شهدت الفترة الماضية محاولات انتحار عدة للتخلص من الحياة من قبل بعض الشباب في دول مختلفة وذلك بإشعال النار في الجسد في الشوارع والساحات العامة وأمام الناس تعبيراً عن الاحتجاج عن الأحوال المعيشية السيئة التي تعيشها في مجتمعاتها. ومحاولة اشعال النار هذه نقلتها أجهزة الاعلام العالمية وحدثت في دول مثل مصر، ورومانيا، والجزائر، وتونس، واليمن.
المشهد التاريخي للشاب التونسي محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه بسبب اضطهاد السلطات التونسية له بمنعه من مزاولة بيع الخضار على عربة جر كان يقودها في الأحياء وأمام منازل الأهالي دفعته الى الاحتجاج بطريقته الخاصة عن طريق حرق نفسه بعد سكب البنزين على جسده. والذي بوفاته دخل بوعزيزي التاريخ، خصوصاً عربته التي طالب أحد الخليجيين بشرائها بعشرة آلاف دولار كرمز يعبر عن دور الإنسان البسيط في اشعال ثورة شعبية تسقط الجبابرة عبر الانتفاضة الشعبية.
لا شك أن ديكتاتوريات الحكم منذ فجر التاريخ وإلى يومنا هذا تظل ظاهرة لن تدوم مهما طال أمدها في الحكم، فكم من الطغاة قتلوا على أيدي شعوبهم، أو هربوا خارج دولهم الى أماكن مجهولة خوفاً على حياتهم لكنهم ظلوا يعيشون مرارة الهزيمة وكراهية الناس لهم وخوفهم الدائم من القتل والاغتيال بسبب ما قاموا به من جرائم.
إن التعبير عن عدم الرضا من الشعوب لحكامها لا يتوقف على حرق النفس أمام الجماهير. فالوسائل الشعبية الضاغطة كثيرة ومتنوعة منها الوسائل السلمية التي في أكثر الأحوال تؤدي الى نتائج ايجابية إما بتلبية المطالب الشعبية وإما بإزاحة الحكم عن طريق التنحي عن تقلد المسؤوليات، وهذه منهجية حضارية تتبعها دول متحضرة يدرك الحاكم ان عليه ان يترك المجال لغيره لأنه عاجز عن تحمل مسؤولياته. لكن، مع الأسف، المفارقة عجيبة في الدول النامية التي لا يكتفي الحاكم بفترة حكمه وإنما يسعى لتعيين أبنائه وأقاربه في السلطة.
إن اشعال النار في النفس وان كان محرماً شرعاً إلا انه تعبير عن مستوى الحرمان والاضطهاد الذي تعيشه الناس، وخاصة الشباب الذي لا يجد العمل والغذاء والدواء، ويعيش حالة بؤس تؤدي الى فقدانه لعقله واتزانه. ان الحرمان من الحياة بالتعسف والاضطهاد والقهر ومنع حاجات الإنسان الأساسية من الوصول إليه يؤدي الى اضطرابات عقلية وجسدية لها عواقبها، ولا يلام الإنسان عندما يفقد عقله فيرتكب جريمة بحق نفسه لكنها جريمة قد توصف بأنها تضحية أدت الى تغييرات مفيدة للناس والوطن.
د. يعقوب أحمد الشراح
كاتب كويتي
yaqub44@hotmail.com