رؤى / التراث في مذكرات بحار لمحمد الفايز (1)

u0645u062du0645u062f u0627u0644u0641u0627u064au0632
محمد الفايز
تصغير
تكبير
|لطيفة جاسم التمار|

يتمتع التراث بإمكانات وقيم فكرية وجمالية عالية، أصبحت في عصرنا هذا أحد أبرز سمات الشعر المعاصر، فيه استطاع الشاعر أن يعبر عما يختلج في صدره من مشاعر متعددة يوظفها توظيفا في تجربته الشعرية ليكسبها بذلك أصالة وشمولا، وقد شعر الفايز بتدفق هذا الينبوع واستمراريته، وأخذ يوظفه في العشرين مذكرة توظيفا يلائم موضوع المذكرات.

ونحن وجدنا أنه بالإمكان تتبع الموروث في مذكرات بحار، وتصنيفه إلى محاورعدة:

الموروث الفلكلوري، والذي يحوي في داخله أقساماً عدة فيها «الحكايات والسير الشعبية العربية، المفردات اللغوية الشائعة محليا، الأسماء والمصطلحات المحلية، من العادات والتقاليد الشعبية، الألعاب والأغاني الشعبية»، يقول الفايز وهو يستدعي رمز السندباد الخيالي فيقول:

سأعيد للدنيا حديث السندباد

ماذا يكون السندباد

شتان بين خيال مجنون وعملاق يراه

يطوي البحار لى هواه

والفايز يفرق بين أحاديث السندباد القصصية التي صاغها الخيال الشعبي العربي، وبين أحاديث السندباد الخليجي أو الكويتي، بما فيها من أحاديث واقعية صاغها عرق البحارة ومعاناتهم وشتان ما بين الخيال والحقيقة.

وقد استخدم الفايز شخصية «شهرزاد» بمذكراته رمزا «للمرأة المترفة», التي تنعم بالحياة السهلة المفعمة بالرفاهية، لكنه أضاف إلى شخصية شهرزاد التراثية بعدا اجتماعيا ونفسيا. يقول في المذكرة الثانية:

عندي حكايات لها من «ألف ليلة وليلة»

من شهرزاد وليلها المخمور ليل الحالمات

الشاربات الماء من شط النجوم

مثل التي كانت تغني للغيوم

فتصير نار ثم تمطر. والحياة

مملوءة بالسحر. حيث الساحرات

قد كن ربات البيوت العامرات

ونظل نحلم بالقصور وبالدهاليز الطويلة

تلك التي قد صورتها شهرزاد بألف ليلة

استعار الفايز بعدا واحدا من أبعاد شخصية شهرزاد ليرمز بها إلى المرأة الخليجية في فترة من أهم فترات الحياة في منطقة الخليج العربي وهي فترة الغوص. لكن تبقى شهرزاد شخصية خيالية تحلم بالكنوز والجواهر عند الفايز، والمرأة الكويتية أيضا تحلم ولكن شتان ما بين الحلمين. فشهرزاد تحلم بالماديات والكماليات والمرأة الكويتية تحلم بتوفير لقمة العيش لأبنائها والاكتفاء الذاتي لأسرتها!

كذلك عمل الشاعر على استدعاء المفردات اللغوية الشائعة محليا بواسطة مصطلحات بحرية استخدمها ليجذب بها قارئ المذكرات، لتعبر عن جذور الإنسان الكويتي وخصوصية اللغوية، وهذا ما جاء في المذكرة الأولى والتي يقول فيها:

أركبت مثلي «البوم» و«السمبوك» و«الشوعي» الكبير؟

أرفعت أشرعته أمام الريح في الليل الضرير؟

هل ذقت زادي في المساء على حصير؟

أسمعت صوت «دجاجة» الأعماق تبحث عن غداء؟

هل طاردتك «الخمة السوداء» و«الدول» العنيد؟

يعدد الشاعر أسماء لسفن الغوص الكويتية، لما لها من إيحاءات أثيرة لدى المتلقي الكويتي الذي عايش حياة البحر, كما تضفي على العمل الفني شيئا من الواقعية المحلية من خلال أسماء حميمية واقعية توحي بقوة الانتماء وتعزز الشعور بالولاء للماضي المفقود في ظل الحاضر المادي، كما صور في المقطع السابق هوام البحر التي قد تؤدي بحياة البحارة وهم في الأعماق يبحثون عن المحار. كما استخدم الفايز الأسماء الشعبية الكويتية الموروثة والتي تعبر عن صدق التجربة الشعبية وخصوصية المجتمع الكويتي يقول في المذكرة الخامسة:

أين الحبيبة

ماتت من الجدري «طيبة»

من يشتري كل المحار؟

من يشتري كل البحار؟

بعيون طيبة يا نهار

كذلك عمد إلى ذكر اسم «طيبة» في بداية المذكرة التاسعة:

لا لا تقولي رحلتي كانت طويلة

مازلت أذكر كل شيء عنك يا «طيبة» الجميلة

إني دفنك في فؤادي

بين أضلاعي العليلة

لا في التراب

«طيبة» في كلتا المذكرتين ترمز إلى المحبوبة الغالية التي تركت كل شيء وتلحفت الثرى بعد مماتها، وملأت قلب البحار حزنا وألما ولم تترك سوى الذكريات الممزوجة بالحزن والعقد. كما يستدعي الشاعر موقفا شعبيا وهو «يوم الزفاف» في لوحة العرس الشعبي التي أضفت على النص خصوصية ودفء الموروث الشعبي كجزء من الثقافة المحلية التي كانت سائدة قبل النفط في المذكرة الثامنة عشر ذاتها:

سأشق دربي بينكن بثوبي العطر الجديد

وعباءتي السوداء حيث يدي

تراقص خيط مسبحتي الطويل

ها أنت بقربي تجلسين

بثوبك العربي ذي الكم الطويل

والسلة الحمراء كالعش الجميل

وفي سياق المذكرات ذكر الشاعر بعض الألعاب الشعبية مثل «لعبة الداما» والتي تعبر عن بساطة الإنسان في ذاك الوقت, بل بساطة ذلك الزمن بأكمله. كذلك عمد الفايز إلى إدخال العنصر الفلكلوري المتمثل في الغناء البحري في مذكراته, لأنه عمود السفينة وروحها. ولذلك يقول في المذكرة الأولى:

ها نحن عدنا ننشد «الهولو» على ظهر السفينة

من رحلة الصيف الحزينة

ها نحن عدنا للمدينة

ولسوف نبحر حين تمطر في الشتاء

فإلى لقاء

وبذلك صار التراث وسيلة فعالة في التعبير والإيحاء يستخدمها الشاعر ليعبر بها عن رؤياه، فالتراث ما هو إلا عملية انتقاء للقيم الخالدة التي يرمز بها.





* ماجستير أدب عربي

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي