مشاهد / تسعة أسباب لقطع الأذن

u064au0648u0633u0641 u0627u0644u0642u0639u064au062f
يوسف القعيد
تصغير
تكبير
| يوسف القعيد |

في كتابه الجميل: «الفن والغرابة... مقدمة في تجليات الغريب في الفن والحياة». للدكتور شاكر عبدالحميد. الذي أصدرته دار ميريت. ثم صدرت منه طبعة جميلة عن مكتبة الأسرة **أخيرا. فصل أخير عنوانه: «فنانون وغرباء». فيه جزء عن فينسينت فان جوخ. أتوقف أمامه ليس جريا وراء التوابل الصحافية الخاصة بسرقة لوحته: زهرة الخشخاش. لكن أمام واقعة قطع أذنه.

وفان جوخ 1853 1890 ابن قس بولندي شديد التدين. علَّم نفسه الفن. كان طفلا هادئا. اتسم بالتحفظ والعناد وعدم الميل إلى الاختلاط بالناس. يدخن بشراهة. كان متميزا بشعره الأحمر وبالتشبث بالرأي والتقلب المزاجي ومحبا للتنقل من مكان لآخر. أنتج ألفي عمل عبر سنوات عشر. وفي يوم حار من يونيو 1890 وفي ضاحية جنوب غرب باريس. أطلق النار على نفسه. ومات في السابعة والثلاثين. وهو في العمر نفسه الذي مات فيه فنانون تشكيليون عظام. أمثال تولوز لو تريك، وواتو، وكارفاجيو، ورافييل. وموسيقيون خالدون أمثال موتسرت.

أتوقف أمام السؤال الأساسي: لماذا قطع فان جوخ أذنه؟ والمؤلف يقدم تسع إجابات للسؤال باعتبار أن حادث قطع الأذن- بعد الانتحار- يعد من أهم حوادث حياة فان جوخ.

ذكر جوجان صديق فان جوخ أنه قبل يوم من قطع أذنه هدده بموسى. ولكن تحت تأثير نظرته الحادة إليه تراجع وهرب. وذكر جوجان أن جوخ كان يكره أباه وأنه جعل كراهيته نحوه رمزا للسلطة والسيطرة التي كان يكرهها.

إن فان جوخ كان واقعا تحت تأثير الإحباط بسبب حدثين هما: خطبة أخيه ثيو واستعداده للزواج. وكان جوخ يعتمد عليه في حياته. وكذلك فشله في إقامة حياة عملية وإنسانية طيبة مع جوجان.

إن فان جوخ كان شديد التأثر بمشاهدة مصارعة الثيران في جنوب فرنسا. وفيها يُعطي المصارع أذن الثور الذي يقتله كمكافأة. ثم إنه يعرض جائزته على الجمهور. ثم يعطيها لسيدة يختارها. كان فان جوخ خلال حياته ثورا مقتولا ومصارعا منتصرا.

وخلال اضطرابه قدم أذنه لسيدة اختارها أيا كان سلوكها «سبب كلام الدكتور شاكر عبدالحميد عن سلوك السيدة الإجمـــاع على أنــها غـــانية لعـــوب».

خلال فترة تشويه أذنه كان هناك نحو خمسة عشر مقالا في الصحف اليومية حول جاك السفاح. الذي كان يقوم بتشويه أجساد بنات الهوى اللائي يقتلهن وأحيانا ما كان يقطع آذانهن، وربما حفزت هذه الجرائم إحساسا بالمنافسة لدى فان جوخ. فقطع أذنه بوصفه ماسوشيا يتلذذ بتعذيب ذاته وليس كسادي يتلذذ بتعذيب الآخرين. كما كان جاك السفاح. وكما لو كان يقوم بدور معاكس لما قام به جاك. فهو قد شوه نفسه وأعطى أذنه لغانية.

والدة فان جوخ كانت تنظر إليه بأنه ولد سيئ فظ الطباع. ومن ثم فإنه من خلال بعض العمليات الرمزية الذهانية التي أحاطت بتلك الحادثة، أراد أن يقول لها ولغيرها إنه إنسان بائس لا حول له ولا قوة. ليس عدوانيا. ضحية. وعرضة للأذى حتى من نفسه أيضا.

كان فان جوخ في هذه الفترة يرسم لوحة لامرأة تهز مهدا لطفل. وكانت مدام رولنز تقوم بدور الموديل وانجذب جوخ نحوها عاطفيا كما كان شديد الارتباط بأطفالها وزوجها. وأنه بقيامه بقطع أذنه ربما كان يحاول الحصول على الحب والعطف من هذه الأسرة البديلة. ولا يعرف أحد مدى استجابة مدام رولنز لهذا الفعل الغريب. لكن زوجها جاء وجلس الليل بجوار فان جوخ وساعده على علاج جرحه الكبير.

كان فان جوخ يعاني من هلاوس سمعية خاصة. خلال النوبات الذهانية التي كانت تهاجمه وقد كتب أن بعض المرضى المحيطين به- عندما كان في المصحة كانوا يسمعون أصواتا غريبة. وقال أيضا إن ذلك ربما كان راجعا إلى أعطاب وأمراض في الأعصاب السمعية. وعندما مر فان جوخ نفسه بهذه الخبرات الهلوسية. فربما كان قد اعتقد أنه كان بقطع هذه الأذن يتخلص من هذه الهلاوس الغريبة والمخيفة عليه ومن سيطرتها.

في مشهد الحديقة الجثمانية وهي كلمة آرمية تعني معصرة الزيت. وتشير إلى بستان يقع شرق القدس قرب جبل الزيت. وهو مكان ألم المسيح وتسليمه. وفيه قطع بطرس أذن خادم رئيس الكهنة الذي جاء ليقبض على المسيح. وكان اسم هذا الخادم ميلخيس. وهذا المشهد كان في ذهن فان جوخ. وربما رسمه في صيف 1888 وجاء ذكره في خطاب كتبه إلى أخته وفي نوبة هذيان ربما نفذ المشهد. وقام خلاله بدور الجاني والضحية. أي أنه نفذ ما جاء في المشهد الموجود بالعهد الجديد: «وبينما هو يتكلم إذ جمع والذي يدعى يهوذا أحد الاثنى عشر يتقدمهم، فدنى من يسوع يقبله. فقال له يسوع يا يهوذا. أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟ فلما رأى الذين حوله ما يكون. قالوا ياربي أنضرب

بالسيف. وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمـــنى. فأجـــاب يســـوع وقال دعوا إلى هذا ولمس أذنه وأبرأها».

كان فان جوخ يعيش في الظلال المأساوية لأخ آخر مات قبله. وكان اسمه أيضا فينسينت. توفي بعد الولادة. ولذلك كان فان جوخ لديه إحساس مرير بعدم حب أمه له. كانت دائمة الحزن والبكاء على الابن المفقود. وقطع جزء من جسمه كان بمثابة محاولة لكسب عطف الأم وحبها. ومحاولة منه لتعويض الأم عن الابن الذي مات. هدية منه إليها. محاولة منه للتوحد معها من خلال قطع جزء منه بمثابة الابن له وتقديمه لها كتعويض لها عن ذلك الابن المفقود.

لا تتصور أن الأمور وقفت عند هذا الحد. فبعد سنوات طويلة من الحادث ذهب اثنان من مؤرخي الفن التشكيلي إلى المنطقة التي كان يعيش فيها فان جوخ. وقضيا وقتا طويلا في قراءة محاضر الشرطة وأقوال الشهود وملف القضية كله. واتضح لهما ما لم يتأكد منه أحد حتى الآن. أنه جرت مبارزة بين فان جوج وجوجان وأن جوجان كان مسلحا بسيف وأن جوجان هو الذي قطع أذن فان جوخ خلال هذه المبارزة. وقد استند المؤرخان إلى خطاب أرسله فان جوخ إلى أخته يؤكد فيه أن جوجان كان مبارزا محترفا وأنه يوم هذه المبارزة كان مسلحا بسيف. وإن كان فان جوخ لا يشير إلى أن جوجان قد قطع أذنه.

عموما القصة الشائعة التي نميل كلنا لتصديقها والتعامل معها أنها حقيقة مؤكدة أن فان جوخ قطع أذنه ليقدمها هدية للفتاة اللعوب التي أحبها من طرف واحد. أما من هي هذه الفتاة وماذا فعلت بأذنه المقطوعة وماذا كان تصرفها نحوه بعد الهدية الغالية والثمينة. فهذا ما لم نعرفه حتى الآن على الأقل.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي