لم يتذوق كثير من شباب اليوم مرارة الغزو ولا ألم التحرير، وربما نسي الكثيرون من الكويتيين ذل الاحتلال وثمن التحرير، ولكن الله قدر لي أن أعيش الاحتلال لحظة بلحظة، وأن أشاهد ليلة التحرير التي بدأت مساء 25 فبراير عام 1991، وإليكم القصة كما شاهدتها بعيني دون زيادة أو نقصان، فأنا لم استطع نسيانها حتى اليوم.
كنت على سطح أحد المنازل في مدينة الجهراء، وعلى بعد مئات الأمتار من الشارع المؤدي إلى (مركز المطلاع) الذي يرتفع 100 متر تقريباً، وعلى بعد 5 كيلومترات شمالاً من الجهراء، و(المطلاع) لمن لا يعرفه هو نقطة العبور الوحيدة التي يمكن للعربات أن تسلكه لاجتياز حاجز تلال الزور شمالاً وباتجاه العراق.
في تلك الليلة اختبأت السماء خلف عباءة من الغيوم الثقيلة، وكان الهواء ساكناً أو قل ساكراً وكأنه ينتظر العاصفة. وفي حوالي الساعة العاشرة ليلاً سمعنا هديراً لا ينقطع من أصوات المحركات، واعتقدنا أنا ومن معي أنها جيوش التحالف فقد سمعنا أن الهجوم البري قد بدأ، ولكن وبعد فترة من الزمن سمعنا أصوات الجنود وهنا قطعنا الشك باليقين... إنها فرقة عراقية.
كان أمامنا سيل من العربات التي لم نستطع تحديدها في حينها، سيل لا ترى له بداية وتنتهي مقدمته في اتجاه المطلاع شمالاً، وكان الليل يجلب لنا أصوات اصطدام العربات بعضها ببعض نتيجة لتدافعها، وأحياناً كنا نلتقط شتائم الجنود التي لا تخطئها الأذن، استمر زحف الرتل البطيء لمدة تطول أو تقصر عن ساعتين، وبعدها سمعنا حفيف الطائرات وعرفنا أنها فوقنا ولكن على ارتفاع شاهق، في هذه الأثناء كانت مقدمة الرتل قد وصلت إلى عنق المطلاع، أو أعلى وأضيق نقطة فيه شمالاً، وعندها انطلقت الطلقة الأولى في المعركة وانهتك ستر الليل واشتعلت عباءته السوداء، كانت الضربات الأولى كفيلة بوقف القافلة التي اكتشفنا لاحقاً أن ذيلها يبتعد 20 كيلو مترا جنوباً، المهم أننا قفزنا للاحتماء بمظلة خزانات المياه الإسمنتية الموجودة على السطح، ورحنا نشاهد عجائب صنع الله في خلقه، استمر القصف الجوي وأصبحنا نسمع صوت الطائرات بوضوح، وكان مشهد وقوع الصواريخ أو القذائف، لا أدري، غريباً فهي تنزل وما إن تقترب من الأرض حتى تنتشر وتنشطر إلى عشرات الكرات النارية، وعلى مساحة مئات الأمتار تتحول هذه الكرات إلى نار الله الموقدة، وتحول مساحة بحجم قطعة سكنية إلى جهنم وبئس المصير، استمر القصف وأمسى ليل (المطلاع) وعلى طول خمسة كيلومترات من الجهراء نهاراً تقرأ على ضوئه صفحة الوفيات، ولكن أعجب شيء شاهدته في تلك الليلة هو تصرفات بعض الجنود العراقيين، ففي أثناء القصف كان هناك مضادان للطيران فقط، أحدهما على يمين طريق (المطلاع) والآخر كان على يساره ولا يبعدان عن الطريق المغضوب عليه سوى عشرات الأمتار، وكانا طوال المعركة وأثناء القصف عليهم لا يتوقفان عن إطلاق النار عشوائياً في السماء في محاولة يائسة لحماية القافلة العسكرية، وكأنهم يحيون احتفالاً بالألعاب النارية تماماً كما نشاهد اليوم مع الفارق! ومع ذلك استمرت المعركة حتى ساعات الفجر الأولى ولكن صوت الطائرات أصبح مرعباً لدرجة أجبرتني على النزول عن السطح خوفاً من سقوطها على رأسي فآثرت السلامة، وتركت المعركة دائرة وذهبت إلى النوم.
والحقيقة أنني نمت مكتئباً فجر ذلك اليوم مما شاهدته، ولعنت صدام وحلفاءه من العرب، وأسفت على رخص الإنسان العربي وبؤسه. في الصباح اليوم التالي، أي في صباح يوم 26 فبراير 1991 كان التحرير، وقصة الأيام الأول من التحرير قصة ولكن لا مجال للحديث عنها اليوم، وباختصار لقد كانت أخطر من أيام الغزو نفسها فالناس متوترة والجميع مسلحون وأيديهم على الزناد، وانتشرت يومها نقاط التفتيش المحلية الصنع، والتي تستمد قانونها وصلاحياتها من نفسها وبمزاجها، المهم أنني ذهبت إلى ميدان المعركة وعندما وصلت لم أجد وصفاً لما شاهدته إلا قول الله تعالى «فجعلهم كعصف مأكول»، ولبشاعة ساحة المعركة أطلق الأميركيون على طريق المطلاع (وادي الموت)، (death valley)، وتذكرت أصحاب مضادات الطيران الذين لم يهدأوا ليلة البارحة، ورحت أبحث عنهم، ولم أجدهم ولكنني وجدت هياكل عظمية امتزج لحمها بحديد المضاد المنصهر من الحرارة، لقد دفعوا ثمن التحرير باهظاً مثلما دفعنا قبلهم ثمن الغزو من دمائنا.
ترى لو شاهد جيل (شارع الخليج والافنيوز، والفوم، والبلاك بيري) ما شاهدته في تلك الليلة هل ستتغير طريقتهم في الاحتفال بيوم التحرير؟
فهيد البصيري
كاتب كويتي
Albus.fahad @hotmail.com