«الراي» ترصد موقف المسلمين والأقباط في لبنان بعد اعتداءات العراق وتفجير الكنيسة في مصر
الشرق بلا مسيحييه... غروب

الشيخ خلدون عريمط (تصوير جوزف نخلة)

رويس الاورشليمي






| بيروت - من ريتا فرج |
«أقليات مسيحية خائفة وهجرة جماعية تصل تقريباً إلى حد محاكاة الأبعاد التوراتية»، بهذه العبارة يوجز الكاتب السياسي روبرت فيسك في مقالة كتبها العام 2009 في صحيفة «انديبندت» هواجس مسيحيي الشرق الذين تتناقص أعدادهم في شكل ملحوظ منذ الاحتلال الاميركي للعراق وقبله بكثير. ونزف الهجرة الذي لم يقتصر على المسيحية الشرقية، بل تعرضت له كل فئات العالم العربي بسبب الأزمات السياسية والحروب والأوضاع الاقتصادية المتردية، سجل أرقاماً مخيفة قد تؤدي مستقبلا الى خسارة هذا الشرق المأزوم تعدده الديني.
يراوح عدد المسيحيين في العالم العربي بين 12 الى 15 مليون نسمة، غالبيتهم يعيشون في مصر، ويتوقع المراقبون أن يتراجع العدد الى 6 ملايين نسمة فقط بحلول سنة 2020 نتيجة موجات الهجرة المتتالية. وتفيد الاحصاءات أن عدد المسيحيين في تركيا بلغ مليوني نسمة العام 1920 وبدأ بالتراجع الى آلاف، وفي سورية قارب المسيحيون معدل ثلث السكان، وتناقصوا الى نحو 10 في المئة من عدد السكان الاجمالي. أما في لبنان فقد شكل المسيحيون العام 1932 ما نسبته 55 في المئة من السكان، واليوم وصل عددهم الى أقل من 30 في المئة مع العلم بأن هناك تقديرات متضاربة لعددهم الحقيقي. وفي مصر ثمة تناقض بين الارقام التي تقدمها الكنيسة القبطية والتي تصل الى 12 مليوناً وتلك التي تقدمها جهات أخرى مشيرة الى أن نسبة الاقباط لا تزيد على 6 في المئة من عدد السكان. وفي فلسطين المحتلة وتحديداً في مدينة الناصرة شكل المسيحيون قبل العام 1948 نسبة 60 في المئة وتناقصت اعدادهم تدريجاً، فيما بلغ عددهم في القدس العام 1922 نحو 15 ألفا ثم تراجع حتى وصل الى معدل 2 في المئة. والعراق الذي شهد هجرات مسيحية جماعية منذ سقوط نظام صدام حسين، بلغ عدد المسيحيين فيه قبل الاحتلال الاميركي نحو 800 ألف شخص، واليوم أصبحوا آلافاً عدة وتحديداً إثر العمليات الارهابية التي شنتها «القاعدة» على بعض الاحياء المسيحية، وآخرها تفجير كنيسة سيدة النجاة يوم 31 اكتوبر 2010 ما أدى الى مقتل أكثر من 46 شخصاً وجرح أكثر من 100. والجدير بالذكر أن أعمال العنف التي بدأت العام 2003 أدت الى خطف المطران الكلداني الكاثوليكي بولس فرج رحو وقتله في مارس 2008.
لكن النزف المسيحي في العراق لا يتوقف عند حدود الهجرة، فبعض المسيحيين يتعرضون لعمليات ترحيل وهذا ما حصل في السويد، التي قررت حكومتها العام الماضي ترحيل نحو 20 عراقياً بالقوة منهم خمسة مسيحيين. وفي هذا السياق قالت متحدثة باسم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إن «المفوضية تجدد دعوتها كل الدول الى تجنب ترحيل العراقيين القادمين من المناطق التي يسودها العنف»، وأكدت أن الترحيل يأتي في وقت يسجل ارتفاعا ملحوظا في عدد المسيحيين الفارين من بغداد والموصل الى كردستان ونينوى، والذين وصل عددهم الى نحو 1000 عائلة مطلع شهر نوفمبر 2010.
مذبحة كنيسة سيدة النجاة في بغداد شكلت الهدف الأول لـ «القاعدة» التي نشرت قائمة بأسماء عدد من الكنائس المدرجة كأهداف لضربها. والقائمة التي كشفها في مطلع ديسمبر الفائت موقع «شموخ الإسلام» تضم امكنة عبادة قبطية يبلغ عددها 50 كنيسة في مصر والدول الاوروبية من بينها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وقد تكون كنيسة القديسين في الاسكندرية احد اهدافها، بعدما لمحت السلطات المصرية الى مسؤولية «القاعدة» في تفجيرها. ووفق ما ذكرته قناة «فرانس 24» طالب تنظيم «دولة العراق الإسلامية» التابع لـ «القاعدة» في تسجيل، باطلاق امرأتين قبطيتين قيل إنهما اعتنقتا الإسلام وأعيدتا بالقوة الى الكنيسة، واضاف التنظيم انه في حال لم يفرج عن المرأتين «فالقتل سوف يعمكم جميعاً وسيجلب بابا الاقباط شنودة الدمار لجميع نصارى المنطقة».
المرأتان القبطيتان وهما كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين، زوجتا كاهنين قبطيين أثار الحديث عن اعتناقهما الاسلام جدلاً في مصر، رغم أن الكنيسة القبطية نفت ما حدث. والعمليات الارهابية التي تقوم بها «القاعدة» ضد المسلمين والمسيحيين تترافق مع بيانات يصدرها قادة ينتمون الى هذه الحركة الارهابية العابرة للقارات. وسبق أن دعا الرجل الثاني في «تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب» سعيد الشهري انصار «القاعدة» الى قتل المسيحيين الذين يعيشون في المملكة العربية السعودية، في شريط صوتي بث على الانترنت. وقال الشهري الذي كان مسجوناً في معتقل غوانتانامو: «من كان يعمل منكم في حراسة الطواغيت من الامراء والوزراء أو المجمعات التي يسكنها النصارى أن يستطيع أن يصل اليهم فليستعن بالله على قتلهم». ولم يكتفِ بذلك بل دعا الى الاطاحة بالنظام السعودي حين طالب في شهر يونيو 2010 أنصار القاعدة بخطف افراد الاسرة الحاكمة والمسيحيين.
الخبير في شؤون «القاعدة» ناظم الجبوري رأى أن التنظيم يعد من أكثر الرابحين من عدم وجود حماية أمنية للأقليات المسيحية في العراق، مشيراً إلى وجود صلة بين تفجير الكنيسة في مصر وعملية استهداف المسيحيين في بلاد الرافدين. وقال إن «هناك جهتين تستهدفان المسيحيين العراقيين، الأولى هي تنظيمات القاعدة، والأخرى تتمثل في بعض الميليشيات التي تريد تفريغ بعض المناطق من المسيحيين». واضاف أن «هناك معركة دينية تقودها القاعدة ضد المسيحيين في العراق بغية بعث رسالة إلى العالم مفادها أن الحكومة العراقية ومؤسساتها الأمنية ما زالت عاجزة عن حماية الأقليات الموجودة في العراق».
وتابع الجبوري ان «هناك صلة بين حادث تفجير الكنيسة في مصر وعملية استهداف المسيحيين في العراق، فالقاعدة هددت سابقاً باستهداف الكنائس القبطية المصرية، ما لم يتم الإفراج عن امرأتين قيل إنهما اعتنقتا الاسلام». ولكن هل ثمة فقه بنت عليه «القاعدة» عدتها لقتل غير المسلمين؟
التيار السلفي الجهادي الذي تقوده «القاعدة» يعتمد على بعض الآيات الواردة في القرآن الكريم تعرف بـ «آيات السيف»، وقد أجمع عدد من العلماء ورجال الدين على القول انها نسخت كل الآيات المخالفة، والنسخ يعني أن تلك الايات المخالفة «سقط حكمها وبقى رسمها» ولا يبنى عليها أي أثر تشريعي. ويقول التنظيم إن «عدم الايمان بالله والاسلام يعتبر بحد ذاته مبرراً لإباحة قتل الانسان حتى اذا لم يكن هذا الأنسان عدواً محارباً».
واليوم بعدما شهدت مصر مذبحة الاسكندرية عقب العملية الارهابية التي شنتها القاعدة على كنيسة سيدة النجاة في بغداد، ما موقف الإسلام من ارهاب «القاعدة»؟ والى أي مدى تشكل فتاوى السلفية الجهادية منطلقاً لتكفير المسيحيين وقتلهم؟ وكيف قرأ ممثلو الكنيسة القبطية ما حدث في كنيسة القديسين؟ هذه الأسئلة وغيرها حملتها «الراي» الى المدير العام للعلاقات العامة والإعلام في دار الفتوى الشيخ خلدون عريمط، وممثل الأقباط في لبنان الأب رويس الاورشليمي.
رويس الأورشليمي: لا علاقة للعنف بالإسلام
... متمسكون بأرضنا وسنبقى فيها
رأى الأب رويس الاورشليمي أن الاسلام لا يتحمل المسؤولية عن الجريمة، مؤكداً رفض كل المصريين للتطرف. وأكد أن العملية التفجيرية في كنيسة القديسين تستهدف النظام، محيلاً استهداف الكنيسة على مشروع خارجي يهدف الى تفكيك العالم العربي وذلك عبر هذا الحوار الذي نورد إليكم نصه.
تفجير كنيسة القديسين في الاسكندرية طرح علامات استفهام عن مسؤولية الحركات المتطرفة من جهة وعجز النظام المصري عن تأمين الحقوق السياسية والأمنية للأقباط من جهة أخرى. ما رأيكم في ذلك؟
الاسلام لا يتحمل مسؤولية هذه الجريمة، والقسم الأكبر من المتطرفين داخل مصر وخارجها غير مقبول بهم، وبعد تفجير الكنيسة شهدنا احتجاجات من أبناء مصر والنظام، وهذا دليل على أن ظاهرة التطرف الإسلامي ليست من مكونات المجتمع المصري، ولكن هذا لا يلغي وجود بعض المتطرفين الذين لا دين لهم ولا هوية، ومشهد العنف والارهاب الذي تعرضت له كنيستنا لم تسلم منه أكبر الدول واعني الولايات المتحدة. لا شك أن هناك جذوراً لبعض القضايا السياسية العالقة بين النظام والاقباط لا سيما ما يتعلق بالحقوق السياسية، وفي رأيي أن العملية التفجيرية تستهدف النظام نفسه، والنسيج المصري التعددي، وأياً كان المسؤول عما جرى فهو منبوذ من الجميع وفي مقدمهم السلطة.
حادثة الاسكندرية تبدو ظاهرة جديدة على مصر وسبق لتنظيم «القاعدة» أن هدد باستهداف الأقباط على خلفية احتجاز امرأتين قبطيتين قيل انهما اشهرتا إسلامهما. ما ردكم؟
قد تكون هذه الظاهرة جديدة على مصر لكن استهداف المسيحيين من جانب القاعدة موجود في العراق منذ اعوام، وعلينا أن نقطع كل الايدي التي تتعرض لأمن كل المصريين من دون استثناء، والأقباط لا يمكنهم مواجهة الجماعات المتطرفة إلاّ عبر تمسكهم بأرضهم، ونحن متمسكون بأرضنا وسنبقى فيها، ومصر قادرة على جبه الخطاب المتطرف ونجحت في ذلك، ودليلنا ما جرى من تظاهرات واحتجاجات ضد الارهاب قام بها كل المصريين، داعين الى الوحدة والعيش المشترك، ما يعني أن العنف لا علاقة له بالاسلام ولا بالنسيج المصري.
الى أي مدى يمكن المواطنة والمساواة في الحقوق السياسية أن تؤديان الى حماية الأقباط في ظل ما يُثار من حديث عن تهميش النظام لهم؟
- لا شك أن المواطنة السياسية المصحوبة بروح التسامح تساهم في تأمين الحقوق للجميع وليس للأقباط فقط، ولكن المطلوب معاقبة المسيئين الذين تسببوا بالعملية الارهابية كي لا تتكرر أياً كان المسؤول عن هذا التخريب للعيش المشترك في مصر.
المسألة الطائفية في مصر ليست جديدة وبرزت منذ حقبة الرئيس الراحل أنور السادات على خلفية بناء كنيسة الخانكة. هل ترون ان النظام يعرقل حرية التعبير الديني للأقباط؟
فترة الرئيس الراحل أنور السادات كانت مختلفة عن فترة الرئيس حسني مبارك. الرئيس المصري كان أول من تصدى لما يسمى المسألة الطائفية، وما كان يجري من احتكاك بين المسلمين والاقباط هو حوادث فردية وبسيطة. المسألة الطائفية تدعمها ايد متطرفة تريد في الدرجة الأولى زعزعة استقرار العالم العربي وليس مصر فقط، فهناك تقارير وتحليلات تتحدث عن تقسيم جديد للمنطقة، وهي ترتبط بمشاريع خارجية تعمل على تفكيك وحدتنا وعيشنا المشترك، والرئيس حسني مبارك تحدث عن أيدٍ خارجية وتعاون داخلي.
أين موقع الإسلام من العلاقة مع الآخر الديني؟ وهل أثبت التاريخ الاسلامي تسامحه حيال مسيحيي الشرق؟
الإسلام أنصف المسيحيين في أوقات كثيرة وهناك شواهد تاريخية تدل على ذلك، من بينها التسامح الذي أبداه الخليفة المعز لدين الله، فقد اعترض البعض على بناء احدى الكنائس واحدهم نزل الى قلب أساسات الكنيسة لمنع البناء، فطالب الخليفة المعز بمتابعة بناء الكنيسة قائلاً: «ابنوا فوقه».
يشهد الشرق الاوسط هجرات متزايدة للمسيحيين، ما تفسيرك لهذه الهجرة وما أبرز أسبابها؟
لا أرى هجرة للمسيحيين إلاّ في العراق فقط، وأسباب هجرتهم تعود الى انفلات الوضع الأمني، وعدم قدرة الحكومة العراقية على بسط سلطتها على كامل أراضيها. في مصر ولبنان يختلف الوضع، هناك استقرار وتعايش وسلام. هجرة المسيحيين طبعاً ترتبط بالازمات والحروب التي تزايدت مع الحرب العراقية ـ الايرانية والاحتلال الاميركي للعراق، وأسبابها سياسية واقتصادية، وتلك الأزمات لا توفر أحداً في العالم العربي.
ثمة وجهات نظر مختلفة حول عدد الأقباط في مصر. ما عددهم؟ وما نسبة تمثيلهم في مجلس الشعب؟
صرح قداسة البابا شنودة أن عدد الأقباط يصل الى 12 مليونا وهذه الاحصاءات أعلنتها الدولة أيضاً. أما نسبة تمثيل الاقباط في المجلس فهي 10 مقاعد ثلاثة من اصحابها نجحوا في الانتخابات وسبعة عينهم رئيس الجمهورية.
ولماذا التعيين؟
لأن الشعب القبطي يتداخل مع المسلمين داخل المناطق والاحياء، لذلك لا يصل العدد كاملاً الى المجلس، ولا وجود لأي تمييز ديني يمنع حجم التمثيل، الاسباب ترتبط بطبيعة المناطق وتداخلها.
خلدون عريمط: المسيحيون مواطنون عرب
والحركات المتشددة مشوهة العقيدة
أكد الشيخ خلدون عريمط أن تفجير كنيسة الاسكندرية حلقة من حلقات الاساءة الى المسلمين، مشدداً أن ما حدث لا علاقة له بالاسلام ديناً وعقيدة. ورأى ان هجرة المسيحيين من الشرق لا ترتبط فقط بالحركات المتشددة، لافتاً الى أن الهجرة تطاول المسلمين والمسيحيين. واوضح أن ما يسمى «آيات السيف» تحتاج الى أهل العلم لمعرفة أسباب نزولها، ولا يمكن «الآيات التي تشير الى معاقبة جماعة من الجماعات أن تكون أسبابها مفتوحة الى الأبد».
بعد ما حدث في كنيسة الاسكندرية ما موقف الإسلام من هذه العملية الارهابية؟ وكيف يمكن مقاربة ذلك من زاوية العلاقات الإسلامية ـ المسيحية؟
ما حصل في الاسكندرية وما سبقه من تفجير آثم في كنيسة النجاة في بغداد هما حلقة من حلقات الاساءة الى الإسلام والمسلمين، الى الاسلام كعقيدة والى المسلمين كمجموعة بشرية أرادها الله سبحانه وتعالى أن تكون حاملة لرسالة الإسلام الذي يتبنى شعار الرحمة للعالمين لقوله عز وجل لمحمد عليه الصلاة والسلام، «وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين». إذاً الاسلام رحمة وتعارف وتعاون وهداية لتوحيد الخالق وتكريم الانسان انطلاقاً من قوله «ولقد كرمنا بني آدم». نستطيع ان نؤكد أن كل تفجير أو قتل أو تخريب لأي مواطن آمن في بيئته العربية والاسلامية او في أي مكان من العالم، خدمة مجانية لاعداء العرب والمسلمين، خصوصاً العدو الصهيوني، وعلينا أن ندرك جميعاً، مسلمين ومسيحيين، أن الحركة الصهيونية من أهدافها الاساسية في المدى القريب والبعيد، التمهيد لصراع الاديان وصراع الحضارات، بغية اداء دورها في هذا الصراع، فالعقلية الصهيونية، عقلية معقدة تمارس الفوقية والعنصرية بحجج واهية بذريعة ان اليهود «شعب الله المختار». العلاقات المسيحية ـ الاسلامية في شرقنا العربي كانت ولا تزال علاقات ودّ واحترام متبادل، قائمة على المواطنة والانتماء، بدليل ان المسيحية كعقيدة والمسيحيين كابناء وطننا وامتنا هما جزء أساسي من تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، وهذه العلاقات مثلت نموذجاً لانصهار الأمة وقدرتها على مواجهة التحديات التي مرت بها منذ أكثر من 1400 عام.
مسيحيو الشرق يعانون قلقاً وجودياً في ظل تناقص اعدادهم من جهة وتصاعد وتيرة الحركات الاسلامية العنفية من جهة أخرى. أين موقف الاسلام من الحفاظ على هذا التعدد وحمايته في آن واحد؟
لا أحبذ استعمال عبارة أن المسيحيين في بلادنا في تناقص أو تزايد، لأن المسلمين والمسيحيين هم مواطنون ينتمون الى هذه الارض، والى هذا الوطن العربي الكبير من المحيط الى الخليج. والهجرة في بلادنا ترتبط بالحروب والازمات الاقتصادية والسياسية، فضلا عن الوجود الصهيوني في فلسطين، وهي تصيب أبناء الوطن والأمة من المسلمين والمسيحيين، ومن هنا يلاحظ أن عدد المسلمين النازحين من الشرق في تزايد داخل أوروبا وأميركا وحتى في بعض البلدان الآسيوية، فالهجرة عامة ومتحركة بغض النظر عن عقيدة هؤلاء المهاجرين، سواء كانوا مسلمين او مسيحيين، والمفارقة المهمة تركيز الضوء على هجرة المسيحيين دون سواهم. أما ما يتعلق بالحركات المتشددة ودورها في إفراغ الشرق من تعدده، فهذه الحركات تستهدف المواطنين المسيحيين كما تستهدف الإسلام، وتمارس عنفها في كثير من البلدان العربية والاسلامية، وهي حركات مشوهة العقيدة والسلوك، ولذا علينا في مجتمعاتنا وعلى المؤسسات الدينية والسياسية الارتقاء نحو المواطنة والحد من الخطاب الطائفي والمتوتر.
تستشهد بعض الحركات الإسلامية بـ «آيات السيف» لتحديد موقفها من الآخر الديني أي أهل الكتاب. ما موقف الاسلام الرسمي من هذه الآيات؟ وهل يمكن الاستعانة بها في الأزمنة الراهنة؟
ليس هناك إسلام رسمي وإسلام غير رسمي، الإسلام شريعة وعقيدة وبناء حياة. وتفجير كنيسة النجاة في بغداد وكنيسة القديسين في الاسكندرية يرفضهما الاسلام جملة وتفصيلاً، والرسول عليه السلام وصحابته رضوان الله عليهم خلال حروبهم وفتوحاتهم شرقاً وغرباً، لم يفجروا أو يعتدوا على مركز عبادة سواء كان مسيحياً أو يهودياً، ولذلك كانت وصية أبو بكر الصديق «لا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا أسيراً ولا تقطعوا شجرة وستجدون أناساً في صوامعهم فدعوهم وما يعبدون»، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام للمسلمين وهم يدخلون مصر «استوصوا بالاقباط خيراً» وقوله سبحانه في القرآن الكريم «لتجدن أقرب الناس مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك أن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون». أما آيات السيف فالاسلام لا يمكن ان يفسرها مزاجياً، أو بخلفية سياسية، بل يتم تفسيرها من خلال سلوك الرسول بأقواله وأفعاله، وسلوك صحابته وخصوصاً الخلفاء الراشدين، الذين قال عنهم المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون «ما رأيت في التاريخ فاتحاً أرحم من العرب» وهذه الرحمة لم تكن عربية إنما كانت إسلامية، لأن العرب التزموا الاسلام كعقيدة وسلوك وكانوا رسل محبة وهداية وتعاونوا وتعارفوا مع أبناء الأمم الاخرى. المسلم الحقيقي لا يمكن أن يكون قاتلاً لأي إنسان آخر سواء كان من أبناء عقيدته او من أبناء العقائد الاخرى، ومن هنا كان قوله سبحانه وتعالى لمن نختلف معهم في العقيدة «لكم دينكم ولي ديني» وقوله عز وجل في القرآن الكريم «وجادلهم بالتي هي أحسن» وأي سمو وتسامح وحرية من قوله سبحانه وتعالى «من شاء ليؤمن ومن شاء فليكفر» وإذا كنا نؤمن بان الاسلام رسالة من الله ورحمة فهذا يعني أن كل عمل أو فعل يسيء الى الانسان أياً كان لونه أو عرقه أو عقيدته ليس من الاسلام في شيء، والايات القرآنية التي تشير الى القتال والسيف، علينا أن نسأل أهل العلم عن أسباب نزولها لأن كل آية في القرآن الكريم نزلت لسبب زمني ومكاني، والآيات التي تشير الى معاقبة جماعة من الجماعات لا يمكن أن تكون أسبابها مفتوحة الى الابد، وتفسير هذه الآيات واستنباط الاحكام الشرعية منها هما من اختصاص المجامع الفقهية وكبار الأئمة وعلماء الدين الذين أجمعوا على أن الاسلام دعوة وهداية بين البشر. الى ذلك فإن غالبية المجامع الفقهية المنتشرة في العالمين العربي والإسلامي أجمعت على رفض ما تقوم به الحركات التي تمارس العنف سواء كانت تنظيم القاعدة أو غيرها، فالعنف والارهاب محرّمان في الإسلام.
أشرت الى أن المجامع الاسلامية رفضت العنف الذي تمارسه جماعات معينة. من المسؤول عن الخطاب التكفيري الموجه ضد المسيحيين؟ والى أي حد تشكل فتاوى الإمام ابن تيمية رافداً فقهياً لتكفير الآخر؟
الخطاب التكفيري مرفوض من كل المرجعيات الدينية ومن المجامع الفقهية ومن أهل العلم، وهذا الخطاب يسيء الى الاسلام والمسلمين، ويشوه الدعوة الاسلامية الهادفة الى عبادة الله الواحد الاحد، وتكريم الانسان واعمار الارض، بالعلم والايمان، والاعتماد على أقوال الامام ابن تيمية ومواقفه هو اعتماد في غير محله لأن الزمان والمكان مختلفان، فابن تيمية كان في زمن الفتن وزمن اجتياح التتار والمغول لبلادنا ولعاصمة الخلافة بغداد، وقد بنى فتاواه على المعطيات التاريخية التي عاصرها، والفتاوى لا يمكن أن تبنى إلاّ على المعطيات، وعليه فإن زماننا يختلف عن تلك الازمنة وأعداءنا مختلفون، واستنباط الاحكام الشرعية يتأسس على النصوص والاجواء التي تحوط بالامة، وخصوصاً إذا لم يكن هناك نص ثابت في الكتاب والسنّة، فالقاعدة الفقهية تشير الى أن لا اجتهاد في مورد النص، وتفسير النص له شروطه من حيث العلم والالتزام وفقه اللغة ونقاء العقيدة ومصلحة الأمة، التي أرداها الله أن تكون أمة وسطاً تحمل السلام الى العالم كله. وعليه، لا يمكن الاعتماد على فتاوى تم استخراجها منذ مئات الاعوام، وتحديداً ما يتعلق بقتال الغزاة والمتعاملين معهم، ولا بد من قراءة أي من الآيات القرآنية الكريمة وفقاً لمصلحة الامة ولأسباب النزول.
«أقليات مسيحية خائفة وهجرة جماعية تصل تقريباً إلى حد محاكاة الأبعاد التوراتية»، بهذه العبارة يوجز الكاتب السياسي روبرت فيسك في مقالة كتبها العام 2009 في صحيفة «انديبندت» هواجس مسيحيي الشرق الذين تتناقص أعدادهم في شكل ملحوظ منذ الاحتلال الاميركي للعراق وقبله بكثير. ونزف الهجرة الذي لم يقتصر على المسيحية الشرقية، بل تعرضت له كل فئات العالم العربي بسبب الأزمات السياسية والحروب والأوضاع الاقتصادية المتردية، سجل أرقاماً مخيفة قد تؤدي مستقبلا الى خسارة هذا الشرق المأزوم تعدده الديني.
يراوح عدد المسيحيين في العالم العربي بين 12 الى 15 مليون نسمة، غالبيتهم يعيشون في مصر، ويتوقع المراقبون أن يتراجع العدد الى 6 ملايين نسمة فقط بحلول سنة 2020 نتيجة موجات الهجرة المتتالية. وتفيد الاحصاءات أن عدد المسيحيين في تركيا بلغ مليوني نسمة العام 1920 وبدأ بالتراجع الى آلاف، وفي سورية قارب المسيحيون معدل ثلث السكان، وتناقصوا الى نحو 10 في المئة من عدد السكان الاجمالي. أما في لبنان فقد شكل المسيحيون العام 1932 ما نسبته 55 في المئة من السكان، واليوم وصل عددهم الى أقل من 30 في المئة مع العلم بأن هناك تقديرات متضاربة لعددهم الحقيقي. وفي مصر ثمة تناقض بين الارقام التي تقدمها الكنيسة القبطية والتي تصل الى 12 مليوناً وتلك التي تقدمها جهات أخرى مشيرة الى أن نسبة الاقباط لا تزيد على 6 في المئة من عدد السكان. وفي فلسطين المحتلة وتحديداً في مدينة الناصرة شكل المسيحيون قبل العام 1948 نسبة 60 في المئة وتناقصت اعدادهم تدريجاً، فيما بلغ عددهم في القدس العام 1922 نحو 15 ألفا ثم تراجع حتى وصل الى معدل 2 في المئة. والعراق الذي شهد هجرات مسيحية جماعية منذ سقوط نظام صدام حسين، بلغ عدد المسيحيين فيه قبل الاحتلال الاميركي نحو 800 ألف شخص، واليوم أصبحوا آلافاً عدة وتحديداً إثر العمليات الارهابية التي شنتها «القاعدة» على بعض الاحياء المسيحية، وآخرها تفجير كنيسة سيدة النجاة يوم 31 اكتوبر 2010 ما أدى الى مقتل أكثر من 46 شخصاً وجرح أكثر من 100. والجدير بالذكر أن أعمال العنف التي بدأت العام 2003 أدت الى خطف المطران الكلداني الكاثوليكي بولس فرج رحو وقتله في مارس 2008.
لكن النزف المسيحي في العراق لا يتوقف عند حدود الهجرة، فبعض المسيحيين يتعرضون لعمليات ترحيل وهذا ما حصل في السويد، التي قررت حكومتها العام الماضي ترحيل نحو 20 عراقياً بالقوة منهم خمسة مسيحيين. وفي هذا السياق قالت متحدثة باسم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إن «المفوضية تجدد دعوتها كل الدول الى تجنب ترحيل العراقيين القادمين من المناطق التي يسودها العنف»، وأكدت أن الترحيل يأتي في وقت يسجل ارتفاعا ملحوظا في عدد المسيحيين الفارين من بغداد والموصل الى كردستان ونينوى، والذين وصل عددهم الى نحو 1000 عائلة مطلع شهر نوفمبر 2010.
مذبحة كنيسة سيدة النجاة في بغداد شكلت الهدف الأول لـ «القاعدة» التي نشرت قائمة بأسماء عدد من الكنائس المدرجة كأهداف لضربها. والقائمة التي كشفها في مطلع ديسمبر الفائت موقع «شموخ الإسلام» تضم امكنة عبادة قبطية يبلغ عددها 50 كنيسة في مصر والدول الاوروبية من بينها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وقد تكون كنيسة القديسين في الاسكندرية احد اهدافها، بعدما لمحت السلطات المصرية الى مسؤولية «القاعدة» في تفجيرها. ووفق ما ذكرته قناة «فرانس 24» طالب تنظيم «دولة العراق الإسلامية» التابع لـ «القاعدة» في تسجيل، باطلاق امرأتين قبطيتين قيل إنهما اعتنقتا الإسلام وأعيدتا بالقوة الى الكنيسة، واضاف التنظيم انه في حال لم يفرج عن المرأتين «فالقتل سوف يعمكم جميعاً وسيجلب بابا الاقباط شنودة الدمار لجميع نصارى المنطقة».
المرأتان القبطيتان وهما كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين، زوجتا كاهنين قبطيين أثار الحديث عن اعتناقهما الاسلام جدلاً في مصر، رغم أن الكنيسة القبطية نفت ما حدث. والعمليات الارهابية التي تقوم بها «القاعدة» ضد المسلمين والمسيحيين تترافق مع بيانات يصدرها قادة ينتمون الى هذه الحركة الارهابية العابرة للقارات. وسبق أن دعا الرجل الثاني في «تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب» سعيد الشهري انصار «القاعدة» الى قتل المسيحيين الذين يعيشون في المملكة العربية السعودية، في شريط صوتي بث على الانترنت. وقال الشهري الذي كان مسجوناً في معتقل غوانتانامو: «من كان يعمل منكم في حراسة الطواغيت من الامراء والوزراء أو المجمعات التي يسكنها النصارى أن يستطيع أن يصل اليهم فليستعن بالله على قتلهم». ولم يكتفِ بذلك بل دعا الى الاطاحة بالنظام السعودي حين طالب في شهر يونيو 2010 أنصار القاعدة بخطف افراد الاسرة الحاكمة والمسيحيين.
الخبير في شؤون «القاعدة» ناظم الجبوري رأى أن التنظيم يعد من أكثر الرابحين من عدم وجود حماية أمنية للأقليات المسيحية في العراق، مشيراً إلى وجود صلة بين تفجير الكنيسة في مصر وعملية استهداف المسيحيين في بلاد الرافدين. وقال إن «هناك جهتين تستهدفان المسيحيين العراقيين، الأولى هي تنظيمات القاعدة، والأخرى تتمثل في بعض الميليشيات التي تريد تفريغ بعض المناطق من المسيحيين». واضاف أن «هناك معركة دينية تقودها القاعدة ضد المسيحيين في العراق بغية بعث رسالة إلى العالم مفادها أن الحكومة العراقية ومؤسساتها الأمنية ما زالت عاجزة عن حماية الأقليات الموجودة في العراق».
وتابع الجبوري ان «هناك صلة بين حادث تفجير الكنيسة في مصر وعملية استهداف المسيحيين في العراق، فالقاعدة هددت سابقاً باستهداف الكنائس القبطية المصرية، ما لم يتم الإفراج عن امرأتين قيل إنهما اعتنقتا الاسلام». ولكن هل ثمة فقه بنت عليه «القاعدة» عدتها لقتل غير المسلمين؟
التيار السلفي الجهادي الذي تقوده «القاعدة» يعتمد على بعض الآيات الواردة في القرآن الكريم تعرف بـ «آيات السيف»، وقد أجمع عدد من العلماء ورجال الدين على القول انها نسخت كل الآيات المخالفة، والنسخ يعني أن تلك الايات المخالفة «سقط حكمها وبقى رسمها» ولا يبنى عليها أي أثر تشريعي. ويقول التنظيم إن «عدم الايمان بالله والاسلام يعتبر بحد ذاته مبرراً لإباحة قتل الانسان حتى اذا لم يكن هذا الأنسان عدواً محارباً».
واليوم بعدما شهدت مصر مذبحة الاسكندرية عقب العملية الارهابية التي شنتها القاعدة على كنيسة سيدة النجاة في بغداد، ما موقف الإسلام من ارهاب «القاعدة»؟ والى أي مدى تشكل فتاوى السلفية الجهادية منطلقاً لتكفير المسيحيين وقتلهم؟ وكيف قرأ ممثلو الكنيسة القبطية ما حدث في كنيسة القديسين؟ هذه الأسئلة وغيرها حملتها «الراي» الى المدير العام للعلاقات العامة والإعلام في دار الفتوى الشيخ خلدون عريمط، وممثل الأقباط في لبنان الأب رويس الاورشليمي.
رويس الأورشليمي: لا علاقة للعنف بالإسلام
... متمسكون بأرضنا وسنبقى فيها
رأى الأب رويس الاورشليمي أن الاسلام لا يتحمل المسؤولية عن الجريمة، مؤكداً رفض كل المصريين للتطرف. وأكد أن العملية التفجيرية في كنيسة القديسين تستهدف النظام، محيلاً استهداف الكنيسة على مشروع خارجي يهدف الى تفكيك العالم العربي وذلك عبر هذا الحوار الذي نورد إليكم نصه.
تفجير كنيسة القديسين في الاسكندرية طرح علامات استفهام عن مسؤولية الحركات المتطرفة من جهة وعجز النظام المصري عن تأمين الحقوق السياسية والأمنية للأقباط من جهة أخرى. ما رأيكم في ذلك؟
الاسلام لا يتحمل مسؤولية هذه الجريمة، والقسم الأكبر من المتطرفين داخل مصر وخارجها غير مقبول بهم، وبعد تفجير الكنيسة شهدنا احتجاجات من أبناء مصر والنظام، وهذا دليل على أن ظاهرة التطرف الإسلامي ليست من مكونات المجتمع المصري، ولكن هذا لا يلغي وجود بعض المتطرفين الذين لا دين لهم ولا هوية، ومشهد العنف والارهاب الذي تعرضت له كنيستنا لم تسلم منه أكبر الدول واعني الولايات المتحدة. لا شك أن هناك جذوراً لبعض القضايا السياسية العالقة بين النظام والاقباط لا سيما ما يتعلق بالحقوق السياسية، وفي رأيي أن العملية التفجيرية تستهدف النظام نفسه، والنسيج المصري التعددي، وأياً كان المسؤول عما جرى فهو منبوذ من الجميع وفي مقدمهم السلطة.
حادثة الاسكندرية تبدو ظاهرة جديدة على مصر وسبق لتنظيم «القاعدة» أن هدد باستهداف الأقباط على خلفية احتجاز امرأتين قبطيتين قيل انهما اشهرتا إسلامهما. ما ردكم؟
قد تكون هذه الظاهرة جديدة على مصر لكن استهداف المسيحيين من جانب القاعدة موجود في العراق منذ اعوام، وعلينا أن نقطع كل الايدي التي تتعرض لأمن كل المصريين من دون استثناء، والأقباط لا يمكنهم مواجهة الجماعات المتطرفة إلاّ عبر تمسكهم بأرضهم، ونحن متمسكون بأرضنا وسنبقى فيها، ومصر قادرة على جبه الخطاب المتطرف ونجحت في ذلك، ودليلنا ما جرى من تظاهرات واحتجاجات ضد الارهاب قام بها كل المصريين، داعين الى الوحدة والعيش المشترك، ما يعني أن العنف لا علاقة له بالاسلام ولا بالنسيج المصري.
الى أي مدى يمكن المواطنة والمساواة في الحقوق السياسية أن تؤديان الى حماية الأقباط في ظل ما يُثار من حديث عن تهميش النظام لهم؟
- لا شك أن المواطنة السياسية المصحوبة بروح التسامح تساهم في تأمين الحقوق للجميع وليس للأقباط فقط، ولكن المطلوب معاقبة المسيئين الذين تسببوا بالعملية الارهابية كي لا تتكرر أياً كان المسؤول عن هذا التخريب للعيش المشترك في مصر.
المسألة الطائفية في مصر ليست جديدة وبرزت منذ حقبة الرئيس الراحل أنور السادات على خلفية بناء كنيسة الخانكة. هل ترون ان النظام يعرقل حرية التعبير الديني للأقباط؟
فترة الرئيس الراحل أنور السادات كانت مختلفة عن فترة الرئيس حسني مبارك. الرئيس المصري كان أول من تصدى لما يسمى المسألة الطائفية، وما كان يجري من احتكاك بين المسلمين والاقباط هو حوادث فردية وبسيطة. المسألة الطائفية تدعمها ايد متطرفة تريد في الدرجة الأولى زعزعة استقرار العالم العربي وليس مصر فقط، فهناك تقارير وتحليلات تتحدث عن تقسيم جديد للمنطقة، وهي ترتبط بمشاريع خارجية تعمل على تفكيك وحدتنا وعيشنا المشترك، والرئيس حسني مبارك تحدث عن أيدٍ خارجية وتعاون داخلي.
أين موقع الإسلام من العلاقة مع الآخر الديني؟ وهل أثبت التاريخ الاسلامي تسامحه حيال مسيحيي الشرق؟
الإسلام أنصف المسيحيين في أوقات كثيرة وهناك شواهد تاريخية تدل على ذلك، من بينها التسامح الذي أبداه الخليفة المعز لدين الله، فقد اعترض البعض على بناء احدى الكنائس واحدهم نزل الى قلب أساسات الكنيسة لمنع البناء، فطالب الخليفة المعز بمتابعة بناء الكنيسة قائلاً: «ابنوا فوقه».
يشهد الشرق الاوسط هجرات متزايدة للمسيحيين، ما تفسيرك لهذه الهجرة وما أبرز أسبابها؟
لا أرى هجرة للمسيحيين إلاّ في العراق فقط، وأسباب هجرتهم تعود الى انفلات الوضع الأمني، وعدم قدرة الحكومة العراقية على بسط سلطتها على كامل أراضيها. في مصر ولبنان يختلف الوضع، هناك استقرار وتعايش وسلام. هجرة المسيحيين طبعاً ترتبط بالازمات والحروب التي تزايدت مع الحرب العراقية ـ الايرانية والاحتلال الاميركي للعراق، وأسبابها سياسية واقتصادية، وتلك الأزمات لا توفر أحداً في العالم العربي.
ثمة وجهات نظر مختلفة حول عدد الأقباط في مصر. ما عددهم؟ وما نسبة تمثيلهم في مجلس الشعب؟
صرح قداسة البابا شنودة أن عدد الأقباط يصل الى 12 مليونا وهذه الاحصاءات أعلنتها الدولة أيضاً. أما نسبة تمثيل الاقباط في المجلس فهي 10 مقاعد ثلاثة من اصحابها نجحوا في الانتخابات وسبعة عينهم رئيس الجمهورية.
ولماذا التعيين؟
لأن الشعب القبطي يتداخل مع المسلمين داخل المناطق والاحياء، لذلك لا يصل العدد كاملاً الى المجلس، ولا وجود لأي تمييز ديني يمنع حجم التمثيل، الاسباب ترتبط بطبيعة المناطق وتداخلها.
خلدون عريمط: المسيحيون مواطنون عرب
والحركات المتشددة مشوهة العقيدة
أكد الشيخ خلدون عريمط أن تفجير كنيسة الاسكندرية حلقة من حلقات الاساءة الى المسلمين، مشدداً أن ما حدث لا علاقة له بالاسلام ديناً وعقيدة. ورأى ان هجرة المسيحيين من الشرق لا ترتبط فقط بالحركات المتشددة، لافتاً الى أن الهجرة تطاول المسلمين والمسيحيين. واوضح أن ما يسمى «آيات السيف» تحتاج الى أهل العلم لمعرفة أسباب نزولها، ولا يمكن «الآيات التي تشير الى معاقبة جماعة من الجماعات أن تكون أسبابها مفتوحة الى الأبد».
بعد ما حدث في كنيسة الاسكندرية ما موقف الإسلام من هذه العملية الارهابية؟ وكيف يمكن مقاربة ذلك من زاوية العلاقات الإسلامية ـ المسيحية؟
ما حصل في الاسكندرية وما سبقه من تفجير آثم في كنيسة النجاة في بغداد هما حلقة من حلقات الاساءة الى الإسلام والمسلمين، الى الاسلام كعقيدة والى المسلمين كمجموعة بشرية أرادها الله سبحانه وتعالى أن تكون حاملة لرسالة الإسلام الذي يتبنى شعار الرحمة للعالمين لقوله عز وجل لمحمد عليه الصلاة والسلام، «وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين». إذاً الاسلام رحمة وتعارف وتعاون وهداية لتوحيد الخالق وتكريم الانسان انطلاقاً من قوله «ولقد كرمنا بني آدم». نستطيع ان نؤكد أن كل تفجير أو قتل أو تخريب لأي مواطن آمن في بيئته العربية والاسلامية او في أي مكان من العالم، خدمة مجانية لاعداء العرب والمسلمين، خصوصاً العدو الصهيوني، وعلينا أن ندرك جميعاً، مسلمين ومسيحيين، أن الحركة الصهيونية من أهدافها الاساسية في المدى القريب والبعيد، التمهيد لصراع الاديان وصراع الحضارات، بغية اداء دورها في هذا الصراع، فالعقلية الصهيونية، عقلية معقدة تمارس الفوقية والعنصرية بحجج واهية بذريعة ان اليهود «شعب الله المختار». العلاقات المسيحية ـ الاسلامية في شرقنا العربي كانت ولا تزال علاقات ودّ واحترام متبادل، قائمة على المواطنة والانتماء، بدليل ان المسيحية كعقيدة والمسيحيين كابناء وطننا وامتنا هما جزء أساسي من تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، وهذه العلاقات مثلت نموذجاً لانصهار الأمة وقدرتها على مواجهة التحديات التي مرت بها منذ أكثر من 1400 عام.
مسيحيو الشرق يعانون قلقاً وجودياً في ظل تناقص اعدادهم من جهة وتصاعد وتيرة الحركات الاسلامية العنفية من جهة أخرى. أين موقف الاسلام من الحفاظ على هذا التعدد وحمايته في آن واحد؟
لا أحبذ استعمال عبارة أن المسيحيين في بلادنا في تناقص أو تزايد، لأن المسلمين والمسيحيين هم مواطنون ينتمون الى هذه الارض، والى هذا الوطن العربي الكبير من المحيط الى الخليج. والهجرة في بلادنا ترتبط بالحروب والازمات الاقتصادية والسياسية، فضلا عن الوجود الصهيوني في فلسطين، وهي تصيب أبناء الوطن والأمة من المسلمين والمسيحيين، ومن هنا يلاحظ أن عدد المسلمين النازحين من الشرق في تزايد داخل أوروبا وأميركا وحتى في بعض البلدان الآسيوية، فالهجرة عامة ومتحركة بغض النظر عن عقيدة هؤلاء المهاجرين، سواء كانوا مسلمين او مسيحيين، والمفارقة المهمة تركيز الضوء على هجرة المسيحيين دون سواهم. أما ما يتعلق بالحركات المتشددة ودورها في إفراغ الشرق من تعدده، فهذه الحركات تستهدف المواطنين المسيحيين كما تستهدف الإسلام، وتمارس عنفها في كثير من البلدان العربية والاسلامية، وهي حركات مشوهة العقيدة والسلوك، ولذا علينا في مجتمعاتنا وعلى المؤسسات الدينية والسياسية الارتقاء نحو المواطنة والحد من الخطاب الطائفي والمتوتر.
تستشهد بعض الحركات الإسلامية بـ «آيات السيف» لتحديد موقفها من الآخر الديني أي أهل الكتاب. ما موقف الاسلام الرسمي من هذه الآيات؟ وهل يمكن الاستعانة بها في الأزمنة الراهنة؟
ليس هناك إسلام رسمي وإسلام غير رسمي، الإسلام شريعة وعقيدة وبناء حياة. وتفجير كنيسة النجاة في بغداد وكنيسة القديسين في الاسكندرية يرفضهما الاسلام جملة وتفصيلاً، والرسول عليه السلام وصحابته رضوان الله عليهم خلال حروبهم وفتوحاتهم شرقاً وغرباً، لم يفجروا أو يعتدوا على مركز عبادة سواء كان مسيحياً أو يهودياً، ولذلك كانت وصية أبو بكر الصديق «لا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا أسيراً ولا تقطعوا شجرة وستجدون أناساً في صوامعهم فدعوهم وما يعبدون»، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام للمسلمين وهم يدخلون مصر «استوصوا بالاقباط خيراً» وقوله سبحانه في القرآن الكريم «لتجدن أقرب الناس مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك أن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون». أما آيات السيف فالاسلام لا يمكن ان يفسرها مزاجياً، أو بخلفية سياسية، بل يتم تفسيرها من خلال سلوك الرسول بأقواله وأفعاله، وسلوك صحابته وخصوصاً الخلفاء الراشدين، الذين قال عنهم المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون «ما رأيت في التاريخ فاتحاً أرحم من العرب» وهذه الرحمة لم تكن عربية إنما كانت إسلامية، لأن العرب التزموا الاسلام كعقيدة وسلوك وكانوا رسل محبة وهداية وتعاونوا وتعارفوا مع أبناء الأمم الاخرى. المسلم الحقيقي لا يمكن أن يكون قاتلاً لأي إنسان آخر سواء كان من أبناء عقيدته او من أبناء العقائد الاخرى، ومن هنا كان قوله سبحانه وتعالى لمن نختلف معهم في العقيدة «لكم دينكم ولي ديني» وقوله عز وجل في القرآن الكريم «وجادلهم بالتي هي أحسن» وأي سمو وتسامح وحرية من قوله سبحانه وتعالى «من شاء ليؤمن ومن شاء فليكفر» وإذا كنا نؤمن بان الاسلام رسالة من الله ورحمة فهذا يعني أن كل عمل أو فعل يسيء الى الانسان أياً كان لونه أو عرقه أو عقيدته ليس من الاسلام في شيء، والايات القرآنية التي تشير الى القتال والسيف، علينا أن نسأل أهل العلم عن أسباب نزولها لأن كل آية في القرآن الكريم نزلت لسبب زمني ومكاني، والآيات التي تشير الى معاقبة جماعة من الجماعات لا يمكن أن تكون أسبابها مفتوحة الى الابد، وتفسير هذه الآيات واستنباط الاحكام الشرعية منها هما من اختصاص المجامع الفقهية وكبار الأئمة وعلماء الدين الذين أجمعوا على أن الاسلام دعوة وهداية بين البشر. الى ذلك فإن غالبية المجامع الفقهية المنتشرة في العالمين العربي والإسلامي أجمعت على رفض ما تقوم به الحركات التي تمارس العنف سواء كانت تنظيم القاعدة أو غيرها، فالعنف والارهاب محرّمان في الإسلام.
أشرت الى أن المجامع الاسلامية رفضت العنف الذي تمارسه جماعات معينة. من المسؤول عن الخطاب التكفيري الموجه ضد المسيحيين؟ والى أي حد تشكل فتاوى الإمام ابن تيمية رافداً فقهياً لتكفير الآخر؟
الخطاب التكفيري مرفوض من كل المرجعيات الدينية ومن المجامع الفقهية ومن أهل العلم، وهذا الخطاب يسيء الى الاسلام والمسلمين، ويشوه الدعوة الاسلامية الهادفة الى عبادة الله الواحد الاحد، وتكريم الانسان واعمار الارض، بالعلم والايمان، والاعتماد على أقوال الامام ابن تيمية ومواقفه هو اعتماد في غير محله لأن الزمان والمكان مختلفان، فابن تيمية كان في زمن الفتن وزمن اجتياح التتار والمغول لبلادنا ولعاصمة الخلافة بغداد، وقد بنى فتاواه على المعطيات التاريخية التي عاصرها، والفتاوى لا يمكن أن تبنى إلاّ على المعطيات، وعليه فإن زماننا يختلف عن تلك الازمنة وأعداءنا مختلفون، واستنباط الاحكام الشرعية يتأسس على النصوص والاجواء التي تحوط بالامة، وخصوصاً إذا لم يكن هناك نص ثابت في الكتاب والسنّة، فالقاعدة الفقهية تشير الى أن لا اجتهاد في مورد النص، وتفسير النص له شروطه من حيث العلم والالتزام وفقه اللغة ونقاء العقيدة ومصلحة الأمة، التي أرداها الله أن تكون أمة وسطاً تحمل السلام الى العالم كله. وعليه، لا يمكن الاعتماد على فتاوى تم استخراجها منذ مئات الاعوام، وتحديداً ما يتعلق بقتال الغزاة والمتعاملين معهم، ولا بد من قراءة أي من الآيات القرآنية الكريمة وفقاً لمصلحة الامة ولأسباب النزول.