تحقيق / حكين عن أوجاع مخبوءة وتواريخ سوداء مكتوبة بغدر الرجال... أبا وشقيقا وزوجا

نساء مدمنات يروين لـ «الراي» آلام «درب الخطر»... سلّمتُ جسدي الى «أخي» من أجل جرعة...هيرويين!

تصغير
تكبير
| كتبت بشاير عبدالله |

في مركزٍ لعلاج الإدمان نساء كثيرات قابعات على أسرتهن، قادتهن إليه روابط الدم أحياناً، ومواثيق الزواج أحياناً أخرى. أتين مذبوحات، فاقدات لكل ما يهم. أجسادهن تملؤها الثقوب والغرز ومواضع الحَقن، وأرواحهن ممزقة في نسيج من الآهات.

يبكين بدموع متحجرة حرقة الفقد، والخسارات الموجعة. الأسرة والأولاد والصحة والأمان والكرامة وأشياء أخرى كثيرة ذهبت ولن تعود.

ومع اختلاف قصصهن وتواريخهن الشخصية، و تواقيت سقوطهن، يجمع بينهن شيء واحد هو الرجل. ففي حياة كل منهن رجل جرها إلى ما وصلت إليه واحرق كيانها و مستقبلها بنار تعاطيه، ووصم قلبها وجسدها بآلام لا نهاية لها.

في هذا الموضوع تلقي « الراي» بقعاً من الضوء على صفحات مظلمة كتبها رجال خطاءون، وعايشتها نساء بريئات في الاصل، كل ذنبهن وجودهن في حياة رجل مدمن. تلك قصص تحكيها نساء موجوعات ليستمع إليها ضمير المجتمع والناس.

وحدة... فحب... فإدمان



تقول (س) البالغة من العمر 27 عاماً «عندما صحوت من النوم ووجدت نفسي ملقاةً على الأرض عارية بالقرب من أريكة في بيت لا أعرفه، وحولي رجال ونساء لم أميزهم، غائبون عن وعيهم، متجردون من ثيابهم وآدميتهم. علمت أنني وقعت في حضيض ماجن آخر جرني إليه سقوطي الأول المروع على فراش أخي.

كان هذا مشهداً صادماً مجتزءا من سلسلة أحداث حالكة عايشتها (س) وهي ابنة لأسرة تبدو في ظاهرها طبيعية، فلا سجل إجراميا، ولا سوابق في سوء السلوك لأي فرد منها. فما الذي جعلها اليوم متكومة على آلام روحها في ركن قصي من جناح النساء في مركز علاج الإدمان تنظر إلى من يحدثها بعينين منهكتين لاهثتين وراء الظلمة، غير قادرتين على مواجهة الضوء.

تروي (س) تفاصيل قصتها وتقول «توفي والدي منذ كنت في العاشرة من عمري، أما والدتي وهي المسؤولة عن بيتنا منذ وفاته فهي موظفة في إحدى الإدارات الحكومية، وهي امرأة متزنة وصالحة، ولكن خطأها الوحيد كان انشغالها في عملها ومع قريباتها وصديقاتها بسبب شعورها بالوحدة بعد وفاة والدي، فتركتنا بلا رعاية أو اهتمام حقيقيين».

وتضيف «كانت أوقات وجبات الطعام هي فقط ما يجمعنا أنا وأمي وشقيقي، ومع الوقت أصبح لكل منا عالمه الخاص، وفقدنا حتى هذه اللحظات من التواصل. سافر شقيقي الأكبر في بعثة ليتابع دراسته الجامعية، وبقينا أمي وأنا وأخي الأوسط الذي تغير سلوكه تدريجياً منذ مرحلة المراهقة، واصطبغ بعدائية وانعزالية واضحتين».

في السنة الجامعية الثانية، تتابع (س) «أحببت زميلاً لي، واستمر حبنا طوال ثلاث سنوات كانت الأجمل في حياتي، ثم جاءت النهاية لتدمرني كلياً. تركني بسبب رفض عائلته لارتباطنا. شعرت حينها أن قلبي انفطر، ودخلت في حالة عميقة من الاكتئاب، ولما رأتني زميلة لي على هذه الحال تقربت مني وبدأت تدعوني إلى الخروج معها لتتحسن حالتي النفسية.

كانت زميلتي هذه تعيش حياةً صاخبة مليئة بالسهر والمغامرة. عرفتني على الحبوب المخدرة التي هدأت آلامي وأسكنتها. وبعدها أعطتني ما هو(أهم) وصفته بأنه أقوى سلاح ضد الألم في الوجود. انه الهيرويين، سلاح الراحة تبدأ علاقتك به مستنشقاً لذراته البيضاء المسالمة، وتنتهي مطعوناً به في كل أنحاء جسدك وروحك».

تقول (س) «اعتدت عليه حتى أدمنته، وبعد مدة بدأت صديقتي بتقليل الكمية التي تقدمها لي في وقت بدأت أحتاجه بكميات أكبر. ثم طلبت مني بعد أن ملت اعتمادي عليها أن أجده بنفسي لأنها لم تعد قادرة على توفيره لي. وهنا بدأت رحلة السقوط الفعلي».

تضيف (س) «يوم نقصت المادة المخدرة والمهدئة في جسدي وباءت كل محاولاتي للعثور عليها بالفشل بقيت حبيسة المنزل أتلوى في أرجائه من عذاب لم أطقه، ولا أتخيل أن مخلوقاً يطيق مثله. لاحظ أخي حالتي وفهم ما يحدث لي. فالخبير كما يقولون يعرف أكثر من الطبيب».

وتكمل فصول المأساة: «اتصل بي هاتفياً وطلب مني أن آتيه في غرفته المنعزلة عن بقية المنزل كما أرادها- استغربت، إلا أنني قررت تنفيذ طلبه بعد ما قال لي كلمة لا أنساها (أدري انك تعبانة، وعندي اللي يريحك ). نزلت مندفعة بكل الألم والعجز والانكسار الذي التصق بي بعد أشهر من تعاطي الهيرويين وفي ذهني تنهمر صور وأفكار كثيرة. انعزالية أخي الشديدة في حياته معنا، وعدائيته التي يصبها على كل من يحاول الاقتراب من غرفته أو سيارته أو يطرح أي سؤال يتعلق به وبسلوكه. ترى هل هو مدمن؟ وهل يعلم حقاً ما أحتاجه وكيف يريحني؟ ».

تستطرد: «انتهى دور الأسئلة بمجرد دخولي إلى غرفته، وجدت في أنحائها ما أعرفه جيداً وان لم أجربه كله. حبوب على أنواعها، لفافات حشيش، زجاجات مشروب وغيرها. إلا أن عيني تجمدتا على مشهد كنت على استعداد أن أفقد العالم لأجله « ظرف» الهيرويين الملقى على سريره بإهمال. نظرت إلى أخي بعينين متعطشتين إلى المساعدة. وفجأة علت وجهه نظرة مخيفة وكأنه ارتدى قناعاً غير ملامحه وجعله شخصا آخر. ابتسم ابتسامة صفراء موغلة في الوحشية وقال( حبيبتي اعلم انك تتعاطين، وشفت حالتك و أنا اقدر أعطيك (الدواء) بس ماذا راح تعطيني بالمقابل؟ خرجت الكلمات من فمي متقطعة متعثرة بلهفتي وشوقي إلى (الدواء) ووعدته أن أتدبر له أمر المال الذي يريده ثمناً له، إلا أنه أجابني بكلمات زلزلت أركان روحي حيث قال: (لا حبيبتي فلوس لا أريد... أريدك أن تنامي معي ولا من شاف ولا من دري)».

تتابع :«فقدت حينها توازني وعقلي. أخي يريد أن يستغل جسدي؟ أي قلب لديه؟ بالتأكيد هو قلب ميت، وليلتها مات قلبي أيضاً، فتحت وطأة الحاجة المرعبة إلى (دوائي) وافقت وحصل كل منا على مبتغاه».

تقول (س): «بعد تلك الليلة لم أعد أنا أنا ولم تعد الحياة هي الحياة. كل شيء اختلف وكل القيم انهارت. وكله في سبيل (دوائي). عرفت طريقي الآن فالسبيل للحصول على المادة هو تقديم جسدي لمن يملكها. سرت في هذا الطريق طويلاً، حتى جاءت لحظة وقعت فيها بقبضة المباحث التي أودعتني هذا المركز لتلقي العلاج، وها أنا اليوم أمامك أروي قصتي».

نظرت إلى عينيها الممزقتين وجعاً، وسألتها «هل لديك الاستعداد لتلقي العلاج اليوم؟ فباغتتني بنظرة حارقة كافرة بكل شيء وقالت (اعلم أني سأخرج من هذا المكان لأعود للتعاطي، وأعلم أني سأموت بجرعة زائدة. هذا ما أعرفه)».

جسد ابنة 14... في «صفقة رابحة»

أما الضحية الثانية (ن) البالغة 35 عاماً فتقول «في حياة كل مدمنة رجل مجرم رجل وفي حياتي ثلاثة...أبي وأخي وزوجي».

وتسرد (ن) سبب وجودها اليوم تحت أيدي الأطباء والممرضين في مركز علاج الإدمان فتقول «نشأت في بيت بسيط يحوي عائلة مكونة من سبعة أفراد، والدي ووالدتي وخمسة أبناء. والدي عسكري تعرض لحادث أحيل بعده إلى التقاعد طبياً، وفي بداية تقاعده عرف المشروب وانجرف في تعاطي الكحول حتى أصبح مدمناً عليها. شاهدته مراراً يترنح في ركن من غرفته، ولمحته كثيراً من نافذتي يحاول بصعوبة استعادة توازنه أمام باب بيتنا في ساعة متأخرة من الليل.

وعلى خطى أبي سار أخي الأكبر، فأدمن الحشيش والكحول ثم حاول أن يستفيد من «ولعه» بالمزاج فعمل وسيطاً لترويج أنواع من المخدرات، ويبدو أنه كان سعيداً بتجارته المربحة ما فتح شهيته ليخوض نوعاً آخر من التجارة.

أقنع والدي أن يزوجني وأنا في الرابعة عشرة من عمري برجل أربعيني من زبائنه (المحترمين) كما يقول، والذي كان تاجراً ومدمناً على المشروب والمخدر.

لم يكن لي ولا لوالدتي أي رأي في قرار تزويجي. أخرجوني من مدرستي ومن بيتنا المضطرب إلى حياة زوجية أكثر اضطراباً. زوجي سكير قديم لا إحساس لديه بزمن أو بواجب أو بحاجة إلا تلك المرتبطة بالمشروب وما قد يرافقه من لحظات لهو ومجون».

تضيف « أنجبت منه ثلاثة أولاد. فالزوجة الصالحة - من وجهة نظر أمي- تأتي بالأولاد وتربيهم مهما كانت ظروف بيت الزوجية ومهما كانت شخصية وحال الزوج. والحقيقة أنه لم يكترث بهم يوماً. لم يخطط لمجيئهم كما لا يعلم عن حياتهم أو احتياجاتهم شيئاً. أنا فقط من يهتم بكل شيء ومن ضمن ذلك الاهتمام بأدوات (مزاج) زوجي ومستلزماته.

كنت أكافح لتدبير ميزانية بيتي التي أنهكها الصرف على المشروب والحشيش وغيره مما يتعاطى زوجي. استمرت حالنا هكذا لسنوات طويلة. حاول زوجي خلالها كثيراً أن يجعلني أشاركه (المزاج) وكنت أرفض ذلك بشدة وأهدده بالهروب مع أولادي إلى مكان لا يعرفه. ولأنه كان شديد الاعتماد علي في كل شيء لم يستطع أن يغامر بإجباري على التعاطي، إلى أن جاء اليوم الذي وقعت فيه بجهل وعدم إدراك في هوة المواد المخدرة. غافلني زوجي وافرغ محتويات لفافة من الحشيش في كوب شاي أعددته لنفسي، ولسوء حظي (عالجني) ذلك الكوب الملوث بالحشيش من مزاجي المضطرب، ومن الحزن الذي وصم حياتي منذ تزوجت. وبعدها بدأت أدخن سيجارة الحشيش، وان بشكل غير مستمر وفي أوقات معينة خوفاً على أولادي من أن أهملهم فتكبر بلواهم وتصبح مأساتهم مضاعفة».

تتابع (ن): «استمر بنا الحال على هذا النحو سنة كاملة كنت أدخن الحشيش في ليالي كثيرة منها، وفي نهايتها وقع ما لم يكن في الحسبان. خرجت مع زوجي مساء متجهين إلى منطقة الشاليهات بطلب منه لأنه أراد كما قال- أن يأخذ مبلغاً من المال من أحد أصدقائه قبل سفره، وكنت أقود السيارة بناء على رغبته لأنه شعر أن قيادته وهو مخمور إلى حد كبير قد تثير شكوك دوريات الأمن المنتشرة هناك. وبالفعل قدت السيارة وانطلقنا في طريقنا، وقبيل وصولنا إلى المكان المقصود توقفنا عند بقالة ونزل زوجي ليحضر شيئاً ما منها، وفي الأثناء أتت دورية للشرطة تتفقد المكان ولما رأتني واقفة بسيارتي اقتربت وبدأ أفرادها يفتشون السيارة، وبالفعل وجدوا ما لم أعلم بوجوده. كميات كبيرة مخصصة للتجارة من المشروب والحشيش موجودة في الصندوق الخلفي للسيارة. والمدهش أن زوجي حينما لاحظ ما يجري من داخل البقالة اختفى ولم يظهر وقتها مطلقاً».

وتستطرد «ألقي القبض علي وبعد فحصي وجدوا بقايا الحشيش تسكن جسدي ووجهت لي قضيتا تعاط واتجار، حكم علي بسببهما بالسجن ثم الإيداع هنا في المركز لتلقي العلاج».

وتختتم (ن) حديثها بصرخة مكتومة في قلب جملة قصيرة نطق بها لسانها ونزفت بها عيناها « طلقني زوجي وأولادي لم أرهم منذ تلك الليلة وحتى الآن لا أعلم شيئاً عنهم».

نفس ممزقة... ودم ملوث

دخلت إلى مكتب المعالج النفسي برفقة الممرضة وبخطوات متثاقلة، سيدة هزيلة البنية أحاطت بعينيها هالة سوداء وامتد السواد ليلتف مطفئا اي بريق ممكن، وليفصح عن آلام عميقة مخبوءة تحت رماد صمتها. بدت قمتا كتفيها ساقطتين في وهن واضح، وكأنها حملت فوقهما سنوات من العذاب والحزن والغضب، و ربما الخزي. جالت ببطء بعينيها الصامتتين ألماً في أرجاء المكتب، قبل أن يطلب منها المعالج النفسي أن تستريح على مقعد قبالتي أنا الزائرة الباحثة عن وجع استحق البوح به.

تقول (ع) البالغة 39 عاماً والتي وشم على ملفها ذي اللون الأصفر كتابة بلون أحمر عريض تفيد أنها مريضة بالإيدز «أنا أموت على الرغم من اكتشافي إصابتي بالمرض حديثاً، إلا أنني أموت فعلياً من الداخل. لا أعلم كم سيمهلني المرض، ولا أدري حتى إن كنت سأعيش هذه المدة كلها أو أموت قبلها بجرعة زائدة. ما أعرفه فقط أنني أتمنى في هذه اللحظة أن اقبض بيدي الاثنتين على رقبته. هو السبب».

وتبدأ (ع) بسرد قصتها فتقول: «توفي زوجي منذ ثمانية أعوام وترك لي ولدين هما كل ما لدي في هذه الدنيا. فوالدي ووالدتي متوفيان منذ زمن ولا أحد لي بعدهما. تركني زوجي بعد وفاته أرملة وأنا في عز شبابي، وترك لي ولأولادي إرثاً جيداً من المال، فقررت تكريس حياتي للاهتمام بولدي وتنشئتهما والإعداد لمستقبلهما.ولكن وبعد مرور وقت من وفاة زوجي بدأت أشعر بوحدة قاتلة تسللت إلى أنحاء نفسي وجسدي وفشلت كل محاولاتي في تشتيتها وابعادها».

تتابع: «اقترب مني في تلك الفترة رجل كان صديقاً لزوج صديقتي، التقينا في منزلها وتعارفنا هناك. لا أعلم كيف استطاع في فترة قصيرة أن يكسب ثقتي، ربما لحاجتي إلى وجود رجل إلى جانبي في تلك الفترة، وربما لقلة تجاربي في هذه الحياة. فقد انتقلت مبكراً من بيت أسرتي إلى بيت زوجي، ولم أخض تجارب مهنية أو حياتيه كثيرة. المهم أنني وقعت حينها في غرامه، واستطاع بمكر ودهاء كبيرين أن يجعل وجوده أولوية في حياتي. منحني كل ما احتجت إليه من اهتمام وحنان ودلال، فشعرت تجاهه بارتباط لم أشعر به نحو أحد في حياتي بما في ذلك زوجي».

عاطفة مزيفة... وأهداف مادية

تقول (ع): «لم أشعر أبداً أنه يريد استغلالي على أي مستوى وفي أي جانب. بدا لي أنه يحبني أكثر من أي شيء ويضع مصلحتي قبل كل شيء. طلب يدي للزواج فخشيت إن تزوجته أن احرم من ابني الاثنين. واستمرت علاقتنا بلا رابط قانوني على أمل أن نتمكن من إكمال ارتباطنا في يوم ما قريب.

استسلمت لعلاقتي به تماماً عاطفياً ومادياً كذلك، إذ كان لديه تطلعات ومشروعات لتنمية مالي ومال ولدي وأجاد التسويق لها. وبالفعل كانت أفكارا ناجحة وجيدة حركت المال الراكد في المصارف وحولته إلى أرباح حية متزايدة.

كان يتفنن في تجميل الحياة في عيني، و يهتم بكل التفاصيل الصغيرة التي تدخل البهجة إلى نفسي. ومع الوقت أصبحت ثقتي به بلا عينين، ولم أعد استطع رفض أي رأي له. عرّفني على الكحول التي تضمن أجواءنا الرومانسية، ثم سيجارة الحشيش وقد كانت إحدى مقترحاته للعلو بالمزاج. وبعدها قدم إلي الهيرويين بحجة أنه يريد لأعصابي أن ترتاح وأن يزول عني قلقي على ولدّي وعلى علاقتنا من الأخطار التي تتهددها. منذ المرة الأولى التي تعاطيت فيها الهيرويين انزلقت قدمي إلى هاوية لا عودة عنها. أصبحت له الأولوية في حياتي. أهملت أولادي ومالهم، وتسلم هو زمام كل شيء واستولى على مالنا وتجارتنا».

تضيف «علم أهل زوجي بما يجري وأقاموا دعاوى لإسقاط حضانتي لولدي وكسبوها. وخلال كل ما حدث لم يكن يهمني إلا أن أجد جرعتي اليومية من الهيرويين. ألقى بي الرجل الذي أحببته إلى الشارع بعد أن جردني من كل شيء. دخلت إلى عوالم المدمنين، وسقطت في بحرهم المليء بالقذارة، وبحقن التعاطي الملطخة بدمائهم الملوثة. فقدت كل شيء، ولما غبت عن الوعي في آخر مرة بعد أن تعاطيت جرعة زائدة، صحوت فوجدت نفسي في قبضة المباحث الذين أتوا بي إلى هذا المكان وعلمت بعد فحصي أنني مريضة بالإيدز».

وتنهي (ع) قصتها قائلة: «قتلني ذلك الـ (... ) ولن يكون قتله كافياً لأنتقم منه».



مؤلمة... ولكن

 

لم تكن المبادرة الى طرح الموضوع من قبيل الاثارة، بقدر ما كان الهم الاول والرئيسي وضع اليد على الجرح، الذي وجدناه دون ان نتقصد أو نتعمد.

فلم يكن في البال أن تكون احدى الضحايا التي أطلت علينا صاحبة قصة مؤلمة محزنة مخزية تدمي القلوب فعلا لا قولا.

ولم يكن من اليسير لحظة اعداد التحقيق للنشر سرد القصة المؤلمة وما تلاها على ألسن صاحباتها وان بالأحرف الأولى من أسمائهن. لقد كان التردد سيد الموقف أحيانا لفظاعة المأساة، وكأننا امام مشهد تلفزيوني او سينمائي مع لافتة تحذير كبيرة...لا تشاهدوا ولاتسمعوا.

لكن أيضا ولفظاعة المأساة انتصر خيار النشر على خيار عدم النشر، ومجددا ليس للاثارة بل لوضع اليد على الجرح وما اعمقه من جرح لا يندمل، وحتى يكون رسالة حية الى المجتمع والفاعلين فيه والمهتمين بقضية الادمان والمخدرات على تسليط الضوء على هذه القضية المؤلمة، حتى لا يبقى التحقيق مجرد تحقيق مهما اختلفت النظرة اليه والى تقييمه، وحتى لا تكون المدمنات او المدمنون مجرد أرقام مظللة بعبارات التنديد والتعبير عن الالم والاسف والحزن، وأسرى إحصاءات... مجرد احصاءات فيما هم او هن يستجدون من خلال العيون الحزينة والمواقف المؤلمة والأسماء المستعارة احيانا وأحيانا اكثر الأحرف الاولى من الأسماء ان يكون هناك بريق أمل ونقطة ضوء في نهاية النفق، تمهيدا الى الخروج الى الدنيا اذا كان هناك من مخرج.

...هلا نفعل؟

 

رئيس جمعية بشائر الخير أكد أن النسبة الأعظم من المدمنات هنّ ضحايا الرجل



البلالي: المرأة عمود الخيمة

إذا اهتزّت أو سقطت سقط البيت بأكمله



قال رئيس جمعية «بشائر الخير» الإسلامية للمدمنين التائبين الشيخ عبد الحميد البلالي ان جميع الإحصائيات التي أجريت على انتشار مرض الإدمان في العالم العربي والإسلامي ككل تشير إلى وجود فرق كبير بين نسبة الرجال والنساء في الإدمان. فالرجال أكثر اتجاهاً نحو التعاطي والإدمان.

ويرجع الشيخ البلالي السبب في ذلك إلى تمتع المرأة في مجتمعاتنا بدرجة أعلى من الوعي الديني، والأخلاقي ونظرة المجتمع المنفرة من أي سلوكيات غير سوية تصدر عن المرأة، في حين أن هناك درجة أكبر من التسامح في النظرة إلى إدمان الرجل، أو قيامه بأي سلوكيات غير سوية.

وفي ما يتعلق بدور وتأثير الرجل في اتجاه المرأة نحو الإدمان يؤكد البلالي أن النسبة الأعظم من المدمنات هن ضحايا وقعن في الإدمان بسبب علاقتهن برجل ما، قد يكون الزوج، أو أحد أفراد الأسرة، ولكن الأغلب في هذه الحالات أن يكون الرجل المتسبب في إدمان المرأة «عشيقها» أو «البوي فرند» الخاص بها.

وفي ما يتعلق بالمرأة المدمنة وبالتعامل معها في إطار الإرشاد الروحي والنفسي المقدم من قبل جمعية « بشائر الخير» يشير الشيخ البلالي إلى أن هناك صعوبة كبيرة في التعامل الإرشادي مع المدمنات، وهو ما يعطل تعافيهن ويؤخره، ويؤدي بكثير منهن إلى الوقوع ضحية مجرمين آخرين في عالم الإدمان، ثم الانتهاء إما الى الموت بجرعة زائدة، أو بالسجن سنوات طويلة من أعمارهن.

وهذه الصعوبات تكون متعلقة إما بطبيعتها هي في رفض العلاج والإرشاد المقدم لها، أو بسبب طبيعة المجتمعات الشرقية التي ترفض الاعتراف بمشكلة إدمان النساء فيها خوفاً من نظرة الآخر، فتقوم بمحاولة دفن المشكلة بدلاً من معالجتها وينتج عن ذلك تدهور شديد في حالة المدمنة، وقد يكون السبب مرتبطاً بطبيعة الأسرة التي تتواجد فيها المدمنة، فبعض الأسر تعامل نساءها بعنف وتحاول معالجة كل مشكلة ذات علاقة بالمرأة بشكل قاس وغير علمي وسليم.

وبالنسبة للنتائج المترتبة على دخول المرأة إلى عالم الإدمان يقول الشيخ البلالي انها كثيرة وخطيرة جداً. فالمرأة بحسب وصفه هي «عمود الخيمة»، والتي إذا ما اهتزت أو سقطت سقط البيت بأكلمه. فكثير من النساء المدمنات يتسببن في دخول أبنائهن وبناتهن إلى دائرة المخدرات المظلمة، بينما نسبة أقل من الأبناء ينجرون إلى الإدمان في حال كان الأب هو المدمن، علاوة على أن المرأة الكويتية معروفة بتحملها مسؤولية البيت والأبناء، واهتمامها بكل الشؤون الصغيرة والكبيرة لأسرتها، بعكس الرجل الكويتي وهو المعروف عنه قلة اهتمامه بشؤون وحياة الأسرة، بالتالي فانه في حالة سقوط الرجل في الإدمان يمكن للمرأة أن تتحمل كافة أعباء الأسرة بحيث تسير حياتها بشكل طبيعي دون وجود الأب، بينما لو حدث العكس وسقطت الأم فالأب لن يكون قادراً على إدارة شؤون الأسرة وستنهار الأسرة مع الأسف.

أما عضو الجمعية المرشد أحمد البسام فيقول في هذه القضية ان ما يدفع المدمن الرجل إلى إشراك المرأة في تعاطي المخدرات هو ما يعرف بـ «نفسية التعاطي الجماعي» وهي من خصائص سلوك المدمن بصفة عامة. فاما أن تكون زوجته أو «صديقته» فيجعلها تدمن حتى تشاركه أجواء التعاطي، أو أن تكون أحد أفراد أسرته فيوقع بها في تعاطي المخدرات حتى يستغلها مادياً.

ويضيف قائلاً «أستطيع أن أقول بكل ثقة أن 90 في المئة من المدمنات كان وراء إدمانهن رجل».

وفي ما يتعلق بحالات الاعتداء الجنسي على محارم، يقول البسام انها حالات قليلة ولكنها موجودة ولا ينبغي إنكارها، فأهم أخطار الإدمان أنه يحول الإنسان إلى «مسخ» من الناحية الأخلاقية، ويجعله يقوم بسلوكيات بشعة إلى حد بعيد، ولذلك نقول ان الإدمان من أخطر الأمراض الاجتماعية والنفسية، لأنه يهدد سلامة المجتمع من خلال تهديده لسلامة الفرد النفسية والأخلاقية والجسدية.

 

أكد أن الخطر الأكبر بين كل ما يمكن أن تتعرض له المرأة هو انجرارها نحوه



اختصاصي العلاج أحمد الملا:

الإدمان مرض عضوي ونفسي واجتماعي وروحي



يقول اختصاصي علاج الإدمان أحمد الملا ان الإدمان مرض عضوي نفسي اجتماعي روحي عميق وصعب العلاج، وهو ليس نقصاً في التربية أو عيباً في الأخلاق، و بالتالي كثيرون هم المعرضون للوقوع فيه. والنسبة الأكبر من المدمنين هي من الذكور وذلك يعود لأسباب كثيرة معظمها اجتماعية. ويؤكد ان الحقيقةهي أن المرأة التي تجد نفسها مرتبطة بمدمن بأي صفة كانت، زوجة أو أما أو أختا أو ابنة تكون قد وقعت في إشكالية كبرى وتجد نفسها رغماً عنها ودون ذنب منها مضطرة لتحمل عبء ذلك الإدمان بصور متعددة.

ويضيف الملا ان المجتمع كما تبين لنا يتسامح مع الرجل بشكل أكبر عندما يقع في الإدمان، ويخترع له ألف عذر، ويلزم المرأة بالصبر والوقوف إلى جانبه سواء كان زوجا أو شقيقا أو والدا، بغض النظر عن مدى سوء سلوكه وعن المشكلات التي قد يوقعها بها.

ويتابع حديثه قائلاً أن المرأة في حياة المدمن تكون في أحيان كثيرة امرأة، ورجلا في آن، وتضطر إلى تحمل أعباء المنزل المادية والحياتية جميعها، ناهيك عن إمكانية تعرضها لأمراض خطيرة منقولة إليها من زوجها أحياناً. على سبيل المثال مرض التهاب الكبد الوبائي، والايدز، وبعض الأمراض المنقولة جنسياً.

ويضيف الملا ان المرأة تتعرض إلى مشكلات أخرى في علاقتها بالمدمن، مثل سوء المعاملة التي تتدرج من إهانتها وتجريحها لفظياً مروراً بالاستحواذ على ممتلكاتها ثم استخدام العنف الجسدي معها، أو اغتصابها جنسياً، وقد تكون أختاً أو ابنة، وصولاً إلى استخدامها من قبل المدمن كثمن للحصول على المادة المخدرة.

ويلفت الى ان جميع هذه المخاطر والأعباء يمكن التعامل مع احتمال وقوعها، إلا أن الخطر الأعظم من بين كل ما قد تتعرض له المرأة في حياة المدمن هو خطر انجرارها وراءه في الإدمان وتعاطي المواد المخدرة أياً كان نوعها.

ويقول الملا أن هذا النوع من التأثير يعتبر هو الأسوأ في حياة المرأة القريبة من المدمن. فالزوج في أحيان كثيرة يجبر زوجته على التعاطي لتشاركه في حالات «تعديل» المزاج التي يلجأ من أجلها إلى المواد المخدرة. ومتى ما انزلقت قدمها في طريق التعاطي تكون قد دخلت في معاناة أخرى أشد وطأة من معاناتها الأولى في تقاسم الحياة مع مدمن، ذلك أنها تكون بحاجة إلى التعامل مع مشكلتها هي في نفس الوقت الذي تتعامل فيه مع مشكلة الرجل.

ويضرب الملا مثلاً بقصة حدثت لأحد مرضاه من المدمنين ممن اعتادوا تعاطي مادة الهيرويين بطريقة التدخين، فيما يسمى بلغة المدمنين أسلوب التعاطي «قرد»، وكان يتعاطاها في غرفة نومه أثناء استغراق زوجته في النوم ليلاً. في تلك الفترة حملت زوجته ثلاث مرات وفي كل مرة تفقد جنينها قبل ولادته، و في المرة الأخيرة واجهت طبيبة الولادة الزوج المدمن بسؤال غريب «هل تتعاطى زوجتك المخدرات»؟ وأكدت له أن زوجته لا تستطيع الاحتفاظ بجنين في أحشائها بسبب استنشاقها المستمر للهيرويين.

ويكمل قائلاً «هنا فهم الزوج سبب موت أطفاله الثلاثة وتدهور حال زوجته الصحية،واتخذ قراراً بالتوقف عن التعاطي وتلقي العلاج بعد أن فقد ثلاثة أبناء قبل أن يبصروا الحياة.

ويختتم الملا حديثه مؤكداً المعاناة التي تعيشها المرأة القريبة من المدمن، والمرتبطة به، وأنها تقدم تضحيات نفسية وجسدية ومادية وحياتية باهظة في خلال تعاملها مع مشكلاته وأزماته المرتبطة بالإدمان.





الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي