وليد الرجيب / أصبوحة / نضيع في التفاصيل الصغيرة

تصغير
تكبير
قبل أيام وبعد محاضرتي في الجامعة الأميركية، اقتربت مني فتاة جميلة وقالت:أحمل لك سلاماً كثيراً من والدتي، ولما قرأت تساؤلاً في عيني، قالت أنا ابنة فلان، فكدت أن أحضنها بقوة، لأنها ابنة رجل من أعز الأصدقاء، وأقرب الناس إلى قلبي، ومعرفتي به تمتد منذ أيام الدراسة الجامعية، في بداية سبعينات القرن الماضي.

وكنا في شبابنا قد اقتربنا من بعضنا بسرعة وبقوة، لأننا نحمل الفكر نفسه، وكنا نكره التعصب والتخلف بكل أشكاله، كان شيعياً وأنا سني، وأصبحنا نلتقي في القاهرة بشكل يومي ولساعات طويلة، بل كنت أبيت في شقته ليالي وليالي، وكان يبيت في شقتي، وبعد التخرج كان شاهداً على زواجي، وكنت شاهداً على زواجه، على اعتبار أننا أقرب الأصدقاء إلى بعضنا.

ثم فرقتنا الحياة، نلتقي لفترة ونفترق لفترة أخرى، وأخذتنا تفاصيل الحياة، والدراسات العليا، وغرقنا في الهم الخاص، وفي الأنا الضيقة، وكبر الأبناء وأنجبوا الأحفاد، وتمضي السنون ويشيب الشعر.

وقبل أيام تحدثت إلى زوجة صديقي، فقالت لي بحسرة وشبه عتب، «وينك»، وعلمت منها أن صديقي العزيز، اكتشف فجأة أنه مصاب بالسرطان، وألح بطلب رؤيتي، وحاولت زوجته البحث عني، وتركت هاتفها في العيادة، ولكني للأسف لم أعلم بذلك، وكنت ملتهياً بأمور الحياة التافهة، قالت لي زوجة صديقي، أنه كان دائم الحديث عنك وعن ذكرياتكما، وخاصة وهو على فراش المرض، وقبل أن يتوفى بقليل.

عندها تألمت وشعرت بالذنب، فلم يكن من الناس الذين يمكن أن أنساهم، وظللت لليال مضطرب النوم، وتذكرت كيف كان إنساناً رائعاً وصديقاً مقرباً ومخلصاً، وكم كان عصامياً وإنساناً بكل معاني الكلمة، فقد نشأ في أسرة متواضعة، واضطر وقتها لترك الدراسة ليعيل والديه، وأصبح جندي إشارة (لاسلكي)، ثم أكمل دراسته في المساء، وتفوق في الثانوية العامة، وابتعث للدراسة في القاهرة، وتفوق في كلية الهندسة، ثم عاد واجتهد وتعب، حتى من الله عليه بالرزق، كان اسمه باقر بوخمسين، وكان يتميز بضحكته التي تنبع من القلب.

وتذكرت أنه في طفولتي وشبابي، كان لديّ العديد من الأصدقاء الشيعة والمسيحيين، ومن جنسيات مختلفة، فقد ربتنا الكويت وجمعتنا على حبها، فلم نكن نعرف الطائفية البغيضة، ولم نغرق في الانتماء للهوية الصغيرة، على عكس ما يحدث اليوم للأسف، ومن جميع الأطراف.

أحياناً كثيرة نضيع في التفاصيل الصغيرة، وننسى الأمور الأهم، نغرق في الأنا والهوية الأصغر، وننسى الانتماء الأكبر، وننسى معها أجمل الصداقات والذكريات، وتغرر بنا الأيام وتسرقنا، ويفلت الزمن من بين أصابعنا، وينتهي العمر.

رحم الله صديقي وأخي باقر بوخمسين، وألهم ذويه الصبر والسلوان.





وليد الرجيب

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي