في أوج الاندفاع الأميركي كان يقال في الأروقة السياسية في إطار تشكيل شرق أوسط جديد اليوم العراق وغداً سورية والجائزة الكبرى مصر، أصبح بعد أعوام لسان حال مقاومة المشروع الأميركي والاحتلال الصهيوني يجيب، بالأمس القريب تونس وبعدها حكومة الحريري بلبنان ثم نعم الجائزة الكبرى مصر.
الثورة المصرية وإسقاط نظام حسني مبارك سيشكل علامة فارقة ومنعطفا تاريخيا في صراع إرادات الشعوب المظلومة ضد القوى المتجبرة في العالم، فبمجرد نزول الجماهير المليونية إلى الشارع هاتفة بإسقاط الدكتاتور وممزقة لصوره، ومستقبلة للرصاص بالصدور التي ضاقت من عيش الذل والهوان، حتى راحت الدوائر الغربية تعقد المؤتمرات الصحافية المتواصلة وتجري اللقاءات الأمنية السرية وتتهافت في إطلاق التصريحات المتضاربة وقد ذهلها حجم الطوفان المقبل من مصر.
لقد سقط الادعاء الغربي بأن الصلح مع إسرائيل ينزل المن والسلوى من السماء وفيه الخير للبلاد والعباد وللداخل والخارج، فلم تعد بضعة مليارات تقدم هبة لمصر تسد رمق ملايين البطون الجائعة ولم تنهض باقتصاد بلد كبير، ولم يعد هناك معنى للهبات غير دخولها في جيوب أزلام النظام حتى تضخمت محفظة رأس النظام من أموال الشعب فقاربت الخمسين مليار دولار زادت او نقصت.
ماذا كانت نتائج اتفاقية «كامب ديفيد» في الداخل، وما كانت النتائج خارجياً؟ في الداخل بعد أكثر من ثلاثة عقود على اتفاقية السلام زاد القمع في مصر، وتم بشكل تدريجي مصادرة الحريات وأصبحت مصر بالمرتبة 57 من 60 دولة في تقرير البؤس العالمي، وأكثر من نصف السكان تحت خط الفقر منهم مليونان ونصف المليون يعيشون في فقر مدقع مع مليون ونصف المليون يعيشون في المقابر، وأعلى معدل وفيات للأطفال وعشرة ملايين شاب عاطل عن العمل، وأصبحت حسب الاحصاءات من أوليات الدول في فساد المسؤولين.
أما في الخارج فقد عربدت إسرائيل في المنطقة ومصر ظلت أسيرة «كامب ديفيد»، إسرائيل تغزو لبنان عام 1982، وكادت ان تبتلعه إلى الأبد لولا المقاومة الأسطورية للبنانيين، وهي تقمع الفلسطينيين يومياً وتصادر الأراضي وتبني المستوطنات، وتشن حروباً على قطاع معزول وتقوم بمجازر في لبنان مثل عناقيد الغضب ومجزرة قانا.
لقد كان نظام مبارك خير راع للمصالح الصهيونية واسند ظهر إسرائيل على حائط بناه حول شعبه المسكين، وها قد تحطم هذا الجدار وانطلقت الجماهير المصرية بأصواتها الحرة، فعم التخبط الدوائر الغربية، ففي بداية الثورة المصرية وصفت هيلاري كلينتون نظام مبارك بالمستقر، وان النظام يبحث عن طرق لتلبية حاجات وطموحات شعبه، ثم عندما ايقنت أن شعب مصر بملايينه الثمانين انتفض، نفضت يديها من مبارك وتخلت عنه.
أما إسرائيل فقد كانت أكثر قلقاً من غيرها ولو انها حاولت الإيهام بهدوئها، إذ ان ما حصل عند بوابتها الغربية هو زلزال استراتيجي لا تعرف عواقبه، وفي هذا الصدد ذكرت صحيفة «هآرتس» الصهيونية أن أوباما وكلينتون يتخبطان من هول التظاهرات ضد مبارك، وهما ربما لا يعلمان أن الشباب نفسه الذي يتظاهر ضد مبارك هو الذي يتظاهر دائما ضد السياسات الأميركية في المنطقة، حتى حركة «كفاية» العلمانية، كما تقول «هآرتس»، فأنها تدعو في بيانها التأسيسي إلى محاربة المشاريع الصهيونية والأميركية في المنطقة.
الخوف من صحوة الشعب المصري وإسقاط نظامه الموالي بشكل مطلق للسياسات الغربية، أرعد فرائص صانعي السياسات الغربية، فبعضهم حاول ظاهراً ركوب الموجة والترحيب بالتغيير مع حث وتركيز على التزام مصر بعملية السلام مع إسرائيل وهي حجر الزاوية لأي علاقة مع أي نظام مقبل، والبعض الآخر والذي لا يحمل صفة رسمية حكومية كان أكثر صراحة في مواقفه كالمرشح السابق للرئاسة الأميركية السيناتور الجمهوري جون ماكين عندما سئل عن احتمال وصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في مصر فأجاب «أخشى حقا أن يعمد الإسلاميون الأصوليون إلى اختطاف هذه الحركة، أعتقد أنهم يشكلون مجموعة متطرفة تلتزم في المقام الأول بالشريعة الإسلامية التي تعتبر بحد ذاتها مناهضة للديموقراطية، على الأقل في نظرتها للنساء»!
قد يكون من باب التفاؤل المفرط الجزم أن النظام المقبل في مصر سيكون مقاوماً لإسرائيل ومخططاتها، خصوصا أن الحراك السياسي والميداني في مصر لم يستقر بعد على نمط الحكم المقبل، وكل هذا مناط بطريقة تعامل الجيش لمرحلة ما بعد مبارك واستمرار تفاعل الشعب مع ثورته التي فجرها حتى تحقيق مطالبه كافة، وستكون هناك عملية شد وجذب بين مختلف التيارات السياسية والجيش، وحتى قوى النظام المخلوع ولو بأغطية أخرى، لكن ما من شك ان ما حصل في مصر هو زلزال دمر أحد أسوار الحماية الواقية للمشروع الأميركي في المنطقة، وأخرج شعبا عربيا مسلما عريقا ليقول كلمته التي هي بالتأكيد لن تتماشى مع الخطط الصهيونية في المنطقة.
كمال علي الخرس
كاتب كويتي