمية سلمية بدنا اسرى الجوية»، في اشارة الى المعتقلين على يد المخابرات الجوية. اليوم وبعد كل ما تعرضنا له لن نكتفي بشعار اسقاط النظام بل نطالب بمحاكمة بشار (الاسد) وماهر (الاسد) ورامي مخلوف».
ام صبحي، تبدي جرأة مفاجئة وهي تقول: «خدعنا بالرئيس الاسد، المثقف والاصلاحي بعدما سقط القناع واظهر مع الاخرين الوجه البشع... 800 شاب من تلكلخ اعتقلوا قبل اكثر من سنة خرجنا للمطالبة بهم فواجهونا بالدبابات. كنا نعيش بـ «ابو غريب» كبير، يتحدثون عن النكبة، فليذهبوا الى تلكلخ ويشاهدوا النكبة هناك، مدينة مطوقة بالدبابات، يقصفون على البيوت... هربنا والرصاص يطاردنا، لا اعلم اي شيء عن اولادي هناك».
الا تريدين العودة للمجيء بهم نسألها فترد «هربت من الموت فهل اذهب اليه. اولادي لهم الله، سلمت امرهم لله... انهم يطلقون النار على السيارات، بنت اربعة اعوام قتلت، فماذا تريدوننا ان نقول»، وتضيف: «كل ذنبنا اننا تظاهرنا مطالبين باسرنا فجاؤا بـ «كوكتيل» اجهزة الامن والشبيحة للانتقام منا وقتلنا».
تهدأ ام صبحي قليلاً قبل ان تقول: «اين اردوغان الغالي، واين الامم المتحدة؟ فليأتوا ويشاهدوا النكبة بام العين. اين الجامعة العربية ودولها... انظروا هل اوحي لكم بالسلفية، فليرسلوا لجنة تحقيق دولية، هل من نظام يقتل شعبه بهذه الطريقة؟!».
تتحدثين وكأنك لا تريدين العودة الى تلكلخ، قلنا لتلك السيدة الناقمة، فترد وبأسرع من البرق: «هم سيرحلون ونحن سنعود.. بشار وماهر ومخلوف ومعهم رستم غزالة ايضاً»، وكأنها اقحمت رستم لـ «رمزيته» اللبنانية.
ولم تنس ام صبحي شكر مضيفيها في وادي خالد «لا اعرفهم، استقبلوننا بكرم وشهامة واخوة، ونحن نعرف سوء الاوضاع الاقتصادية واوضاع الناس هنا، وما نخشاه ان تطول اقامتنا...»، ثم تضيف: «على هيئات الاغاثة الالتفاتة الى العائلات التي تستضيفنا، وطالما انكم صحيفة كويتية فإننا نناشد القيمين على اسطول الحرية الذين لم يسمح لهم بالوصول الى درعا ان يقصد وادي خالد لاغاثة النازحين هنا».
*****
لم تكن مسافة الـ 160 كليومتراً ومعها ثلاث ساعات ونصف الساعة ذهاباً الى الوادي ومثلها في العودة، مهمة متعبة بقدر ما كانت «مقلقة» تلك الوقائع عن واقع صادم يوحي بما هو اسوأ واخطر وافدح و... أرعب.