إن المسألة الأولى المطروحة الآن هي إمكانية مجيء رئيس جمهوري. فالأميركيون ليسوا مهيئين حتى الآن إلى تغيير كبير ينتاقض جذرياً عن الحقبة الجمهورية التي بدأت مع بوش الابن عام 2000، كما أن الأميركيين على الغالب يشعرون بأن حكومتهم ودولتهم تعاني من أزمة كبيرة على الصعيد العالمي، وإن هذا يتطلب منهم انتخاب رئيس قادر على التعامل مع الوضع الدولي بتشعباته كلها. في الوقت نفسه، لم ينجح الديموقراطيون في الكونغرس الأميركي في تحقيق أحلامهم وأطروحاتهم ووعودهم في شأن العراق والأوضاع الاقتصادية. بل هناك الكثير من الضعف في الكونغرس الأميركي تجاه جملة كبيرة من القضايا الداخلية. ويبدو أن المرشحين الديموقراطيين لن ينجحوا في هذه الحملة في الفوز بالرئاسة، فلا باراك أوباما بنظر الأميركيين يمتلك التجربة للتعامل مع المرحلة المقبلة، ولا طرحه قادر على جذب الوسط العام، أما هيلاري كلينتون فهي الأخرى لن تأخذ أصوات النساء كلها، ولم تكن ضد الحرب على العراق، ولن تنجح في إقناع الأميركيين بضرورة تغيير جذري في السياسة الأميركية تجاه العالم الإسلامي. وهذا يعني أن الناخب قد يغيّر توجهاته نحو الديموقراطيين، خصوصاً بعدما رأى أن الكونغرس الذي يسيطر عليه الديموقراطيون هو الآخر لم ينجح في فعل الكثير.
هكذا يجنح الأميركيون لصالح رئيس يعدهم بتكملة المواجهة في ما أصبح يُعرف بالحرب على الإرهاب وإعادة تأمين أمن الولايات المتحدة الذي اهتز كثيراً بسبب ما وقع في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، كما يميل الأميركيون إلى رئيس يطرح عليهم آفاقاً جديدة للنمو الاقتصادي وللضرائب الأقل(وهذا ما يطرحه جولياني بالتحديد) ولاستعادة الدائرة الاقتصادية الأميركية. ورغم الحرب في العراق إلا أن الاتجاه العام في الولايات المتحدة ليس لصالح الهرب من المواجهة، بل لصالح تغيير الاستراتيجية الراهنة. لهذا بين الوضعين الداخلي والخارجي ستكون الحملة الانتخابية هي الأهم منذ زمن بعيد، لأنها ستؤسس إلى مرحلة ينقسم فيها الأميركيون وتتعثر سياساتهم في الشرق الأوسط.
ولكن من الآن وحتى وقوع الانتخابات الأميركية، التي ستدخل حمى السباق المحموم هذا الصيف، سوف تقع أحداث كثيرة. الملف الفلسطيني - الإسرائيلي أصبح على المحك وأصبح المدخل للتعامل مع الوضع العراقي والإيراني. كما أن المسألة النووية الإيرانية هي الأخرى أصبحت الآن على المحك، إذ أصبح واضحاً أن الولايات المتحدة تهيئ لضربة عسكرية، وأن القرار الأميركي هو في تنفيذ المواجهة العسكرية في حالة عدم تراجع ايران عن المشروع النووي وفق تسوية تقبل بها الولايات المتحدة. في غياب هذه التسوية أصبح في عالم المؤكد بأن بوش لن يغادر البيت الأبيض بلا شن حرب جديدة باتجاه ايران. والجدير بالملاحظة أن الحالة الصقورية لم تغادر الولايات المتحدة وهي مستمرة الآن في الادارة الراهنة، ولها ممثلوها في الحملة الأميركية الانتخابية، خصوصاً في صفوف الجمهوريين.
إن مجيء رئيس أميركي مثل جولياني حاكم ولاية نيويورك سابقاً، والذي يطرح سياسات مواجهة، أو مجيء رئيس مثل رومني حاكم ماسيتشوسيتس السابق، والذي يبشر بسياسة أكثر اعتدالاً، ولكن لا تقل متابعة للسياسة الأميركية الراهنة يؤكد أن التطورات التي تتفاعل منذ أعوام ستة سوف تكون مطروحة مع الإدارة الأميركية المقبلة، بينما خرج معظم ممثلي المحافظين الجدد من الادارة الأميركية الراهنة، ولكن هناك من يفكر بطريقتهم من دون أن يكونوا من المنتمين إليهم. وهذا يعود ويؤكد بدوره على استمرارية السياسة الأميركية الراهنة مع تعديلات تكتيكية في السياق الاستراتيجي ذاته الذي تبلور بعد الحادي عشر من سبتمبر.
د. شفيق ناظم الغبرا
أستاذ العلوم السياسية
[email protected]