مشاهد / حكاياتي مع ثورة يوليو

u064au0648u0633u0641 u0627u0644u0642u0639u064au062f
يوسف القعيد
تصغير
تكبير
|يوسف القعيد|
سألت نفسي ماذا تعني ثورة يوليو بالنسبة لي انسانيا؟ والسؤال عن انسانية العلاقة سببه المعاصرة. رحت أستعيد تجربتي الانسانية معها... أقصد تجربة الطفل الذي كنته. وأدونها بكل الصدق الممكن، فما أصعب الصدق وما أسهل الكذب. وما أسهل طريق الكذب للنفوس، وما أصعب طريق الصدق للقلوب.
حاولت، فكانت هذه الكتابة. ليست عن ثورة يوليو التي يؤرخون لها بصدق أو كذب حسب الأحوال والظروف، ولكن ثورة يوليو التي مست جلدي وشممت رائحتها بأنفي وأحسست بها كيانا يلامس حياتي، ويصبح جزءا من مكوناتها. هذه الثورة التي دخلت مشهد حياتي ولم تخرج منه حتى الآن ولن تخرج منه الى الأبد.
كنت في الثامنة من عمري عندما قامت ثورة يوليو... تحدد الأمر في قريتي «الضهرية». مركز ايتاي البارود. محافظة البحيرة... بخروج الأطفال- وأنا بينهم- نلف وندور على دكاكين البقالة نشتري صور محمد نجيب الذي ادعى أهالي قرية قريبة منا على الشط الغربي لفرع رشيد اسمها «النحارية» أن محمد نجيب قائد الحركة المباركة من أبنائها.
وكان الحدث الأول الذي صبغ طفولتي بالدماء... عندما مر القطار السريع الذي كان يُقِل محمد نجيب بمحطة التوفيقية، وهو البلد الوحيد في الناحية التي تتوقف بها القطارات. وتم حشد آلاف الناس من الغلابة والمساكين لتحية أول رئيس لمصر عند مروره. ولأن قطارات الكبار لا تتوقف في المحطات الصغيرة المنسية مهما تم حشد الناس فيها. حتى لو زرعوها بمخاليق الله، فقد تعمد اللقاء بالدماء. رغم أن محمد نجيب كان يركب القطار الملكي بعد أن آل الى الحكم الجمهوري، وان كان لن يسمى بالقطار الجمهوري، ولكنه لم يكن يقف في شرفته المصنوعة من الخشب والأبنوس الجميل لكي يحيي مستقبليه.
وكان الحادث ملونا بالدم والدموع رغم أن مصر لم تكن قد عرفت بعد قطارات الديزل التي تشفط الهواء عند مرورها بالمحطات الريفية وتخلخله وتسحب بعض الواقفين على الرصيف وتقتلهم ويكونون عادة في انتظار القطار الوحيد الذي يتوقف على المحطة في اليوم كله.
ومن تباشير العهد الجديد وصول أحمد حسن الباقوري الى قريتنا ليس باعتباره القطب الاخواني المعروف، ولكن وزير الأوقاف في الحكومة التي تشكلت بعد الثورة البيضاء. مر على أكثر من دوار ومضيفة يملكها أغنياء البلد. نحرت الذبائح وشاهدنا دماءها أمام دوار العمدة، وألقيت خطب التأييد والمبايعة. وقيل يومها أنه عاد الى مصر « هكذا كنا نسمي القاهرة» ومعه تبرعات مالية تدعم الثورة الوليدة، وهكذا أصبح أهل العهد البائد هم أيضا رجال العهد المبارك. ووقفنا نحن أطفال يوليو - لأننا من أولاد الفقراء - في أبعد مكان عن رجل معمم. واحترت يومها في فهم العلاقة بين عمامة الباقوري وكابات الضباط الذين كان معهم.
ومن الأحداث اليوليوية المهمة في قريتي القاء القبض فجأة على الأستاذ «متولي» ولم أعد أذكر بقية اسمه الذي ربما كان اسمه الثاني: بحر. كان نوبيا وكان يعمل سكرتيرا لمدرسة أنصاري سمك الابتدائية. جاءت تجريده من المركز وعادت به والحديد في يديه. وكانت المرة الأولى التي تدخل فيها كلمة «شيوعي» قاموس قريتنا. وقيل يومها أنهم ضبطوا في منزله المؤجر جهازا لاسلكيا يتصل به يوميا بموسكو. وأن يقظة رجال يوليو هي التي مكنتهم من اكتشافه. وتداخلت قضية الأستاذ متولي مع الحكايات التي رواها أبناء القرية الذين يعملون في مصنع كفر الدوار عن اعدام «خميس والبقري». ووصفاهما بالكلمات نفسها: «شيوعيان ملحدان».
في العاشرة من عمري. وبعد عامين على الجولة الأولى. كان عليَّ وزملائي أن نعيد الجولة على دكاكين البقالة لشراء صورة البكباشي الذي أزاح اللواء، وكنا مع الأول ضد الثاني على طول الخط. فقد انحاز اللواء... لكبار الملاك. ولكن البكباشي كان مع فقراء الفلاحين. وكان مربط الفرس هو قانون الاصلاح الزراعي الأول. الذي حاول انهاء ملكية الاقطاع للأراضي الزراعية في الريف دون أن يقترب من النفوذ النفسي والاجتماعي والانساني للاقطاع في القرية المصرية. وهو الذي فشلت كل المحاولات في ايجاد نفوذ بديل له حتى الآن.
لحظة انزال صورة اللواء وتعليق صورة البكباشي مكانها قر في يقيني يومها أن رتبة البكباشي أهم وأخطر من رتبة اللواء. رغم حقائق الواقع. وصورهما أكدت هذا. فاللواء كان يطل علينا من الصورة أقرب الى الرجل الطيب المغلوب على أمره. سبهللة وبسيط. تحب أن تباسطه في الكلام. وربما تحكي له همومك. ولكن هل يمكن أن يكون الفرعون؟! لا وألف لا.
أما البكباشي فقد كانت نظرته التي تطل علينا من الصورة قادرة على أن تعريك من ملابسك. مهموم ومشغول بالوطن حتى في الصورة. أنف صقر وشارب قائد. وفي عمق عينيه يختلط العزم بالتصميم. يطلب منك أن تنصرف الى شؤونك الخاصة وتترك له وحده مسألة الاهتمام بالوطن والاطمئنان على يومه وغده.
انزلقت قرية النحارية من وجدان الناس بالتدريج. وحلت مكانها قرية «بني مر» التي أنجبت الرئيس الجديد وبدأت الألسنة تلوك في سيرة اللواء. قالوا انه مخلط. ليس مصريا خالصا. أب مصري أي نعم ولكن الأم سودانية وأن زمن قدرته على القيادة كان قد مضى. وأن جمال عبدالناصر كان القائد الحقيقي والمخطط الفعلي للثورة منذ يومها الأول.
وان كنت قد اكتشفت أن معظم ما قيل في ذلك الوقت عن «بني مر» لم يكن حقيقيا. فبني مر التي أصبحت قرية مصر الأولى لم تكن مسقط رأس عبدالناصر. عرفت بعد ذلك أن ميلاده كان في قرية صغيرة اسمها الضهرية. في أقرب مكان من مدينة الاسكندرية. وهي الآن أحد الأحياء الفقيرة جدا التي تشكل حزام البؤس الذي يحيط بعروس البحر الأبيض المتوسط.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي