ضواحي / قفزات

من أعمال الفنان سامي محمد


| فهد نجيب القناعي |
صور مبهمة هي ما يتبادر إلى ذهني عندما أتذكر سنتي الأولى في الدراسة الابتدائية، لكن بعض هذه الصور يمتد ويتكامل في ذاكرتي مثل شريط سينمائي.
كنت أقف خارج سور المدرسة، بعد انتهاء اليوم الدراسي، في الشمس التي تزيد سخونتها مع اقتراب نهاية العام
وكانت خادمة جدتي العجوز تأتي يوميا سيرا على الأقدام، فتأخذ بيدي لتمشي بي طريقا طويلا، نعبر خلاله شارعين، إلى بيت جدي، حيث أمكث وقتا قد يطول أو يقصر، بانتظار أمي التي تنهي عملها في مدرستها ثم تصطحبني إلى البيت
أذكر أنني كنت أرى الأشياء ضخمة، الباب الخشبي العتيق ذو الضلفتين، كرسي جدي الخشبي الأثير، ذو النقوش الشامية الكلاسيكية المحببة.
كان جدي يجلس على كرسيه، ريثما أجلس على وسادة دائرية موضوعة على الأرض مباشرة، أخرج كتبي من الحقيبة على مهل، وأريه شيئا مما كتبت في المدرسة، كانت ابتسامته تتسع في فخر وقور مع ما أريه، وكانت تلك أجمل ذكرياتي عنه، وكنت حتى بعقلية الطفل أنتظر هذه اللحظات يوما بعد يوم، لحظات جلوسي على الوسادة وابتسامة جدي الوقور الحبيبة إلى نفسي.
ذات يوم خرجت من بوابة المدرسة ووقفت بجانب السور كعادتي، ألتمس الظل الذي يمتد لمتر واحد لا أكثر، ومددت بصري باتجاه قدوم خادمة جدتي، ومضت الدقائق ولم تظهر كعادتها، بدأت أقلق لا من الأسباب المعتادة والتي يقلق لأجلها الكبار، ولكن خوفا من أن تفوتني ابتسامة جدي إن تأخرت أكثر.
أحسست بفكرة جبارة تجتاح تلافيف مخي، فكرة تقول لي أن أعبر الشارعين الواسعين وحدي، أمام الوحوش الآلية الكبيرة التي طالما حذرنا الكبار منها، مع أني لم أكن أدرك خطرها، بل كنت أعشقها.
أحسست بدقات قلبي تتسارع، ويتصاعد ضجيجها إلى أذني، وإذا بقدمي تستجيبان للفكرة، وتبدآن بالجري، في ما خيل لي أنه اتجاه البيت.
لم أعلم لم كنت أجري وقتها، ولكني علمت بعدها بسنوات طويلة أنه الأدرينالين، الذي يحتاج إلى بذل مجهود عضلي لتفريغ جرعته، الأدرينالين الذي جعلته فكرتي البطولية يتدفق كالسيل في عروقي الصغيرة.
وصلت إلى أول شارع من المفترض أن أعبره، في الحقيقة لا أذكر أني التفت إلى اليسار كما علمنا الكبار عندما نعبر الشارع، جريت فقط و لم يكن وعيي الطفولي يعلم إن كنت قطعت الطريق أمام أحد الوحوش الميكانيكية الجميلة، أو فيما إذا صرخت عجلات هذا الوحش غضبا، في محاولته للتوقف السريع ليتفادى إضافتي إلى قائمة ضحايا الطريق
كل ما كنت أسمعه هو دقات قلبي.
وصلت إلى الرصيف الأول فاعتليته بقفزة واحدة وأكملت الجري باتجاه الشارع الآخر، وأيضا لم ألتفت إلى اليمين كما يقول الكبار، ولم أعلم كم أغضبت من الوحوش، لكن هذا لا يهم، وصلت إلى الرصيف الثاني فاعتليته بقفزة بطولية أخرى وأكملت الجري، تتقافز خلف ظهري الحقيبة التي لم تكن ثقيلة في أيامنا.
درت حول سور الحديقة العامة، حين بدأ البيت ينكشف أمام ناظري ويالها من لحظات، هدأ روعي قليلا أمام عظمة المشهد، بدأت أتخيل ابتسامة جدي أمام هذا الإنجاز الجديد، اقتربت أكثر، وجدت البوابة الحديدية مواربة لحسن حظي، دفعتها ودخلت إلى الفناء الأمامي، ثم اقتحمت الباب الخشبي العتيق، اقتحام الفاتحين، ووطأت بقدمي الصغيرتين رخام الصالة، لأرى جدتي واقفة أمامي، فيأخذها الذهول لمرآي للحظة واحدة ، هتفت بعدها فزعة:
«فهد! رباه... لقد نسيت أمرك اليوم! كيف وصلت إلى هنا لوحدك؟».
أجبتها لاهثا وعيناي تسترقان نظرة إلى كرسي جدي الأثير:
«الخادمة... أنا... كنت... الشمس... ركضت... الشارع... ثم... أنا... رأيت المنزل... لكن... أين جدي؟».
تركتني وسارت مسرعة ناحية المطبخ لتحقق مع الخادمة في ما جرى، ولكنها رمتني بالجواب في ما اختفت خلف الباب:
«جدك لديه أعمال اليوم، ولن يتناول غداءه هنا».
صور مبهمة هي ما يتبادر إلى ذهني عندما أتذكر سنتي الأولى في الدراسة الابتدائية، لكن بعض هذه الصور يمتد ويتكامل في ذاكرتي مثل شريط سينمائي.
كنت أقف خارج سور المدرسة، بعد انتهاء اليوم الدراسي، في الشمس التي تزيد سخونتها مع اقتراب نهاية العام
وكانت خادمة جدتي العجوز تأتي يوميا سيرا على الأقدام، فتأخذ بيدي لتمشي بي طريقا طويلا، نعبر خلاله شارعين، إلى بيت جدي، حيث أمكث وقتا قد يطول أو يقصر، بانتظار أمي التي تنهي عملها في مدرستها ثم تصطحبني إلى البيت
أذكر أنني كنت أرى الأشياء ضخمة، الباب الخشبي العتيق ذو الضلفتين، كرسي جدي الخشبي الأثير، ذو النقوش الشامية الكلاسيكية المحببة.
كان جدي يجلس على كرسيه، ريثما أجلس على وسادة دائرية موضوعة على الأرض مباشرة، أخرج كتبي من الحقيبة على مهل، وأريه شيئا مما كتبت في المدرسة، كانت ابتسامته تتسع في فخر وقور مع ما أريه، وكانت تلك أجمل ذكرياتي عنه، وكنت حتى بعقلية الطفل أنتظر هذه اللحظات يوما بعد يوم، لحظات جلوسي على الوسادة وابتسامة جدي الوقور الحبيبة إلى نفسي.
ذات يوم خرجت من بوابة المدرسة ووقفت بجانب السور كعادتي، ألتمس الظل الذي يمتد لمتر واحد لا أكثر، ومددت بصري باتجاه قدوم خادمة جدتي، ومضت الدقائق ولم تظهر كعادتها، بدأت أقلق لا من الأسباب المعتادة والتي يقلق لأجلها الكبار، ولكن خوفا من أن تفوتني ابتسامة جدي إن تأخرت أكثر.
أحسست بفكرة جبارة تجتاح تلافيف مخي، فكرة تقول لي أن أعبر الشارعين الواسعين وحدي، أمام الوحوش الآلية الكبيرة التي طالما حذرنا الكبار منها، مع أني لم أكن أدرك خطرها، بل كنت أعشقها.
أحسست بدقات قلبي تتسارع، ويتصاعد ضجيجها إلى أذني، وإذا بقدمي تستجيبان للفكرة، وتبدآن بالجري، في ما خيل لي أنه اتجاه البيت.
لم أعلم لم كنت أجري وقتها، ولكني علمت بعدها بسنوات طويلة أنه الأدرينالين، الذي يحتاج إلى بذل مجهود عضلي لتفريغ جرعته، الأدرينالين الذي جعلته فكرتي البطولية يتدفق كالسيل في عروقي الصغيرة.
وصلت إلى أول شارع من المفترض أن أعبره، في الحقيقة لا أذكر أني التفت إلى اليسار كما علمنا الكبار عندما نعبر الشارع، جريت فقط و لم يكن وعيي الطفولي يعلم إن كنت قطعت الطريق أمام أحد الوحوش الميكانيكية الجميلة، أو فيما إذا صرخت عجلات هذا الوحش غضبا، في محاولته للتوقف السريع ليتفادى إضافتي إلى قائمة ضحايا الطريق
كل ما كنت أسمعه هو دقات قلبي.
وصلت إلى الرصيف الأول فاعتليته بقفزة واحدة وأكملت الجري باتجاه الشارع الآخر، وأيضا لم ألتفت إلى اليمين كما يقول الكبار، ولم أعلم كم أغضبت من الوحوش، لكن هذا لا يهم، وصلت إلى الرصيف الثاني فاعتليته بقفزة بطولية أخرى وأكملت الجري، تتقافز خلف ظهري الحقيبة التي لم تكن ثقيلة في أيامنا.
درت حول سور الحديقة العامة، حين بدأ البيت ينكشف أمام ناظري ويالها من لحظات، هدأ روعي قليلا أمام عظمة المشهد، بدأت أتخيل ابتسامة جدي أمام هذا الإنجاز الجديد، اقتربت أكثر، وجدت البوابة الحديدية مواربة لحسن حظي، دفعتها ودخلت إلى الفناء الأمامي، ثم اقتحمت الباب الخشبي العتيق، اقتحام الفاتحين، ووطأت بقدمي الصغيرتين رخام الصالة، لأرى جدتي واقفة أمامي، فيأخذها الذهول لمرآي للحظة واحدة ، هتفت بعدها فزعة:
«فهد! رباه... لقد نسيت أمرك اليوم! كيف وصلت إلى هنا لوحدك؟».
أجبتها لاهثا وعيناي تسترقان نظرة إلى كرسي جدي الأثير:
«الخادمة... أنا... كنت... الشمس... ركضت... الشارع... ثم... أنا... رأيت المنزل... لكن... أين جدي؟».
تركتني وسارت مسرعة ناحية المطبخ لتحقق مع الخادمة في ما جرى، ولكنها رمتني بالجواب في ما اختفت خلف الباب:
«جدك لديه أعمال اليوم، ولن يتناول غداءه هنا».