مها بدر الدين / الرئيس يعيش في جلباب أبيه

تصغير
تكبير
أكثر من ثلاثين عاما مرت على مجزرة حماة المروعة التي أشرف على تخطيطها وتنفيذها الرئيس السوري السابق حافظ الأسد مستخدماً ما قدر له من القوات الخاصة وسرايا الدفاع وبعض كتائب الجيش النظامي وأجهزة الأمن السوري، فدكت المدينة بالمدفعية لسبعة وعشرين يوماً متواصلة، انتهكت خلالها الأعراض وأزهقت الأرواح وهدمت البيوت على أهلها، ومسح ثمانية وثمانون مسجداً وثلاث كنائس وروعت حماة بمجازر جماعية ما زالت ذكراها في أفئدة السوريين حتى اليوم، وراح ضحيتها أكثر من سبعين ألفاً من سكان حماة بين قتيل ومفقود ومعتقل مقابل تعقب مجموعة لا يتعدى عددهم المئتين من الأخوان المسلمين حسب تبريرات السلطة آنذاك.

وقد استعان الرئيس السابق بأخيه الأصغر رفعت الأسد صاحب المزاج الدموي وعاشق السلطة والتسلط، ومؤسس وقائد سرايا الدفاع الشرسة والفائقة الولاء والطاعة له لتنفيذ هذه الجريمة النكراء وكان له ما أراد، ليخرج بعدها للشعب السوري معتذراً عما بدر من أخيه الأرعن ونفاه بعد ذلك بأعوام إلى باريس لإحساسه بقوة شوكته وطموحه في تسلم السلطة وتخطيطه الانقلاب عليه، محملاً إياه ثروات الشعب السوري تاركاً وراءه الاقتصاد السوري على حافة الهاوية، ليؤسس لنفسه ولأولاده من بعده إمبراطورية اقتصادية لايعرف أولها من آخرها في بلاد الغرب من قوت الشعب السوري ورزقه.

ولأن الزمن في سورية تحديداً لا يمر مروراً بل يدور دوراناً، نجد أن التاريخ يعيد نفسه فيشهد أبناءنا اليوم ما شهده آباءنا البارحة، فبالأمس كانت حماة المُقْهَرة واليوم درعا الحرة التي أبت أن تدور عليها الأيام السالفة فتغرقها بظلام الماضي وظلمه، واختارت الحياة بنور المستقبل وعدله، وبادرت بسحب الزمن من يده ليمر معها من بوابة عصر الذل والخوف والاستبداد إلى فسحة عصر الكرامة والحرية وقهر الفساد.

ويبدو أن النظام السوري لقلة خبرته في التعامل مع الأزمات الداخلية الحديثة المنشأ، قد أعيته الحيلة في التعامل مع احتجاجات الشعب السوري الذي ظن أنه قد دجن خير تدجين، فلم يجد أفضل مما حصل في حماة ليعيد الكرة في درعا مستعيناً بقدرات ماهر الأسد الذي يشابه عمه في المزاج والطموح.

لم يلحظ قائد النظام أن الظرف السياسي الدولي قد تغير عالمياً منذ ثلاثين عاماً ماضية، فتعامل المجتمع الدولي مع أحداث الشرق الأوسط قد أصبح أكثر فعالية وتفاعلاً، وأن المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان على اختلاف مسمياتها قد أصبحت أكثر اهتماماً وبحثاً وتوثيقاً لكل ما يخترق هذه الحقوق، وأن عالم الاتصالات المنفتح قد أتاح تداول المعلومات والوثائق بسرعة الصوت والصورة فتنقل الأحداث مباشرة من موقعها.

كما لم يفطن إلى الفروقات الكثيرة في الظرفين الزماني والمكاني محلياً، ففي الثمانينات كان الشعب السوري حديث العهد بالنظام الأمني الذي زرع الرعب والخوف في نفوس الشباب السوري منذ أن تسلم «حزب البعث» السلطة، وعندما قصفت حماة لم تقم أي محافظة سورية أخرى بدعمها أو الاحتجاج على القمع الذي شهدته خوفا من ملاقاة المصير نفسه، وكانت جملة الاعتقالات التي شملت العديد من الناشطين والمفكرين والمثقفين كفيلة بأن تنكفئ الأحزاب على نفسها لعدم وجود دعم ووعي جماهيري لأهمية الحراك السياسي آنذاك، أما مايحدث في درعا اليوم، فقد تزامن مع انتفاضة شعبية عارمة شملت جميع المحافظات السورية وضمت مختلف طوائف وشرائح وأطياف المجتمع السوري الذي لم يطالب سوى بحقه في الحرية والكرامة والإصلاح الذي يتناسب مع متطلبات العصر الحديث، وتلقى درعا خلافاً لحماه دعماً شعبياُ من مواطني جميع المحافظات السورية، لأنها أصبحت رمزاً للحرية والثورة وساحة تحرير ترمز لسورية الحديثة، وتحولت إلى مركز وجداني يستقطب مشاعر جميع السوريين الذين أجمعوا على دخول التاريخ الحديث بقدم واحدة رفضاً للطائفية وتوحيداً للمصير وتصميماً على تطهير سورية من كل مظاهر التعسف والقمع والفساد.

كما أن الشعب السوري نفسه اليوم قد تغير، فالجيل الجديد من الشباب السوري جيل متفتح ومتطور رغم كل التعتيم والتهميش والتسخيف الثقافي والإعلامي والسياسي الذي ينتهجه «حزب البعث» بمنظماته ونقاباته واتحاداته الرديفة لغسل عقله، فقد استطاع هذا الجيل بذكائه الفطري وطموحه الجامح ورغبته بإثبات الذات والعيش بكرامة وحرية كغيره من شباب العالم المتحضر أن يتجاوز هذه الشبكة الواهية التي عفى عليها الزمن ولم تعد تصلح في عالم الاتصالات والمعلومات الحر، ولأنهم لم يعايشوا مجزرة حماة فإن الخوف لم يعشعش بقلوبهم كما عشعش بالذين من قبلهم، وكانت انتفاضتهم أكثر استبسالاً وتصميماً وإصراراً لأن واقعهم أكثر مرارةً وسوءاً وفقراً.

فهل يعقل أن يتعامل النظام السوري مع المتغييرات التاريخية الحديثة بهذا الأسلوب الأمني القمعي القديم، وهل يعقل لرئيس الجمهورية وهو المثقف والمتعلم والطبيب ومؤسس المعلوماتية وداعم الأتمتة في سورية أن يتعامل مع الشعب السوري الذي يستخدم جميع وسائل الاتصال المتقدمة والحديثة لتنظيم ثورته بهذا الأسلوب العسكري الموروث؟

لقد رفض الشباب السوريون أن يعيشوا بقفص الخوف الذي عاش به آباؤهم، فلماذا يصر سيادة الرئيس وهو الذي بيده الأمر والسلطة والقرار أن يعيش في جلباب أبيه؟





مها بدر الدين

كاتبة سورية

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي