رواية الزمن الحالي والشاهدة عليه

قراءة / «سكترما» لمحمد البوهي... تنبّأت بقيام «الثورة»

تصغير
تكبير
| د. أميرة سعد الشربيني * |

عندما قرأت سكترما للمرة الأولى... سألت كاتبها الروائي المصري محمد سامي البوهي في خجل عن معنى العنوان... فأجابني أن معناها الرصاصة المرتدة، تعجبت للاسم وتساءلت عن مغزاه** لكن ربما يكون التميز فيما يكتبه البوهي قد امتد أيضا للعناوين ففي روايته السابقة «أوطان بلون الفراولة» بدا العنوان جذابا ومميزا.

تجربتي مع روايته السابقة واستطاعته أن يشد انتباهي من بداية صفحته الأولى، هو ما جعلني أدخل رحاب سكترما و أنا متشوقة لما سأرى.

تعد سكترما هي العمل الخامس لمحمد سامي البوهي، بعد ثلاث مجموعات قصصية ورواية إن كنا سنقارنها بمثيلتها فإنك إن كنت قد قرأت «أوطان بلون الفراولة» ستلحظ نضج قلم الكاتب الشاب في هذا العمل عن سابقه.

منذ البداية يبدو بناء الرواية متماسكا للغاية... الرواية تدور داخل و خارج ذات بطلها «يوسف»، الذي يسرد طوال الرواية الأحداث الحالية والماضية وينتقل بين الماضي والحاضر في تعاقب متتالي مجسدا للملامح المميزة لأشخاص الرواية، وأهمها «سحر»، التي تدور حولها العقدة الروائية.

يدهشك ان عقدة «سكترما» عقدة غاية في البساطة وتوجز في أنها رغبة يوسف في الدفاع عن سحر حبيبته ضد مبادئه، التي شب عليها ومبادئ من حوله ورغبته في الزواج منها رغما عن اهله وزوجته، لكن عدم انسياق الكاتب للاستفاضة في وصف مشاعر أو تبرير مواقف أخرج هذا العمل مميزا.

في ظني يكتب البوهي من أجل الفكرة... يوظف كل شيء في سبيلها... المشاعر والأحداث... إنه يكتب الرواية من خلال الفكرة لا العكس، لذا نجد كتابته موجزة لكنها عميقة، و تشعر أنك امام عمل مكثف للغاية، صعب ان تفلت فيه مقطعا دون قراءة لأن الإطناب والإسهاب لا يرافقان قلم البوهي... على العكس هو ينتقل بك من مشهد إلى مشهد ومن حالة شعورية إلى اخرى، من دون ان يترك لك الفرصة كي تلتقط انفاسك.

في كتابة البوهي اهتمام بزخرفة الكلمة... وبجمال العبارة، هو متمكن من لغته العربية ويحب للغاية التشبيهات والاستعارات المكنية وهذا طبع يرافق ورقه من أول صفحة لآخر صفحة، قد يبدو هذا أمرا مبالغا فيه إن لم يكن البوهي مسرعا في خطى احداثه.. لكن ذلك التلاحق، الذي يشدك إليه الكاتب من اول لحظة يجعلك مرتاحا مع اللغة المزخرفة من دون إسرافعندما يختار الروائي أن يكتب روايته من خلال مونلوج ذاتي طويل... تكون تلك هي المهمة الأصعب، فهذا النوع من الكتابة يفضح وبقسوة إن كنت بالفعل قد غصت في تلك النفس وكشفت خبايا روحها ام لا... لذا فإن تلك الحالة تستلزم ما يشبه التوحد بين الروائي وبين بطل روايته، فإن شعر القارئ للحظة بإنفصالهما اهتزت نظرته للعمل... وانفصل عن البطل، يجب أن يقف بك الروائي في نفس مكان البطل ويجعلك ترى الأمور من منظوره... وفي رأيي نجح الكاتب في تلك المهمة الصعبة... فرسم ملامح ذات يوسف ببساطة... وبصورة خفيه لم أستشعر معها أثر يده قدر ما رأيت آثار يوسف في كلم لمح رسمه شخصية ضعيفة مشتتة... القوة التي يواجه بها المنطق هي قوة زائفة... رداء واهي كورقة التوت يواري بها عورة عجزه المتناهي.

في كلاشيه متكرر تبدو المرأة «سحر» هي رمز الغواية للبطل... لكن الرواية تبتعد تماما عن التكرار و التقليد لأنها رواية الزمن الحاضر... الزمان و المكان مهمان للغاية بالنسبة للبوهي... لأن تلك الرواية أصلا كتبت لإيصال فكرة حاضرة... طوال الرواية تنتقل من الماضي إلى الحاضر ومن داخل بيت يوسف إلى خارجه فقط لتصادف كل ما يجعل من تلك الرواية شاهدة على زمن ما... لم يغفل البوهي تقريبا ايا من الأحداث السياسية المعاصرة وفي أسرة يوسف ككل رسم الحياة الاجتماعية بأبعادها الراهنة.

عقدة الرواية الفكرية تدور حول «التطبيع» وهي قضية حالية بحتة... لذا اهتم الكاتب بإدخال شخوص وأحداث حقيقية لدعم غرض روايته و لبناء هيكل متماسك لها كرواية تعبر عن فكرة زمنية بالأساس.

أكثر ما أعجبني بصفة شخصية و أنا اقرأ هو تمكن الكاتب من الوصف الدقيق لمشاعر سحر كإمراة و إحترامه لوجهة نظر الآخر و سردها بنفس القوة التي سرد بها وجهة نظره هو التي لم تتبين كقارئ ملامحها حتى النهاية عندما خرج الكاتب عن حياديته أخيرا ووصف ما حدث ليوسف بالسقطة لكن حتى هذا الإنحياز يبدو خادعا للغاية إن سيق على لسان يوسف وداخل افكاره... يوسف الضعيف الذي لم يفعل كل ما فعله إلا كنوع من أنواع التمرد الأجوف والذي كان مدركا أكثر من أيا ممكن حوله عدم قناعته الشخصية بما يفعل.

لو أن الكتاب كان قد سقط في شرك الانحياز لخرجت تلك الرواية مثل خطبة طويلة مملة عن قضية التطبيع في العصر الحالي... لكنه استطاع و بجهد مبذول واضح التنقل من فكرة لآخر، من دون أن يغفل حق أي من شخوص روايته التعبير عن نفسها في كتابة البوهي «و انا هنا أقتبس من رأي الناقد» ناصر العزبي لا يوجد شخصيات مهمشة... كل شخصية تلج إلى الصفحات و تقول شيئا ما تفعل هذا لهدف ما يخدم الفكرة فكما قلت سابقا البوهي يكتب الرواية من خلال الفكرة ويوظف من اجل فكرته كل شيء.. لذا فإنك دوما تستشعر أن كل شخوصه شخوص محورية للغاية.

«سكترما» رواية غنية تحتاج صفحات لنقدها... ما عبته عليها فقط هو الإغراق في التشاؤم الذي لا يحبذه شخصي الحالم... لكني اتفهم تماما أن البوهي الذي تخطى الثلاثين بأعوام قليلة، يعبر عن جيل بأكمله يعيش في ذلك البلد وغارق في التشاؤم أيضا وأن تلك هي اللغة السائدة لزمن ربما لم يترك لمعاصريه منفذا.

هذا الزمن الذي تعلم أبناؤه النفاذ إلى الأمل من خلال قمة اليأس... قامت فيه الثورة غير المنظمة التي تنبأ بها البوهي على صفحات روايته عندما كتب.



* كاتبة وناقدة مصرية
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي