حرية الرأي وحرية الصحافة

ديبورا جونز







ردت السفيرة الأميركية لدى الكويت ديبورا جونز أخيرا على مانشرته «الراي» بتاريخ 17 يوليو الجاري حول تصريحاتها التي تضمنت تعليقها على مسألة موقف بلادها المتناقض ازاء قضايا حرية التعبير وحرية الصحافة في الكويت وفي الولايات المتحدة، ومراهنتها بمبلغ 5 آلاف دولار أميركي في حال اقدام الحكومة الأميركية على حبس أي شخص بسبب تعبيره عن رأي سياسي.
وفي ما يلي نص الرد:
الصحافة الحرة والنشطة هي عنصر حساس في أي ديموقراطية فعالة. لأن الصحافة تلعب دوراً مهماً ليس فقط في تثقيف الشعب، وإنما الصحافة تقوم أيضاً بدور الرقيب على الحكومة، ولهذا فعلى الإعلام أن ينقل المعلومات بدقة ومسؤولية.
تداولت بعض الصحف اليومية والمواقع الالكترونية أخيراً مقتبسات نقلت بشكل مغلوط من تصريح لي حول حرية الرأي وحرية الصحافة في الولايات المتحدة الأميركية، وأريد هنا أن أوضح موقف بلادي حول هذه المسألة بتفصيل أكثر. حرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة هي حقوق مضمونة بالدستور بحسب وثيقة التعديل الأول من الدستور الأميركي وهي من المفاهيم الأساسية التي يؤمن بها المجتمع الأميركي. كما هو الحال في العديد من جوانب مجتمعنا المدني، فإن هذا المفهوم تطور بمرور الوقت، وكما لاحظ الأرستقراطي الفرنسي والموظف الحكومي ألكسيس دو توكفيل قبل حوالي 200 عام خلال زيارة له إلى الولايات المتحدة الأميركية، «أن عظمة أميركا لاتكمن في كونها البلد الأكثر تطوراً من غيرها بل في قدرتها على إصلاح أخطائها».
رغم أن وثيقة التعديل الأول على الدستور كانت بالأصل تطبق فقط على القوانين التي يوافق عليها الكونغرس (مجلس الشعب الأميركي)، إلا أن قراراً من المحكمة العليا في العام 1925 وسع نطاق التطبيق ونص على أن «هذا التعديل على الدستور يشمل في تطبيقه جميع الولايات بما في ذلك القوانين المحلية». لكن حرية الرأي وحرية الصحافة هي ليست حريات مطلقة. فهناك حالات، على سبيل المثال، التحريض على العنف، أو البوح بأسرار أمنية وطنية، وحالات التجريح أو السب والقذف، ففي هذه الحالات تكون حرية الرأي والصحافة محدودة تقيدها تشريعات دستورية أو قوانين يكون لها أولوية على مادة الحريات حسب القانون.
نحن نعتمد على النظام القضائي في تطبيق وصيانة هذه الحريات التي يكفلها الدستور وحتى لا تتم اساءة استخدام هذه الحريات وألّا تتعارض ممارسة هذه الحريات مع قوانين أخرى لها صلة. على سبيل المثال فإن الصحافيين يتمتعون بامتياز عدم الإفصاح عن مصادرهم، في حدود المعقول. ففي القضايا الجنائية يتم اسقاط هذا الحق إذا رأى القاضي أو المحكمة أن جريمة ما قد ارتكبت وأن على الصحافي الإفصاح عن المصادر لمساعدة المحكمة في تحقيق العدالة. في قضية الصحافية السابقة في صحيفة النيويورك تايمز جوديث ميللر التي ورد ذكرها في جريدة الرأي افضل مثال على ذلك. ففي تللك القضية تم احتجاز الصحافية وسجنها ليس لأنها عبرت عن رأيها السياسي، ولكن حجزت بأمر من المحكمة لأن تصرفها اعتبر عائقاً لسير المحكمة في تطبيق العدالة. المحكمة اعتقدت - وكانت صائبة في اعتقادها - أن الصحافية كانت تخفي معلومات عن جرائم خطيرة ارتكبت في الهيئة (مصادر الصحافية كانوا مسؤولين في الحكومة الأميركية قاموا بالإفصاح عن هوية عميل سري في هيئة الاستخبارات، وفي هذا مخالفة لواجبهم الذي أقسموا على أدائه تجاه الحكومة) ولهذا السبب تم اعتقال الصحافية واسقط حقها في امتياز عدم البوح بالمصادر.
الحماية التي تتمتع بها الصحافة في أميركا لم تكن مثالية دائماً ولا واسعة كما هو الحال الآن. ولكن خلال القرنين الماضيين قام صحافيون وناشطون وقضاة وسياسيون أميركيون شجعان بالعمل من أجل تحسين الحماية القانوينة لحرية الرأي وحرية الصحافة. فعلى سبيل المثال، في عام 1798 عندما كانت الولايات المتحدة مهددة بخطر الحرب مع فرنسا قام الكونغرس الأميركي بسن قوانين الأجانب والتحريض على الفتنة لعام 1798 من أجل تأمين الحماية ضد أعمال الفتنة التي قد تؤدي إلى إضعاف الحكومة. بالتحديد فقانون التحريض على الفتنة نص على ما يلي «يعاقب اي شخص يقدم على كتابة، طبع، أو لفظ، أو نشر... الخ أي كتابات فاضحة أو كيدية تحتوي على معلومات غير صحيحة أو مبنية على شائعات ضد الحكومة الأميركية أو مجلس الشعب في الولايات المتحدة الأميركية، أو عن رئيس الولايات المتحدة الأميركية، بحيث يكون الهدف من هذه الكتابات الإساءة إلى سمعة الحكومة أو الكونغرس أو الرئيس المعني أو أن يكون لهذه الكتابات أي أثر يزدري أو يحط من شأن الشخص أو جميع المذكورين سابقاً». انتهت فترة صلاحية قانون التحريض على الفتنة في 3 مارس 1801 مع آخر يوم في رئاسة الرئيس جون آدمز.
ومن جانبه، أدان الرئيس التالي توماس جيفرسون قانون التحريض على الفتنة واعتبره باطلاً لأنه يمثل انتهاكاً للتعديل الأول من الدستور. وعلل الرئيس جيفرسون ذلك بأن الحكومة الفيدرالية تخطت حدودها. واقترح بدلاً من ذلك أن تخضع هذه القضايا لسلطة الولايات كل ولاية على حدة. في الوقت الذي تتمسك فيه الولايات حالياً بقوانين «حماية الصحافة من إفشاء اسم مصدر الخبر»، وهو ما يحفظ حقوق الصحافيين ويكفل لهم حق الامتناع عن الكشف عن هوية مصادرهم في المحكمة ويحمي مصادرهم بشكل قانوني.
أما في ما يتعلق بتسريح شبكة السي إن إن للصحافية اوكتافيا نصر فقد ذكرت أخيراً بأن «السي إن إن، باعتبارها مؤسسة خاصة، لها كامل الحق في تعين أو فصل من تريد وفقاً لمدى التزامه بسياستها الخاصة» وأعيد وأكرر ذلك، وفقا للتعديل الأول من الدستور، يحظر فقط على الحكومة تقييد حرية التعبير بينما يحق للشركات الخاصة وضع الحدود لموظفيها عند تعبيرهم عن أرائهم الخاصة. كما يحق لأي صاحب عمل فصل أو تسريح أي موظف في أي وقت ولأي سبب من الأسباب وفقاً للسياسة الداخلية للمؤسسة، ما لم يكن ذلك الفصل بسب عرق الموظف أو جنسه أو لونه أو ديانته أو عقيدته. ففي القضية التي يتم الإشارة إليها كثيرا وهي القضية التي رفعها كورب لورنس ضد شركة راثيون، وقفت فيها محكمة ماساتشوستس العليا مع شركة راثيون بعد أن رفع كورب لورنس دعوى قضائية ضد الشركة لفصله منها بسبب تصريحاته ووجهات نظره العلنية التي تتعارض مع سياسة شركة راثيون. وذكرت المحكمة في بيانها أنه «على الرغم من أن كورب لديه كامل الحق في التحدث في المسائل والقضايا العامة، ولديه الحق في التعبير عن وجهات نظره التي تختلف مع شركة راثيون غير أنه ليس لديه الحق في القيام بذلك على حساب الشركة».
تحترم الولايات المتحدة أيضا حق الحكومات ذات السيادة في التمسك بدستورها، وحقوق المواطنين والحكومات على حد سواء في اللجوء إلى النظام القضائي للحصول على حقوقهم. وفي الآونة الأخيرة، حصلت المرأة الكويتية على حقوقها وحشدت الدعم لذلك من خلال لجوئها إلى النظام القضائي الكويتي للطعن في القوانين التي اعتبرتها غير دستورية. وفي أكتوبر الماضي على سبيل المثال، منحت المحكمة الدستورية الكويتية المرأة الحق في الحصول على جواز سفر دون موافقة زوجها وألغت القانون القائم لمخالفته للدستور الكويتي الذي يكفل الحرية الشخصية والمساواة بين الجنسين. وفي الشهر نفسه قضت المحكمة الدستورية أيضا بأن النائبات غير المحجبات لا يخالفن مطلب الالتزام بالشريعة الإسلامية المذكور في قانون الانتخاب. فهذه الإنجازات تحسب ليس للمرأة الكويتية التي وظفت بنجاح النظام القانوني للحصول على الدعم والظفر بحقوقها فحسب، بل للكويتيين الذين حفظ لهم الدستور حقوقهم.
وفي هذا الصدد، صرحت وزيرة الخارجية (الأميركية) هيلاري رودام كلينتون في مايو الماضي بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، «إن المادة 19 من إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان لها من الأهمية بمكان في عصر العولمة والمعلومات تماماً كما كانت أهميتها قبل ستة عقود مضت: فحرية الرأي والتعبير، حق لكل شخص، ويشمل هذا الحق حريته في تبني الآراء دون تدخل أو مضايقة، كما يحق له البحث عن المعلومات والأفكار وتلقيها وإيصالها إلى الجمهور من خلال أي وسيلة إعلامية وبغض النظر عن أي حدود».
وفي الختام، اسمحوا لي أن أضيف إذا رجعتم إلى النص الحرفي لتصريحي حول الرهان بمبلغ 5000 دولار، فإن ما تحدثت به كان بصيغة المستقبل وليس الماضي، فعندما سئلت عن حقوق الإنسان وحرية التعبير كانت إجابتي «في المرة المقبلة عندما تقوم المحكمة الأميركية بوضع أي شخص في السجن بسبب التعبير عن رأيه السياسي سيحق لك في هذه الحالة طرح هذا السؤال. واذا ما حدث ذلك في يوم ما فسوف ادفع لك مبلغ 5000 دولار». وأنا ملتزمة بعرضي هذا.
... و«الراي» تعقب على رد السفيرة جونز
ورد في طيات كلام رد السفيرة جونز نقاط ارتأت «الراي» ان تعقب عليها تعميما للفائدة.
اولا: نعيد التأكيد على ان «الراي» لم تنقل تصريحات السفيرة «بشكل مغلوط» ، بل توخينا اقصى درجات الدقة في نقلها منذ البداية، فعلى سبيل المثال، جاء على لسان السفيرة في تصريحها المسجل لدينا صوتيا قولها بالحرف الواحد باللغة الانكيلزية في سياق مراهنتها
When that happens I will pay YOU 5 thausand dollars
(الترجمة «عندما يحصل ذلك، سأدفع لك 5 الاف دولار»). لكن في ردها لاحقا على مانشرناه قالت السفيرة بالحرف الواحد:
What I said: I will pay 5000 to the firtst American (reporter or otherwise) who is sent to prison for expressing a political difference with the government
(الترجمة: «ماقلته انني سأدفع 5 الاف دولار لاول اميركي (سواء كان صحافيا او غير ذلك) يتم سجنه بسبب تعبيره عن خلاف سياسي مع الحكومة»).
ومن خلال المقارنة بين النصين الانكليزيين وترجمتهما يتضح جليا اننا لم ننقل تصريح السفيرة بشكل مغلوط بل ان ردها على ما نشرناه اولا جاء غير مطابق لما كانت قالته ففي تصريحها الاول قالت السفيرة «سأدفع 5 آلاف دولار لكم» اي لـ «الراي» بينما جاء في الرد لاحقا قولها «سأدفع 5 آلاف دولار لاول اميركي...».
ثانيا: نحيي سعادة السفيرة على استشهادها الشجاع بمقولة الفرنسي الكسيس دو توكفيل «ان عظمة اميركا لا تكمن في كونها البلد الاكثر تطورا من غيرها بل في قدرتها على اصلاح اخطائها»، ونرجو ان يكون ذلك الاستشهاد بمثابة اقرار ضمني بأن هناك حاليا ثمة اخطاء اميركية تحتاج الى الاصلاح مثلما اشارت في ردها الى الاصلاحات التي شهدتها الكويت على صعيد حقوق المرأة».
ثالثا: اذا كانت السفيرة تقر في ردها بأن «حرية الرأي وحرية الصحافة (في الولايات المتحدة) ليست حريات مطلقة» وانها مقيدة بحالات «التحريض على العنف او البوح بأسرار أمنية وطنية وحالات التجريح او السب والقذف»، فإن «الراي» تذكرها بأن جميع حكومات دول العالم (بما في ذلك الحكومات المستبدة التي تنتقدها الولايات المتحدة) تلجأ الى استخدام تلك الذريعة ذاتها لتكميم افواه صحافييها ومنعهم من انتقادها وكشف فساد مسؤوليها.
رابعا: نفهم من ثنايا رد سعادة السفيرة ان معظم حالات سجن الصحافيين الاميركيين (بما في ذلك قضية الصحافية جوديث ميللر) تمت بسبب امتناعهم عن الادلاء بمعلومات ارتأت المحكمة ان حجبها يمثل عائقا لسير تطبيق العدالة، لكن ما لم يوضحه الرد هو ان قرار السجن في مثل تلك الحالات يتم اتخاذه على أساس ان الصحافي ارتكب جرم «ازدراء المحكمة». فلماذا تنتقد الولايات المتحدة محاكمنا عندما تقرر - مثلا - سجن صحافي بسبب ادانته بتهمة «ازدراء الدين» او «الاساءة الى الرسول صلى الله عليه وسلم» او ما شابه ذلك؟
وبتعبير آخر، ألا يتساوى مبرر «ازدراء المحكمة» المعمول به في اميركا مع مبرر «َازدراء الدين» المعمول به في دول اخرى تنتقدها الولايات المتحدة؟
خامسا: في ما يتعلق بقضية الصحافية اوكتافيا نصر فإننا نعيد التأكيد على ان الكيل بمكيالين كان واضحا جدا في الموقف الرسمي الاميركي ازاء تلك القضية بالمقارنة مع موقفها من قضية حبس الكاتب الصحافي الكويتي محمد عبدالقادر الجاسم. فمثلما ان الادارة الاميركية تحفظت على قرار سجن الجاسم وانتقدته، (ونتحفظ حالياً عن الخوض في تفاصيل موقف السفيرة شخصياً من قضية الكاتب المحامي محمد عبدالقادر الجاسم) كان ينبغي عليها على الاقل ان تبدي القدر نفسه من التحفظ والانتقاد ازاء قرار فصل صحافية من مؤسسة إعلامية اميركية كبرى لا لشيء سوى لأنها كتبت جملة اشادة برجل دين كان معروفا بمواقفه المعتدلة نسبيا.
واذا كانت السفيرة ترى ان محطة «سي ان ان» لها كامل الحق في تعيين او فصل من تريد وفقا لمدى التزامه بسياستها الخاصة، فهل هذا يعني انه يتعين على الادارة الاميركية ان تقر بحق كل حكومات العالم بحقها في ان تسجن من لا يلتزمون بسياساتها الخاصة؟ واذا كان الامر كذلك فلماذا اقدمت الادارة الاميركية على انتقاد قرارات سجن صحافيين ومعارضين وناشطين سياسيين كثيرين حول العالم؟
وباختصار، فإن اوكتافيا نصر لم ترتكب جرما عندما اشادت بالسيد فضل الله، ولم تلحق ضررا بمصلحة شبكة «سي ان ان» بتلك الاشادة العابرة، وعليه فإنه كان يتوجب على الادارة الاميركية ان تدين قرار طردها من منصبها مثلما فعلت ازاء قرار حبس الجاسم.
وختاما فإن اشارة سعادة السفيرة الى ان كلامها عن مراهنتها بمبلغ الخمسة الاف دولار كان «بصيغة المستقبل وليس الماضي» هو كلام صحيح من حيث المبدأ، مع اننا نعتبره نوعا من «الهروب الى الامام») لكننا اردنا من خلال استعراضنا لسجل حبس الصحافيين الاميركيين ان نلقي الضوء على ان الماضي الاميركي البعيد والقريب لم يكن خاليا من حالات حبس الصحافيين بغض النظر عن مبررات ذلك الحبس.
لكننا نود ان ننوه الى ان رد السفيرة يحمل في طياته اقرارا ضمنيا بأنه ليس من المستبعد لها ان تخسر الرهان في المستقبل، فما الذي يضمن لسعادة السفيرة ان المستقبل لن يحمل في طياته تطورات سياسية غير متوقعة قد تدفع الكونغرس الاميركي الى سن قانون مشابه للقانون سيئ الذكر الذي ذكرت في ردها انه اقره في العام 1798 «من اجل تأمين الحماية ضد أعمال الفتنة التي قد تؤدي الى اضعاف الحكومة» على حد ما جاء في الرد.
وإذا كانت السفيرة مصرة على التمسك بالمراهنة على شيء مستقبلي انطلاقاً من أنها تتنبأ بأن ما تراهن عليه لن يحصل، أليس من الاجدى ان نترك مسألة التنبؤ بالمستقبل للعراف الشهير الاخطبوط «بول»؟
وفي ما يلي نص الرد:
الصحافة الحرة والنشطة هي عنصر حساس في أي ديموقراطية فعالة. لأن الصحافة تلعب دوراً مهماً ليس فقط في تثقيف الشعب، وإنما الصحافة تقوم أيضاً بدور الرقيب على الحكومة، ولهذا فعلى الإعلام أن ينقل المعلومات بدقة ومسؤولية.
تداولت بعض الصحف اليومية والمواقع الالكترونية أخيراً مقتبسات نقلت بشكل مغلوط من تصريح لي حول حرية الرأي وحرية الصحافة في الولايات المتحدة الأميركية، وأريد هنا أن أوضح موقف بلادي حول هذه المسألة بتفصيل أكثر. حرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة هي حقوق مضمونة بالدستور بحسب وثيقة التعديل الأول من الدستور الأميركي وهي من المفاهيم الأساسية التي يؤمن بها المجتمع الأميركي. كما هو الحال في العديد من جوانب مجتمعنا المدني، فإن هذا المفهوم تطور بمرور الوقت، وكما لاحظ الأرستقراطي الفرنسي والموظف الحكومي ألكسيس دو توكفيل قبل حوالي 200 عام خلال زيارة له إلى الولايات المتحدة الأميركية، «أن عظمة أميركا لاتكمن في كونها البلد الأكثر تطوراً من غيرها بل في قدرتها على إصلاح أخطائها».
رغم أن وثيقة التعديل الأول على الدستور كانت بالأصل تطبق فقط على القوانين التي يوافق عليها الكونغرس (مجلس الشعب الأميركي)، إلا أن قراراً من المحكمة العليا في العام 1925 وسع نطاق التطبيق ونص على أن «هذا التعديل على الدستور يشمل في تطبيقه جميع الولايات بما في ذلك القوانين المحلية». لكن حرية الرأي وحرية الصحافة هي ليست حريات مطلقة. فهناك حالات، على سبيل المثال، التحريض على العنف، أو البوح بأسرار أمنية وطنية، وحالات التجريح أو السب والقذف، ففي هذه الحالات تكون حرية الرأي والصحافة محدودة تقيدها تشريعات دستورية أو قوانين يكون لها أولوية على مادة الحريات حسب القانون.
نحن نعتمد على النظام القضائي في تطبيق وصيانة هذه الحريات التي يكفلها الدستور وحتى لا تتم اساءة استخدام هذه الحريات وألّا تتعارض ممارسة هذه الحريات مع قوانين أخرى لها صلة. على سبيل المثال فإن الصحافيين يتمتعون بامتياز عدم الإفصاح عن مصادرهم، في حدود المعقول. ففي القضايا الجنائية يتم اسقاط هذا الحق إذا رأى القاضي أو المحكمة أن جريمة ما قد ارتكبت وأن على الصحافي الإفصاح عن المصادر لمساعدة المحكمة في تحقيق العدالة. في قضية الصحافية السابقة في صحيفة النيويورك تايمز جوديث ميللر التي ورد ذكرها في جريدة الرأي افضل مثال على ذلك. ففي تللك القضية تم احتجاز الصحافية وسجنها ليس لأنها عبرت عن رأيها السياسي، ولكن حجزت بأمر من المحكمة لأن تصرفها اعتبر عائقاً لسير المحكمة في تطبيق العدالة. المحكمة اعتقدت - وكانت صائبة في اعتقادها - أن الصحافية كانت تخفي معلومات عن جرائم خطيرة ارتكبت في الهيئة (مصادر الصحافية كانوا مسؤولين في الحكومة الأميركية قاموا بالإفصاح عن هوية عميل سري في هيئة الاستخبارات، وفي هذا مخالفة لواجبهم الذي أقسموا على أدائه تجاه الحكومة) ولهذا السبب تم اعتقال الصحافية واسقط حقها في امتياز عدم البوح بالمصادر.
الحماية التي تتمتع بها الصحافة في أميركا لم تكن مثالية دائماً ولا واسعة كما هو الحال الآن. ولكن خلال القرنين الماضيين قام صحافيون وناشطون وقضاة وسياسيون أميركيون شجعان بالعمل من أجل تحسين الحماية القانوينة لحرية الرأي وحرية الصحافة. فعلى سبيل المثال، في عام 1798 عندما كانت الولايات المتحدة مهددة بخطر الحرب مع فرنسا قام الكونغرس الأميركي بسن قوانين الأجانب والتحريض على الفتنة لعام 1798 من أجل تأمين الحماية ضد أعمال الفتنة التي قد تؤدي إلى إضعاف الحكومة. بالتحديد فقانون التحريض على الفتنة نص على ما يلي «يعاقب اي شخص يقدم على كتابة، طبع، أو لفظ، أو نشر... الخ أي كتابات فاضحة أو كيدية تحتوي على معلومات غير صحيحة أو مبنية على شائعات ضد الحكومة الأميركية أو مجلس الشعب في الولايات المتحدة الأميركية، أو عن رئيس الولايات المتحدة الأميركية، بحيث يكون الهدف من هذه الكتابات الإساءة إلى سمعة الحكومة أو الكونغرس أو الرئيس المعني أو أن يكون لهذه الكتابات أي أثر يزدري أو يحط من شأن الشخص أو جميع المذكورين سابقاً». انتهت فترة صلاحية قانون التحريض على الفتنة في 3 مارس 1801 مع آخر يوم في رئاسة الرئيس جون آدمز.
ومن جانبه، أدان الرئيس التالي توماس جيفرسون قانون التحريض على الفتنة واعتبره باطلاً لأنه يمثل انتهاكاً للتعديل الأول من الدستور. وعلل الرئيس جيفرسون ذلك بأن الحكومة الفيدرالية تخطت حدودها. واقترح بدلاً من ذلك أن تخضع هذه القضايا لسلطة الولايات كل ولاية على حدة. في الوقت الذي تتمسك فيه الولايات حالياً بقوانين «حماية الصحافة من إفشاء اسم مصدر الخبر»، وهو ما يحفظ حقوق الصحافيين ويكفل لهم حق الامتناع عن الكشف عن هوية مصادرهم في المحكمة ويحمي مصادرهم بشكل قانوني.
أما في ما يتعلق بتسريح شبكة السي إن إن للصحافية اوكتافيا نصر فقد ذكرت أخيراً بأن «السي إن إن، باعتبارها مؤسسة خاصة، لها كامل الحق في تعين أو فصل من تريد وفقاً لمدى التزامه بسياستها الخاصة» وأعيد وأكرر ذلك، وفقا للتعديل الأول من الدستور، يحظر فقط على الحكومة تقييد حرية التعبير بينما يحق للشركات الخاصة وضع الحدود لموظفيها عند تعبيرهم عن أرائهم الخاصة. كما يحق لأي صاحب عمل فصل أو تسريح أي موظف في أي وقت ولأي سبب من الأسباب وفقاً للسياسة الداخلية للمؤسسة، ما لم يكن ذلك الفصل بسب عرق الموظف أو جنسه أو لونه أو ديانته أو عقيدته. ففي القضية التي يتم الإشارة إليها كثيرا وهي القضية التي رفعها كورب لورنس ضد شركة راثيون، وقفت فيها محكمة ماساتشوستس العليا مع شركة راثيون بعد أن رفع كورب لورنس دعوى قضائية ضد الشركة لفصله منها بسبب تصريحاته ووجهات نظره العلنية التي تتعارض مع سياسة شركة راثيون. وذكرت المحكمة في بيانها أنه «على الرغم من أن كورب لديه كامل الحق في التحدث في المسائل والقضايا العامة، ولديه الحق في التعبير عن وجهات نظره التي تختلف مع شركة راثيون غير أنه ليس لديه الحق في القيام بذلك على حساب الشركة».
تحترم الولايات المتحدة أيضا حق الحكومات ذات السيادة في التمسك بدستورها، وحقوق المواطنين والحكومات على حد سواء في اللجوء إلى النظام القضائي للحصول على حقوقهم. وفي الآونة الأخيرة، حصلت المرأة الكويتية على حقوقها وحشدت الدعم لذلك من خلال لجوئها إلى النظام القضائي الكويتي للطعن في القوانين التي اعتبرتها غير دستورية. وفي أكتوبر الماضي على سبيل المثال، منحت المحكمة الدستورية الكويتية المرأة الحق في الحصول على جواز سفر دون موافقة زوجها وألغت القانون القائم لمخالفته للدستور الكويتي الذي يكفل الحرية الشخصية والمساواة بين الجنسين. وفي الشهر نفسه قضت المحكمة الدستورية أيضا بأن النائبات غير المحجبات لا يخالفن مطلب الالتزام بالشريعة الإسلامية المذكور في قانون الانتخاب. فهذه الإنجازات تحسب ليس للمرأة الكويتية التي وظفت بنجاح النظام القانوني للحصول على الدعم والظفر بحقوقها فحسب، بل للكويتيين الذين حفظ لهم الدستور حقوقهم.
وفي هذا الصدد، صرحت وزيرة الخارجية (الأميركية) هيلاري رودام كلينتون في مايو الماضي بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، «إن المادة 19 من إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان لها من الأهمية بمكان في عصر العولمة والمعلومات تماماً كما كانت أهميتها قبل ستة عقود مضت: فحرية الرأي والتعبير، حق لكل شخص، ويشمل هذا الحق حريته في تبني الآراء دون تدخل أو مضايقة، كما يحق له البحث عن المعلومات والأفكار وتلقيها وإيصالها إلى الجمهور من خلال أي وسيلة إعلامية وبغض النظر عن أي حدود».
وفي الختام، اسمحوا لي أن أضيف إذا رجعتم إلى النص الحرفي لتصريحي حول الرهان بمبلغ 5000 دولار، فإن ما تحدثت به كان بصيغة المستقبل وليس الماضي، فعندما سئلت عن حقوق الإنسان وحرية التعبير كانت إجابتي «في المرة المقبلة عندما تقوم المحكمة الأميركية بوضع أي شخص في السجن بسبب التعبير عن رأيه السياسي سيحق لك في هذه الحالة طرح هذا السؤال. واذا ما حدث ذلك في يوم ما فسوف ادفع لك مبلغ 5000 دولار». وأنا ملتزمة بعرضي هذا.
... و«الراي» تعقب على رد السفيرة جونز
ورد في طيات كلام رد السفيرة جونز نقاط ارتأت «الراي» ان تعقب عليها تعميما للفائدة.
اولا: نعيد التأكيد على ان «الراي» لم تنقل تصريحات السفيرة «بشكل مغلوط» ، بل توخينا اقصى درجات الدقة في نقلها منذ البداية، فعلى سبيل المثال، جاء على لسان السفيرة في تصريحها المسجل لدينا صوتيا قولها بالحرف الواحد باللغة الانكيلزية في سياق مراهنتها
When that happens I will pay YOU 5 thausand dollars
(الترجمة «عندما يحصل ذلك، سأدفع لك 5 الاف دولار»). لكن في ردها لاحقا على مانشرناه قالت السفيرة بالحرف الواحد:
What I said: I will pay 5000 to the firtst American (reporter or otherwise) who is sent to prison for expressing a political difference with the government
(الترجمة: «ماقلته انني سأدفع 5 الاف دولار لاول اميركي (سواء كان صحافيا او غير ذلك) يتم سجنه بسبب تعبيره عن خلاف سياسي مع الحكومة»).
ومن خلال المقارنة بين النصين الانكليزيين وترجمتهما يتضح جليا اننا لم ننقل تصريح السفيرة بشكل مغلوط بل ان ردها على ما نشرناه اولا جاء غير مطابق لما كانت قالته ففي تصريحها الاول قالت السفيرة «سأدفع 5 آلاف دولار لكم» اي لـ «الراي» بينما جاء في الرد لاحقا قولها «سأدفع 5 آلاف دولار لاول اميركي...».
ثانيا: نحيي سعادة السفيرة على استشهادها الشجاع بمقولة الفرنسي الكسيس دو توكفيل «ان عظمة اميركا لا تكمن في كونها البلد الاكثر تطورا من غيرها بل في قدرتها على اصلاح اخطائها»، ونرجو ان يكون ذلك الاستشهاد بمثابة اقرار ضمني بأن هناك حاليا ثمة اخطاء اميركية تحتاج الى الاصلاح مثلما اشارت في ردها الى الاصلاحات التي شهدتها الكويت على صعيد حقوق المرأة».
ثالثا: اذا كانت السفيرة تقر في ردها بأن «حرية الرأي وحرية الصحافة (في الولايات المتحدة) ليست حريات مطلقة» وانها مقيدة بحالات «التحريض على العنف او البوح بأسرار أمنية وطنية وحالات التجريح او السب والقذف»، فإن «الراي» تذكرها بأن جميع حكومات دول العالم (بما في ذلك الحكومات المستبدة التي تنتقدها الولايات المتحدة) تلجأ الى استخدام تلك الذريعة ذاتها لتكميم افواه صحافييها ومنعهم من انتقادها وكشف فساد مسؤوليها.
رابعا: نفهم من ثنايا رد سعادة السفيرة ان معظم حالات سجن الصحافيين الاميركيين (بما في ذلك قضية الصحافية جوديث ميللر) تمت بسبب امتناعهم عن الادلاء بمعلومات ارتأت المحكمة ان حجبها يمثل عائقا لسير تطبيق العدالة، لكن ما لم يوضحه الرد هو ان قرار السجن في مثل تلك الحالات يتم اتخاذه على أساس ان الصحافي ارتكب جرم «ازدراء المحكمة». فلماذا تنتقد الولايات المتحدة محاكمنا عندما تقرر - مثلا - سجن صحافي بسبب ادانته بتهمة «ازدراء الدين» او «الاساءة الى الرسول صلى الله عليه وسلم» او ما شابه ذلك؟
وبتعبير آخر، ألا يتساوى مبرر «ازدراء المحكمة» المعمول به في اميركا مع مبرر «َازدراء الدين» المعمول به في دول اخرى تنتقدها الولايات المتحدة؟
خامسا: في ما يتعلق بقضية الصحافية اوكتافيا نصر فإننا نعيد التأكيد على ان الكيل بمكيالين كان واضحا جدا في الموقف الرسمي الاميركي ازاء تلك القضية بالمقارنة مع موقفها من قضية حبس الكاتب الصحافي الكويتي محمد عبدالقادر الجاسم. فمثلما ان الادارة الاميركية تحفظت على قرار سجن الجاسم وانتقدته، (ونتحفظ حالياً عن الخوض في تفاصيل موقف السفيرة شخصياً من قضية الكاتب المحامي محمد عبدالقادر الجاسم) كان ينبغي عليها على الاقل ان تبدي القدر نفسه من التحفظ والانتقاد ازاء قرار فصل صحافية من مؤسسة إعلامية اميركية كبرى لا لشيء سوى لأنها كتبت جملة اشادة برجل دين كان معروفا بمواقفه المعتدلة نسبيا.
واذا كانت السفيرة ترى ان محطة «سي ان ان» لها كامل الحق في تعيين او فصل من تريد وفقا لمدى التزامه بسياستها الخاصة، فهل هذا يعني انه يتعين على الادارة الاميركية ان تقر بحق كل حكومات العالم بحقها في ان تسجن من لا يلتزمون بسياساتها الخاصة؟ واذا كان الامر كذلك فلماذا اقدمت الادارة الاميركية على انتقاد قرارات سجن صحافيين ومعارضين وناشطين سياسيين كثيرين حول العالم؟
وباختصار، فإن اوكتافيا نصر لم ترتكب جرما عندما اشادت بالسيد فضل الله، ولم تلحق ضررا بمصلحة شبكة «سي ان ان» بتلك الاشادة العابرة، وعليه فإنه كان يتوجب على الادارة الاميركية ان تدين قرار طردها من منصبها مثلما فعلت ازاء قرار حبس الجاسم.
وختاما فإن اشارة سعادة السفيرة الى ان كلامها عن مراهنتها بمبلغ الخمسة الاف دولار كان «بصيغة المستقبل وليس الماضي» هو كلام صحيح من حيث المبدأ، مع اننا نعتبره نوعا من «الهروب الى الامام») لكننا اردنا من خلال استعراضنا لسجل حبس الصحافيين الاميركيين ان نلقي الضوء على ان الماضي الاميركي البعيد والقريب لم يكن خاليا من حالات حبس الصحافيين بغض النظر عن مبررات ذلك الحبس.
لكننا نود ان ننوه الى ان رد السفيرة يحمل في طياته اقرارا ضمنيا بأنه ليس من المستبعد لها ان تخسر الرهان في المستقبل، فما الذي يضمن لسعادة السفيرة ان المستقبل لن يحمل في طياته تطورات سياسية غير متوقعة قد تدفع الكونغرس الاميركي الى سن قانون مشابه للقانون سيئ الذكر الذي ذكرت في ردها انه اقره في العام 1798 «من اجل تأمين الحماية ضد أعمال الفتنة التي قد تؤدي الى اضعاف الحكومة» على حد ما جاء في الرد.
وإذا كانت السفيرة مصرة على التمسك بالمراهنة على شيء مستقبلي انطلاقاً من أنها تتنبأ بأن ما تراهن عليه لن يحصل، أليس من الاجدى ان نترك مسألة التنبؤ بالمستقبل للعراف الشهير الاخطبوط «بول»؟