نادين البدير / سليل الشاعر

تصغير
تكبير
| نادين البدير |

نشأ وارتقى شاعرنا وصار إعلامياً بفعل اختلاف العصور واختراع الصحافة. جذور الإعلامي المرموق تتحدر من نسل شاعر المديح الذي لازم بلاط السلطان، يزاوج الشعر بالإعلام ببراعة يحسدها عليه المتنبي. يتبارى لكسب ود السياسي. يحول أبياته لقطع ورقية تناسب العوام وتناسب جهل السلطان.

صحافي يستخدم القلم أو مذيع يستلم بالميكروفون. اتخذ أشكالا إعلامية عدة لتمرير رسائله للوالي عن طريق وسائل الإعلام الحديثة، التي يمتلك معظمها السلطان، بعد أن كان يلقيها شفاهة على مسمع الوالي ومرآه، والوالي مبتهج فالأدوات الحديثة يشاركه بها كل أفراد الشعب، هكذا يضمن أن تقرأ الرسالة على مسامع الجميع فيتغنى بحكمه الجميع.

يمجد ويبجل ويلعبها بدقة مذهلة، لوهلة تخيلت أن رأيه الجهور بإنجازات السلطان يدور حول معجزة لنبي أو عرش لإله تماماً كتشبيهات جده القديم. لا فرق بين أن يكون السلطان ضمن المشجعين على التبجيل أو أن تجري التبجيلات دون إذن منه فتخطب وده وترجو رضاه بطريقة عفوية لاإرادية، السبب أن المديح والنفاق ترسخا بقوة في مجتمعنا وأصبحا ثقافة أصيلة. كل هذا نتاج لفعلة الشاعر القديم الذي أسبغ على الحاكم بمزايا لا تمت له بصلة، نافق له. مارس الكذب عليه، فنال العطايا والتبريكات واستلم رتبة شاعر الدولة بجدارة.

وسليله الحافي يكذب. يكذب كثيراً. حتى في الأوقات التي يتطابق بها المديح مع شخصية الممدوح الحقيقية، فإن هدف المديح هو المديح لكسب الود لا لإبراز إيجابيات الممدوح بنظرة ناقدة. والإعلامي المقصود له وجوه عدة، فمقالاته وآراؤه تتغير بتغير المواقف السياسية لرجل الدولة. باختصار ليس له رأي. تقرأ له مقالا هذا الصباح يكيل به الشتائم لدولة ما وكيف أنها تشجع وتحض على الإرهاب...الخ وبعد مؤتمر قصير للقادة الكبار، تتغير نكهة المقال فيكيل المديح لذات الدولة وكيف أنها بنظره الخاص رمزا للسلام. إعلامي البلاط بامتياز.

وإعلامي البلاط ليس فردا واحدا أو أفرادا عدة، بل مجموعات كبيرة من الشعراء زجوا بأنفسهم في مجال الإعلام كوسيلة عصرية للحصول على الغنائم مستخدماً الكلمات ومتلاعباً بالحروف لتكوين عبارات الإطراء.

بعد الإعلان عن قرار سياسي تمتلئ صفحات الجرائد بمقالات تعبر عن آراء أصحابها، أصحابها مستغربون من حنكة السلطان وذكائه وإلهامه وقوته السياسية الخارقة وتأثيره الإقليمي الفعال، يصفقون لموقفه ويمتدحونه ويتسابقون لتسجيل رأيهم الداعم للسلطة، هل يأمرهم أحد بذلك؟ هل ترسل لهم وزارة الداخلية بياناً آمراً بضرورة امتداح السلطان وحاشيته وعائلته وأصدقائه وكل المقربين له؟

لا. لا يحدث الأمر كذلك، صحيح أن النظام في كل بلد عربي يرفض المعارضة ويعجبه أن يكال له المديح لكن الأمر لا يتعلق برغبات النظام فقط إنما بالثقافة التي تغذينا عليها، ويتعلق بمنهاجنا الدراسية المتخلفة الزاخرة بأشعار المديح المتداولة المتوارثة لتصير جزءا من تكوين العقل العربي المستسلم..... الأنفة والشراسة العربية صارت لينة وتم تطويعها بفعل الأدب والشعر والتشبيهات البلاغية المفرطة في الميوعة والمبالغ بها. وبفعل أشياء أخرى، فحتى القرآن الكريم لم يسلم من توظيفه سياسياً لضمان تأييد الشعوب المغلوب على أمرها. إن طاعة الحاكم من طاعة الله ومجده مستمد من مجد الله.

أراد الشاعر للسلطان أن يتبوأ مكانة قريبة من مكانة الله، هذا لن يتم إلا بتعزيز ثقافة الإذعان للحاكم وإقران رضاه برضا الله ليصبح أمره مقترنا بالألوهية فيدفع للركوع إليه.

غيرة وانبهار برفض السؤال (عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) السؤال الممنوع يعني أن القرار نهائي وعادل وحكيم وجسور... يؤكد ذلك الإعلامي سليل الشاعر القديم.

في الثمانينات كتب ما لا يحصى من المقالات الصحافية لتشجيع الجهاد في أفغانستان. لم يكن هناك صحافي ينتقد ما يجري، ليس إيمانا بالجهاد إنما دفاع عن موقف الدولة الراعية لخدمة أميركا في مواجهة الروس. وذات الأقلام تكتب اليوم عن الإرهاب الذي نما نتيجة الجهاد بأفغانستان ولا تكتب عن ان الإرهاب لم ينمو بسبب الجهاد بأفغانستان فقط بل بسبب تأييد الأنظمة لظهور الحركات الإسلامية نكاية في التيارات القومية والشيوعية والتقدمية ضف إلى ذلك عدم إدماج المجاهدين (الذين شجعتهم الحكومات للجهاد) في المجتمع مرة أخرى وتركنا لأفغانستان دولة بمهب الريح. ليس لإيمان الكاتب بالخطأ الذي وقع جراء تلك البعثات الجهادية بقدر ما هو تأييد لموقف السلطان. ورغم كل تداعيات الجهاد التي عانى منها الناس فكلها صبت لصالح السلطان.

العلاقة بين السلطة والشاعر قديمة. أصاب الزلزال مصر ذات يوم فقال الشاعر للسلطان:

وما زلزلت مصر من كيد ألمّ بها ولكنها رقصت من عدلكم طرباً

هكذا مات الناس من فرح الطبيعة بعدالة السلطان.





كاتبة وإعلامية سعودية

nadinealbdear@gmail.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي