أماكن / مكان الكلاب! (5)

تصغير
تكبير
| جمال الغيطاني |

ويلاحظ الجاحظ طريقة مشي الانسان المخصي، اذ يشتد وقع رجله على الأرض، اشد من وقع الرجل السليم، ويلاحظ أن... الخصي أذكى ولكن لا ينجح أحدهم في نشاط يقتضي تركيزا طويلا، وامعان نظر، ويذكر الجاحظ أن الروم هم أول من ابتدعوا «خصي الرجال»، ويبدو في حديث الجاحظ استنكار واضح لهذه العملية غير الانسانية:

«وكل خصايا في الدنيا فأصله من الروم، والعجيب أنهم نصارى، وهم يدعون الرأفة والرحمة، ورقة القلب والكبد ما لا يدعيه أحد من جميع الأصناف، وحسبك بالخصاء مُثلة!! وحسبك بصنيع الخاصي قسوة، ولا جرم أنهم بعثوا على أنفسهم من الخصيان، من طلب الطوائل وتذكر الأحقاد، ما لم يظنوه عندهم ولا خافوه مِنْ قبلهم...».

تجربة خصي

ينقل الجاحظ مباشرة عن خصي يصف ما مرّ به، ويورد أحواله يقول: «حدثني محمد بن عباد قال: سمعته يقول... وجرى ذكر النساء ومحلهن من قلوب الرجال، حتى زعمن أن الرجل كلما كان عليهن أحرص، كان ذلك أدل على تمام الفحولة فيه، وكان أذهب اليه في الناحية التي هي في خلقته ومعناه وطبعه، اذ كان قد جعل رجلا ولم يُجعل امرأة...».

ويسترسل الجاحظ في ايراد الشهادة كاملة، ثم يتحدث عن أنواع الخصاء كلها، خصاء الانسان، خصاء الطيور، البهائم، الخيول، ثم يعود الى وصف أوصاف الخصي بدقة محلل نفسي حديث:

«ويعرض للخصي سرعة الغضب والرضا، وذلك من أخلاق الصبيان والنساء، ويعرض له حب النميمة، وضيق الصدر بما أودع عن السر، وذلك من أخلاق الصبيان والنساء، ويعرض له دون أخيه لأمه وأبيه، ودون ابن عمه وجميع رهطه، ويعرض له الصبر على الركوب، والقوة على كثر الركض حتى يجاوز في ذلك رجال الأتراك وفرسان الخوارج، ومتى دفع اليه مولاه دابته ودخل الى الصلاة، أو ليغتسل في الحمام، أو ليعود مريضا، لم يقل له أن يُجري تلك الدابة ذاهبا وجائيا، الى رجوع مولاه له...».

ثم يقول الجاحظ:

«ومن العجب، أنهم مع خروجهم من شطر طبائع الرجال، الى طبائع النساء، لا يعرض لهم التخنيث، وقد رأيت غير واحد من الأعراب مخنثا، مفككا، ومؤنثا يسيل سيلا، ورأيت عدة مجانين مخنثين، ورأيت ذلك في الزنج الأقحاح، وقد خبرني من رأى كرديا مخنثا ولم أر قط خصيا مخنثا ولا سمعت به...».

ثم ينتقل الجاحظ الى موضوعات أخرى ترتيبها كالآتي في هذا الجزء من الموسوعة»:

- لهج ملوك فارس بالصمد

- الحكمة في تخالف النزعات والميول

- خضوع النتاج المركب للطبيعة

- زعم في الزرافة

- النتاج المركب في الطيور

- زعم بعض الأعراب في الحرباء

- ولد الثعلب من الهرة الوحشية

- زعم بعض المفسرين والاخباريين في حيوان سفينة نوح

- زواج الأجناس التباينة عن الناس

- مما زعموا في الخلق المركب

- ضرورة حذف اللغة للعالم والمتكلم

ليس قصدي من ايراد محاور الفقرات المتوالية، الا ابراز طريقة الجاحظ التي تبدو تلقائية، أو خاضعة للتداعي، غير أنها تمضي وفقا لتخطيط دقيق غير ظاهر، يختفي خلف هذه التلقائية، انه يعود دائما الى الحديث عما بدأه، وهذا الحديث يتناول الانسان والحيوان، وما يتعلق بهما، أي جميع مظاهر الحياة، وهذا ما تتناوله موسوعة الحيوان».

اختلاف الميول

يفيض الجاحظ في وصف الخصيان، وأحوالهم، وكما ذكرت فان اللهجة المستنكرة لا تخفى، ويتخلل ذلك حديث مهم له عن الحكمة في اختلاف الميول والنزعات. يقول:

ولولا أن أناسا من كل جيل، وخصائص من كل أمة، يلهجون ويكلفون بتعرف معاني آخرين لدرست، ولعل كثيرا من هؤلاء يزري على أولئك، ويعجب الناس من تفرغهم لما لا يجدي، وتركهم التشاغل بما يجدي.

فالذي حبب لهذا أن يرصد عمر حمار هو الذي حبب لآخر أن يكون صيادا للأفاعي والحيات، يتتبعها ويطلبها، في كل وادٍ وموضع وجبل للترياقات، وسخَّر هذا يكون سائس الأسد والفهود والنمور، وترك من تلقاء نفسه أن يكون راعي غنم!

والذي فرق هذه الأقسام، وسخر هذه النفوس، وصرف هذه العقول، لاستخراج هذه العلوم من مدافنها، وهذه المعاني من محابيها هو الذي سخر بطليموس مع ملكه، وفلانا وفلانا للتفرغ للأمور السماوية، ولرعاية النجوم واختلاف مسير الكواكب، وكل ميسر لما خلق له، لتتم النعمة ولتكمل المعرفة».

ثم يسخر الجاحظ ليؤكد حاجة الانسان الى الآخر، وليبرز الأسس التي يقوم عليها المجتمع، وعوامل العمران والخراب، ألم يسبق في ذلك ما توصل اليه ابن خلدون بعد قرون... في حديثه عن الحيوان يبدو الجاحظ عالما خبيرا بالمجتمع الانساني، ولكن علمه يبدو أكبر عندما يتناول القضايا الفكرية الكبرى التي تتخلل حديثه عن الكلاب والخصيان.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي