حوار غير منشور تناول فيه خلفيات النزاع السياسي في الإسلام وامتداداته العنفية
فضل الله لـ «الراي»: الأصل في الإسلام هو الرفق والقوى المضادة للدين هي التي استخدمت العنف



|بيروت - من ريتا فرج|
من الحوزة العلمية في النجف الأشرف بدأ المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله دروسه الدينية في سن مبكرة.
كان تقريباً في التاسعة من عمره، وبعد إنهاء تحصيله في دراسة العلوم الدينية، شرع في تدريس بحث الخارج منذ ما يقارب عشرين عاماً.
انتقل فضل الله من العراق الى لبنان العام 1966 حيث أسس حوزة المعهد الشرعي الاسلامي وتعرض لمحاولات اغتيال عدة.
حصل على درجة الاجتهاد في الفقه الشيعي، وجمع فتاواه في كتاب «فقه الشريعة» المكوَّن من ثلاثة أجزاء.
سؤال التجديد ظل حاضراً في فكر السيد، هو الباحث عن العقل التنويري في الإسلام التاريخي، أو الإسلام المصدري، كأنه يتحرى عن العقل بعين قلقة، فشغله الانسداد الفقهي الإسلامي الراهن، وشغلته حال الشيعة في لبنان والعالم العربي، هو الوافد من بيئة تحوي على تعدداً دينياً أغناها باجتهادته وأغتنى منها.
فقه الواقع أو «الحركية» كما يفضل تسميتها تشكل منهاجه في قراءة النص المقدس، وقد اتضح ذلك في أطروحته الأخيرة الموسومة بعنوان «الاجتهاد بين أسر الماضي واجتهادات المستقبل» (2009) والتي قال فيها ان «القرآن لا يفهمه إلا الحركيون». فهل من معنى أدل من هذا التعبير على أهمية الاجتهاد لكسر عقائد الدوغمائيين؟ واضاف «كان الحدث يتحرك، وكان القرآن يرافقه، كانت المعركة تنطلق من خلال الإشارة القرآنية وكان القرآن يتحرك في وسط المعركة، ثم يأتي ليقيم المعركة، كما في غزوة أحد».
الحديث عن المرجع السيد محمد حسين فضل الله وانتاجه الفكري والفقهي يحتاج الى دراسات معمقة.
وحسب «الراي» في هذا الحوار غير المنشور الذي اجرته معه في 22 ديسمبر العام 2006، ان توجه تحية تقدير صادقة الى المرجع الكبير الراحل الذي كان يخفي في ملامح وجهه كاريزما لا ينعم بها إلاّ العارفون أو اللطفاء، هو الواثب الى عقل العقل في أزمنة يكثر فيها التكفير والتكفير المضاد، ويكثر فيها الجدل حول صراع سني - شيعي. وفي ما ياتي وقائع الحوار:
• تعتبر الفتنة في الإسلام من أكثر الفترات إثارة للاهتمام في تاريخ البشرية لأنها أسست للمذاهب الكبرى، ولأنها أدخلت المجال الديني في عالم الصراع السياسي. في رأيكم، هل ساهم تداخل الديني بالسياسي في إقصاء زمن النبوة وتعزيز الصراع على السلطة؟
- تجدر الإشارة في البداية إلى أنه في النظرة الإسلامية إلى الدين، لا يمكن القول بفصل حادّ بين الديني والسياسي، فالدين يُمثل البنية النظرية التي تحكم السلوك، باعتبار أن حركة الإنسان بعامة لا بد وأن تستند إلى قيم ومعايير محددّة، أو بتعبير آخر لا بد أن تنطلق الحركة السياسية وغيرها من خلفية فكرية لدور الإنسان في الحياة العامة، خصوصاً أن الإيمان - في المفهوم الإسلامي- لا يقتصر على البُعد النظري فحسب، بل هو إلى جانب الاعتقاد عنصر ناتج من عملية تربوية يتشكّل معها ما يمكن أن يطلق عليه الوجدان الإسلامي، الذي يأخذ عملياً دور المحرك لمجمل النشاط الإنساني.
ويشكل المجال السياسي أحد أبرز مجالات هذا النشاط، وهنا يشدد التشريع الإسلامي على أن تشكل العدالة المحور والهدف في المسار الديني الإسلامي (لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقومَ الناس بالقسط) وأن يستهدي هذا المسار بقيم الدين وبمبادئه، وتمثل التجربة السياسية النبوية التجسيد الأبرز في كيفية انضباط العمل السياسي الإسلامي واهتدائه بالإسلام وأخلاقياته، وذلك في كل مراحل التجربة ابتداء من حركة الدعوة إلى بناء الدولة.
تأسيساً على ذلك، بات العمل السياسي لا يحظى بأي مشروعية دينية إلا إذا تحرك في ضوء مبادئ الدين وغاياته، الأمر الذي دفع بمختلف الفئات والقوى بما فيها المعادية للدين أو المنحرفة أن تتظلل بالمناخ الديني في ممارساتها السياسية، وليس هذا الامر بجديد في التاريخ الديني والإنساني، فطالما جرى التماهي بين الديني والسياسي سواء في السلطة أو في المعارضة، حيث يجري الاستناد إلى النصوص لإثبات شرعية هذا الموقف أو ذلك فضلاً عن تأكيد لا شرعية مواقف الخصوم، لكن المعايير التي وضعها الإسلام للتمييز بين الفئات التي تمثل قيم التوحيد والعدل والتوازن والاستقامة والفئات المعادية لهذه القيم والتي تحركها الدوافع السلطوية والعصبيات القبلية كانت كافية لجلاء الخط الصحيح، وإن حاولت القوى المعادية التشويش على الحقائق بفعل ملابسات وأوضاع معينة، كان فيها ما شهدناه في حركة وضع الأحاديث التي كان يلجأ إليها بعض الحكام لإضفاء شرعية مفقودة على مواقعهم السلطوية.
وفي خضم هذا المناخ، اقترب بعض المسلمين من تمثل قيم التوحيد والعدل بالقدر الذي تسمح به بشريتهم، فأخضعوا مسار حياتهم الروحية والاجتماعية والسياسية لهذه القيم. (إنّي وجّهت وجهي للذي فطر السّماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) فيما عجز البعض الآخر عن تمثل هذه القيم (قالت الأعراب أمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم) وما بين هذين الاتجاهين كانت تجاذبات ومخاضات وشروط نفسية وظروف اجتماعية وسياسية تدفع بقية فئات المجتمع، خصوصاً في المنعطفات الكبرى، الى الالتحاق بالاتجاه الأول أو الاتجاه الثاني، ولا يمنع ذلك من وقوف فئات أخرى على الحياد إزاء الصراعات القائمة.
وفي الواقع، فإن قوى المشروع الديني، بمختلف تلاوينه، والذي يمثله الاتجاه الاول قد بقي حاضراً في التاريخ الإسلامي، بما يجعلنا مخطئين في حديثنا عن إقصاء لزمن النبوة عن حركة الواقع السياسية، باعتبار أن التجربة النبوية بطروحاتها ومفاهيمها وقيمها كانت بشكل وبآخر أحد أطراف الصراع السياسي، في مقابل ميول واتجاهات تلوثت بمفاهيم وقيم ومعايير فاقدة للشرعية وفق المنظور الإسلامي التوحيدي، وتوسلت عناصر القهر والغلبة والتسلط لفرض مشاريعها.
وفي موازاة ذلك، قد لا يجد المتأمل للتجربة النبوية ان قيمها ومبادئها قد ملأت عقول المسلمين وقلوبهم في زمن حضور النبوة الفعلي، أي حين كان رسول الله(ص) هو القائد الأعلى لحركة الاجتماع السياسي الإسلامي، نظراً الى تفاوت تمثل الدين لدى المسلمين، سواء من خلال عناصر التربية السابقة على الإسلام مما لا يزال تأثيره ممتداً إلى ما بعد الدخول في الإسلام، أو من خلال تفاوت القرارات الاستيعابية للتجربة الإيمانية التي كان يؤسس النبي محمد (ص) قواعدها على كل المستويات وبهذا لا يمكن الحديث في المطلق عن إقصاء لزمن النبوة في العصور التالية لها في ما يخصّ حركة الدين في الواقع السياسي الإسلامي، كما لا يمكن الحديث في المطلق عن حضور مفاهيم النبوة وقيمها في عصر النبوة لدى جميع المسلمين.
• تكشف القراءة المتأنية لنشوء الدولة في الإسلام الطابع العنفي الذي سيطر على كل مراحلها. في رأيكم، هل إشكالية الإسلام تكمن في عدم القدرة على تخريج عناصر بناء الدولة من النصوص التأسيسية؟
- يستبطن السؤال مغالطة كبرى يوردها كالمسلمات البدهية، وهي ان نشوء الدولة في الإسلام تمّ بطابع عنفي، وهذا غير صحيح، إذ إن دراسة المستوى النظري تؤكد أن الأصل في الإسلام هو الرفق، أي الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد أكدت التجربة التاريخية في زمن النبي (ص) أن القوى المضادة للدين هي التي استخدمت العنف لإخماد شعلة الدين، وكان التشريع يسوِّغ مواجهة هذه القوى على أساس دفاعي، شأنه في ذلك شأن المنظومات الفكرية الإنسانية المتنوعة عموماً، خصوصاً بملاحظتنا نقطة، هي أن الهدف الأقصى في الإسلام هو فردي بمعنى أنه يتعامل مع الأوضاع الاجتماعية ليشيع فيها مناخات حرة تضمن فرصاً ليختار الفرد إيمانه والتزاماته عن اقتناع وحرية ومن دون ممارسة أي ضغط نفسي أو واقعي عليه، وهذا يفترض استبعاد الإكراه والفرض والقهر عن الاستراتيجية العامة لحركة الإسلام في مجالي الدعوة والحركة السياسية.
كما أن الدراسة التاريخية العملية للتجربة النبوية تفضي إلى نتيجة مفادها أن العنف الإسلامي كان ردا على العدوان الشركي أو اليهودي أو غيرهما ممن كان يتربص بالدولة الإسلامية الوليدة شراً.
ونحن عندما نتحدث عن الإسلام، فإنما نتحدث عن تجربة نبوية معصومة في تمثلها للنظرية الإسلامية على أرض الواقع. وأما الحركة العنفية للمسلمين في ما بعد ذلك، سواء بالنسبة للفتوحات أم غيرها فلا بد من تقييمها في ضوء النظرية الإسلامية حول مسألة الحرب والسلم، وهي قد شهدت في محطاتها المختلفة تفاوتاً، فاقتربت أحياناً من المثال الإسلامي، وابتعدت احياناً اخرى، ولكن من دون أن يتماثل عنفها ابداً مع عنف المنظومات الدينية الأخرى، خصوصاً المنظومات الرومانية أو الفارسية، فيما تعامل الإسلام وبنسب متفاوتة مع الآخر كبيئة قابلة للاستيعاب، والذي سرعان ما أصبح مسلماً يشارك بفاعلية في البناء الإسلامي الحضاري العام، وهو ما يفسر سيادة العديد من السلطات الإسلامية غير العربية في التاريخ والنسب غير العربي لكثير من علماء الاسلام في كل مجالات الحياة، فضلاً عن نشوء كثير من المدن المزدهرة في مناطق بعيدة عن المركز الإسلامي.
من جهة اخرى، فإن النص الديني قد وضع الخطوط العامة لبناء الدولة الإسلامية، والتي أهمها تحقيق العدالة التي تزعم أن لها مفهوماً واضحاً لدى العُرف العام، مع تأكيد بعض الآليات المرتبطة بتحقيق التوازن في تطبيق العدالة مضافاً إلى أن يكون القانون الإسلامي هو الحاكم كما في قوله تعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون». وأما الوسائل المتصلة بشكل الدولة فيتم تحديدها بما ينسجم مع طبيعة حركة العقلاء في إدارة شؤونهم، وليست أمراً تعبدياً منزلاً. بل قد نزعم أن التجربة البنوية أخذت بالخط العقلائي في إدارة الحياة العامة، ولذلك رأينا كثيراً أنها استخدمت الأدوات التي يتيحها المحيط الاجتماعي العام.
وربما لأجل ذلك تمحور السجال ذلك الزمان حول قيم الدين ومبادئه والقانون الإسلامي الذي يحكم حركة الدولة والمجتمع والفرد، ولم نرَ أي كلام حول شكل إدارة الحكم.
إننا نرى أن النصوص التأسيسية لنشوء الدولة في الإسلام لا تكفل شكلاً محدداً تعبدياً للدولة، بل تضع الخطوط العامة، وتترك للتجربة البشرية الحرية في أدوات تطبيقها ومما يكون متغيراً بتغيير الأزمنة والأمكنة.
• عرف المسلمون العرب الإمارة بصيغة قبلية دينية، ولم يعرفوا الدولة بمعناها الدقيق. وهذا الأمر مازال يطرح نفسه حتى اليوم حين نتناول معظم الدول العربية والإسلامية المعاصرة. في رأيكم، هل دخول المفاهيم القبلية التي سيطرت على تاريخ هذه الدول ما قبل ظهور الإسلام وبعده هو الذي يعطي صدقية لهذه الفرضية؟
- لقد انطلقت عملية التغيير التي أطلقها الإسلام في بيئة جغرافية تتميز بتشكيلة اجتماعية قائمة على بنية القبيلة، لكنه جعل معيار التفاضل بين الناس كما بين القبائل هو التقوى، أي مدى الاقتراب من النموذج الإسلامي في العدل والتوازن، الأمر الذي يعني أن الانتماء القبلي لم يعد هو عنصر التفاضل، كما كان الأمر عليه قبل الإسلام، حيث كان الانتماء القبلي وموازين القوى عنصرين أساسيين في حيازة السلطة، بينما بعد الإسلام باتت مشروعية السلطة خاضعة لمعايير الدين، لذا حرص الكثير من السلطات التي تعاقبت على حكم البلاد الإسلامية على التستر بالرداء الديني لإخفاء نزعتها العصبوية وطغيانها على العصبيات الأخرى، ما دفع أئمة الدين والعلماء إلى كشف حقيقة هذه السلطات والتي حظيت في الوقت نفسه بغطاء ديني من فئة عرفت تاريخياً باسم فقهاء السلطان.
لقد شن الإسلام هجوماً قاسياً على المعايير القبلية والعشائرية وجعل الأساس هو القانون الإسلامي الذي يسري على الجميع، كما يشير إلى ذلك قوله (ص): «إن ما أهلك قبلكم من الأمم أنهم كانوا إذا سرق منهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والذي نفسي بيده، لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها»، كل ذلك أسس لمرحلة شهدنا ملامحها في الخلافة الراشدة، فنجد أن الشورى كانت حاضرة إلى جانب الانتخاب (البيعة)، وأين ذلك من الصيغة القبلية للسلطة؟
في المقابل، نجد أن تجربة الإمام علي (ع) في إدارة شؤون الخلافة كانت تؤسس لمفهوم الدولة ليقترب من معناها الحديث، وهذا ما نجد ملامحه في عهده إلى عامله مالك الأشتر، ولكن نجاحها كان موقوفاً على تجاوز عقبات الفتن الداخلية التي انتشرت في زمن حكمه، والتي انتهت باستشهاده في نهاية المطاف من دون أن يكمل مشروعه الاسلامي النهضوي.
نعم، أدى غياب حضور الإسلام في تجربة الذين سيطروا على مقاليد الحكم بعد الخلافة الراشدة، وابتعادهم عن الخط الإسلامي في تحديده للمعايير اللازم مراعاتها في الخليفة، بفعل الذهنية القبلية التي لم تخرج من النفوس بالدخول في الإسلام، إلى إنحراف الدولة عن خطوطها الإسلامية، وجعلها تخضع لمبدأ التوريث لا على اساس معايير موضوعية تتصل بالتقوى والكفاءة لتولي منصب الخلافة.
• هل تعتبر أن عزل الجمهور عن الانخراط في الحياة السياسية هو الذي ساهم في تصاعد وتيرة العنف خصوصا عند بعض التيارات الاحيائية الإسلامية؟
- إن عزل الجمهور عن الانخراط في الحياة السياسية عموماً أحدث فاصلاً سياسياً بين السلطة والجمهور خصوصاً أنه استمر لفترة تاريخية طويلة، حتى بات الجمهور غير معني بمحاسبة السلطة السياسية، أو هو ممنوع عن القيام بهذا الواجب المهم لضمان عدم انحراف السلطة. على أن ذلك ساهم في تشويه الذهنية العامة للجماهير، حيث إن الإذعان للأمر الواقع سرعان ما ينشئ ذهنية تتقبل الإذعان، وقد يدخل الجمهور هنا في اختراع آليات تبرير للواقع حتى يأتي منسجماً مع الالتزام الإسلامي العام للفرد ما يعني هنا بروز خطورة انقلاب المفاهيم.
أما مسألة ممارسة العنف من قبل التيارات الإحيائية، فإنه لا يمكن الحديث عن عامل واحد في ذلك، بل تتفاوت العوامل المؤثرة تبعاً لتغير الظروف الموضوعية التي يعيشها كل تيار سواء من الناحية الاجتماعية أو الثقافية. نعم، يمكن الحديث عن أن ابتعاد الجماهير عن الانخراط في الحياة السياسية بالنحو الذي ذكرناه سابقاً، وسيادة مناخ الاستبداد، هيّأ الأرضية لصياغة ذهنيات محدودة ومنغلقة لدى هذا التيار أو ذاك، وهذا ما ألقى بظلاله على مجمل النشاط الإنساني الفكري والثقافي، وامتد تالياً إلى الدين نفسه وطريقة تمثلّه، ما قد يبرر ظاهرة العنف، سواء كان عنفاً على المستوى الثقافي، كما هي حال التكفير، أو كان عنفاً على المستوى العملي، وإن كان قمع السلطات يؤدي دوراً كبيراً في إحياء مثل هذه النزعات.
«الجنوب الحزين» لفّه الحداد
بيروت - «الراي»
ما ان اُعلن رسمياً عن وفاة العلامة السيد محمد حسين فضل الله، عمت اجواء الحزن والاسى المناطق الجــنوبية كافة نظراً لما يشكله هذا العالم من مكانة كبيرة على المستويات الدينية والسياسية والفكرية.
ومع تأكــــيد الوفــــاة صدحت المــآذن بالآيات القـــرآنية المباركة ورفـــعت الرايات السود على الطرق العامة والشوارع الرئيسية، فيما رفعت اللافتات التي نعت «العالم الجليل» على مداخل القرى والـــبلدات الجنوبية، وقد حملت كلمات تعكس مشاعر الاسى ومنها «رحيلك افجع الـــــقلوب وانا لله وانا اليه راجعون»، «اسمى آيات العـــــزاء لصاحب العـــصر، الزمان والقائد الخامنئي برحيل سماحة آية الله الســــيد محمد حسين فضل الله».
وقد شهد قسم الانشطة التابع للوحدة الاعلامية في «حزب الله» حركة كبيرة بعد طباعة المواد الاعلامية واللافتات التي وزعت على المندوبين الاعلاميين في القرى.
الى ذلك توجهت الوفود العلمائية والاجتماعية والسياسية والبلدية لتقديم واجب العزاء الذي يقام في مسجد الامامين الحسنين في الضاحية الجنوبية. واصدر تجمع العلماء في جبل عامل بياناً نعى فيه العلامة وسأل الله ان يتغمده بواسع رحمته وان يلهم اهله الصبر والسلوان.
«في دروب السبعين» تركه «وديعة» للتاريخ
بيروت - «الراي»
... «في دروب السبعين»، هو «آخر عنقود» المؤلّفات التي وضعــــها المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله وصدرت قبـــيل رحيــــله عن دار «الملاك» للطباعة والنشر والتوزيع.
فـــــي هذا الــديـــوان الشـــعــــري الذي يــــــقــع في 135 صفــــحة من الحجــم المتوسط، 14 قصــيدة منظومة على الأوزان الخليلية، ومنها ثلاث قصائد مطولات شعر تفعيلة، بدا معها ان السيد فضل الله الذي «استشعر» بالموت يقــــف «على بابه»، أراد ان يترك «حضوره» وهو «يحزم» رزمة السبعيـــنات من عمره، فأطلّ «على السماء» قبل ان تفتح له «ذراعيها» وقلّب صفحات مــــن ذكــــريــــات «لـــن تـــمــــوت».
... «أهوى الحياة»، «إياب الروح»، «الزمـــــن الــهارب»، «أنا الغيــــب في الحس»، « لفتة الطهر»، «نهر الذكريات»، «رحلة إلى السماء»، «أي عمر أي ذات»، «في دروب السبعين»، «يا لطهر الصفاء»، «رحماك في روح أمي»، «وحيدا وقفت»، «شمس الهداية كورت» و«ذكرى الغدير»، هي القصائد الـ 14 التي يتضمّنها «ديوان الوداع» الذي تركه «وديعة» للتاريخ ومحبيه.
وبعض القصائد المنشورة تعود إلى الخمسينات من القرن العشرين، وإلى التسعينات منه، إضافة إلى آخر ما خطت ريشة السيد فضل الله من قصائد، قبل شهور قليلة، عبّرت عن حال الكشف والتأمل والفلسفة، وعن الواقع الإنساني الذي عاشه سماحته، والمشاعر التي تأججت بين حناياه، آملا، ومحبا، وإنسانا، ومتأملا، وزاهدا، وراغباً «في لقاء الإله الحبيب المعشوق في هيكل الهدى والفضيلة».
من الحوزة العلمية في النجف الأشرف بدأ المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله دروسه الدينية في سن مبكرة.
كان تقريباً في التاسعة من عمره، وبعد إنهاء تحصيله في دراسة العلوم الدينية، شرع في تدريس بحث الخارج منذ ما يقارب عشرين عاماً.
انتقل فضل الله من العراق الى لبنان العام 1966 حيث أسس حوزة المعهد الشرعي الاسلامي وتعرض لمحاولات اغتيال عدة.
حصل على درجة الاجتهاد في الفقه الشيعي، وجمع فتاواه في كتاب «فقه الشريعة» المكوَّن من ثلاثة أجزاء.
سؤال التجديد ظل حاضراً في فكر السيد، هو الباحث عن العقل التنويري في الإسلام التاريخي، أو الإسلام المصدري، كأنه يتحرى عن العقل بعين قلقة، فشغله الانسداد الفقهي الإسلامي الراهن، وشغلته حال الشيعة في لبنان والعالم العربي، هو الوافد من بيئة تحوي على تعدداً دينياً أغناها باجتهادته وأغتنى منها.
فقه الواقع أو «الحركية» كما يفضل تسميتها تشكل منهاجه في قراءة النص المقدس، وقد اتضح ذلك في أطروحته الأخيرة الموسومة بعنوان «الاجتهاد بين أسر الماضي واجتهادات المستقبل» (2009) والتي قال فيها ان «القرآن لا يفهمه إلا الحركيون». فهل من معنى أدل من هذا التعبير على أهمية الاجتهاد لكسر عقائد الدوغمائيين؟ واضاف «كان الحدث يتحرك، وكان القرآن يرافقه، كانت المعركة تنطلق من خلال الإشارة القرآنية وكان القرآن يتحرك في وسط المعركة، ثم يأتي ليقيم المعركة، كما في غزوة أحد».
الحديث عن المرجع السيد محمد حسين فضل الله وانتاجه الفكري والفقهي يحتاج الى دراسات معمقة.
وحسب «الراي» في هذا الحوار غير المنشور الذي اجرته معه في 22 ديسمبر العام 2006، ان توجه تحية تقدير صادقة الى المرجع الكبير الراحل الذي كان يخفي في ملامح وجهه كاريزما لا ينعم بها إلاّ العارفون أو اللطفاء، هو الواثب الى عقل العقل في أزمنة يكثر فيها التكفير والتكفير المضاد، ويكثر فيها الجدل حول صراع سني - شيعي. وفي ما ياتي وقائع الحوار:
• تعتبر الفتنة في الإسلام من أكثر الفترات إثارة للاهتمام في تاريخ البشرية لأنها أسست للمذاهب الكبرى، ولأنها أدخلت المجال الديني في عالم الصراع السياسي. في رأيكم، هل ساهم تداخل الديني بالسياسي في إقصاء زمن النبوة وتعزيز الصراع على السلطة؟
- تجدر الإشارة في البداية إلى أنه في النظرة الإسلامية إلى الدين، لا يمكن القول بفصل حادّ بين الديني والسياسي، فالدين يُمثل البنية النظرية التي تحكم السلوك، باعتبار أن حركة الإنسان بعامة لا بد وأن تستند إلى قيم ومعايير محددّة، أو بتعبير آخر لا بد أن تنطلق الحركة السياسية وغيرها من خلفية فكرية لدور الإنسان في الحياة العامة، خصوصاً أن الإيمان - في المفهوم الإسلامي- لا يقتصر على البُعد النظري فحسب، بل هو إلى جانب الاعتقاد عنصر ناتج من عملية تربوية يتشكّل معها ما يمكن أن يطلق عليه الوجدان الإسلامي، الذي يأخذ عملياً دور المحرك لمجمل النشاط الإنساني.
ويشكل المجال السياسي أحد أبرز مجالات هذا النشاط، وهنا يشدد التشريع الإسلامي على أن تشكل العدالة المحور والهدف في المسار الديني الإسلامي (لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقومَ الناس بالقسط) وأن يستهدي هذا المسار بقيم الدين وبمبادئه، وتمثل التجربة السياسية النبوية التجسيد الأبرز في كيفية انضباط العمل السياسي الإسلامي واهتدائه بالإسلام وأخلاقياته، وذلك في كل مراحل التجربة ابتداء من حركة الدعوة إلى بناء الدولة.
تأسيساً على ذلك، بات العمل السياسي لا يحظى بأي مشروعية دينية إلا إذا تحرك في ضوء مبادئ الدين وغاياته، الأمر الذي دفع بمختلف الفئات والقوى بما فيها المعادية للدين أو المنحرفة أن تتظلل بالمناخ الديني في ممارساتها السياسية، وليس هذا الامر بجديد في التاريخ الديني والإنساني، فطالما جرى التماهي بين الديني والسياسي سواء في السلطة أو في المعارضة، حيث يجري الاستناد إلى النصوص لإثبات شرعية هذا الموقف أو ذلك فضلاً عن تأكيد لا شرعية مواقف الخصوم، لكن المعايير التي وضعها الإسلام للتمييز بين الفئات التي تمثل قيم التوحيد والعدل والتوازن والاستقامة والفئات المعادية لهذه القيم والتي تحركها الدوافع السلطوية والعصبيات القبلية كانت كافية لجلاء الخط الصحيح، وإن حاولت القوى المعادية التشويش على الحقائق بفعل ملابسات وأوضاع معينة، كان فيها ما شهدناه في حركة وضع الأحاديث التي كان يلجأ إليها بعض الحكام لإضفاء شرعية مفقودة على مواقعهم السلطوية.
وفي خضم هذا المناخ، اقترب بعض المسلمين من تمثل قيم التوحيد والعدل بالقدر الذي تسمح به بشريتهم، فأخضعوا مسار حياتهم الروحية والاجتماعية والسياسية لهذه القيم. (إنّي وجّهت وجهي للذي فطر السّماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) فيما عجز البعض الآخر عن تمثل هذه القيم (قالت الأعراب أمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم) وما بين هذين الاتجاهين كانت تجاذبات ومخاضات وشروط نفسية وظروف اجتماعية وسياسية تدفع بقية فئات المجتمع، خصوصاً في المنعطفات الكبرى، الى الالتحاق بالاتجاه الأول أو الاتجاه الثاني، ولا يمنع ذلك من وقوف فئات أخرى على الحياد إزاء الصراعات القائمة.
وفي الواقع، فإن قوى المشروع الديني، بمختلف تلاوينه، والذي يمثله الاتجاه الاول قد بقي حاضراً في التاريخ الإسلامي، بما يجعلنا مخطئين في حديثنا عن إقصاء لزمن النبوة عن حركة الواقع السياسية، باعتبار أن التجربة النبوية بطروحاتها ومفاهيمها وقيمها كانت بشكل وبآخر أحد أطراف الصراع السياسي، في مقابل ميول واتجاهات تلوثت بمفاهيم وقيم ومعايير فاقدة للشرعية وفق المنظور الإسلامي التوحيدي، وتوسلت عناصر القهر والغلبة والتسلط لفرض مشاريعها.
وفي موازاة ذلك، قد لا يجد المتأمل للتجربة النبوية ان قيمها ومبادئها قد ملأت عقول المسلمين وقلوبهم في زمن حضور النبوة الفعلي، أي حين كان رسول الله(ص) هو القائد الأعلى لحركة الاجتماع السياسي الإسلامي، نظراً الى تفاوت تمثل الدين لدى المسلمين، سواء من خلال عناصر التربية السابقة على الإسلام مما لا يزال تأثيره ممتداً إلى ما بعد الدخول في الإسلام، أو من خلال تفاوت القرارات الاستيعابية للتجربة الإيمانية التي كان يؤسس النبي محمد (ص) قواعدها على كل المستويات وبهذا لا يمكن الحديث في المطلق عن إقصاء لزمن النبوة في العصور التالية لها في ما يخصّ حركة الدين في الواقع السياسي الإسلامي، كما لا يمكن الحديث في المطلق عن حضور مفاهيم النبوة وقيمها في عصر النبوة لدى جميع المسلمين.
• تكشف القراءة المتأنية لنشوء الدولة في الإسلام الطابع العنفي الذي سيطر على كل مراحلها. في رأيكم، هل إشكالية الإسلام تكمن في عدم القدرة على تخريج عناصر بناء الدولة من النصوص التأسيسية؟
- يستبطن السؤال مغالطة كبرى يوردها كالمسلمات البدهية، وهي ان نشوء الدولة في الإسلام تمّ بطابع عنفي، وهذا غير صحيح، إذ إن دراسة المستوى النظري تؤكد أن الأصل في الإسلام هو الرفق، أي الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد أكدت التجربة التاريخية في زمن النبي (ص) أن القوى المضادة للدين هي التي استخدمت العنف لإخماد شعلة الدين، وكان التشريع يسوِّغ مواجهة هذه القوى على أساس دفاعي، شأنه في ذلك شأن المنظومات الفكرية الإنسانية المتنوعة عموماً، خصوصاً بملاحظتنا نقطة، هي أن الهدف الأقصى في الإسلام هو فردي بمعنى أنه يتعامل مع الأوضاع الاجتماعية ليشيع فيها مناخات حرة تضمن فرصاً ليختار الفرد إيمانه والتزاماته عن اقتناع وحرية ومن دون ممارسة أي ضغط نفسي أو واقعي عليه، وهذا يفترض استبعاد الإكراه والفرض والقهر عن الاستراتيجية العامة لحركة الإسلام في مجالي الدعوة والحركة السياسية.
كما أن الدراسة التاريخية العملية للتجربة النبوية تفضي إلى نتيجة مفادها أن العنف الإسلامي كان ردا على العدوان الشركي أو اليهودي أو غيرهما ممن كان يتربص بالدولة الإسلامية الوليدة شراً.
ونحن عندما نتحدث عن الإسلام، فإنما نتحدث عن تجربة نبوية معصومة في تمثلها للنظرية الإسلامية على أرض الواقع. وأما الحركة العنفية للمسلمين في ما بعد ذلك، سواء بالنسبة للفتوحات أم غيرها فلا بد من تقييمها في ضوء النظرية الإسلامية حول مسألة الحرب والسلم، وهي قد شهدت في محطاتها المختلفة تفاوتاً، فاقتربت أحياناً من المثال الإسلامي، وابتعدت احياناً اخرى، ولكن من دون أن يتماثل عنفها ابداً مع عنف المنظومات الدينية الأخرى، خصوصاً المنظومات الرومانية أو الفارسية، فيما تعامل الإسلام وبنسب متفاوتة مع الآخر كبيئة قابلة للاستيعاب، والذي سرعان ما أصبح مسلماً يشارك بفاعلية في البناء الإسلامي الحضاري العام، وهو ما يفسر سيادة العديد من السلطات الإسلامية غير العربية في التاريخ والنسب غير العربي لكثير من علماء الاسلام في كل مجالات الحياة، فضلاً عن نشوء كثير من المدن المزدهرة في مناطق بعيدة عن المركز الإسلامي.
من جهة اخرى، فإن النص الديني قد وضع الخطوط العامة لبناء الدولة الإسلامية، والتي أهمها تحقيق العدالة التي تزعم أن لها مفهوماً واضحاً لدى العُرف العام، مع تأكيد بعض الآليات المرتبطة بتحقيق التوازن في تطبيق العدالة مضافاً إلى أن يكون القانون الإسلامي هو الحاكم كما في قوله تعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون». وأما الوسائل المتصلة بشكل الدولة فيتم تحديدها بما ينسجم مع طبيعة حركة العقلاء في إدارة شؤونهم، وليست أمراً تعبدياً منزلاً. بل قد نزعم أن التجربة البنوية أخذت بالخط العقلائي في إدارة الحياة العامة، ولذلك رأينا كثيراً أنها استخدمت الأدوات التي يتيحها المحيط الاجتماعي العام.
وربما لأجل ذلك تمحور السجال ذلك الزمان حول قيم الدين ومبادئه والقانون الإسلامي الذي يحكم حركة الدولة والمجتمع والفرد، ولم نرَ أي كلام حول شكل إدارة الحكم.
إننا نرى أن النصوص التأسيسية لنشوء الدولة في الإسلام لا تكفل شكلاً محدداً تعبدياً للدولة، بل تضع الخطوط العامة، وتترك للتجربة البشرية الحرية في أدوات تطبيقها ومما يكون متغيراً بتغيير الأزمنة والأمكنة.
• عرف المسلمون العرب الإمارة بصيغة قبلية دينية، ولم يعرفوا الدولة بمعناها الدقيق. وهذا الأمر مازال يطرح نفسه حتى اليوم حين نتناول معظم الدول العربية والإسلامية المعاصرة. في رأيكم، هل دخول المفاهيم القبلية التي سيطرت على تاريخ هذه الدول ما قبل ظهور الإسلام وبعده هو الذي يعطي صدقية لهذه الفرضية؟
- لقد انطلقت عملية التغيير التي أطلقها الإسلام في بيئة جغرافية تتميز بتشكيلة اجتماعية قائمة على بنية القبيلة، لكنه جعل معيار التفاضل بين الناس كما بين القبائل هو التقوى، أي مدى الاقتراب من النموذج الإسلامي في العدل والتوازن، الأمر الذي يعني أن الانتماء القبلي لم يعد هو عنصر التفاضل، كما كان الأمر عليه قبل الإسلام، حيث كان الانتماء القبلي وموازين القوى عنصرين أساسيين في حيازة السلطة، بينما بعد الإسلام باتت مشروعية السلطة خاضعة لمعايير الدين، لذا حرص الكثير من السلطات التي تعاقبت على حكم البلاد الإسلامية على التستر بالرداء الديني لإخفاء نزعتها العصبوية وطغيانها على العصبيات الأخرى، ما دفع أئمة الدين والعلماء إلى كشف حقيقة هذه السلطات والتي حظيت في الوقت نفسه بغطاء ديني من فئة عرفت تاريخياً باسم فقهاء السلطان.
لقد شن الإسلام هجوماً قاسياً على المعايير القبلية والعشائرية وجعل الأساس هو القانون الإسلامي الذي يسري على الجميع، كما يشير إلى ذلك قوله (ص): «إن ما أهلك قبلكم من الأمم أنهم كانوا إذا سرق منهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والذي نفسي بيده، لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها»، كل ذلك أسس لمرحلة شهدنا ملامحها في الخلافة الراشدة، فنجد أن الشورى كانت حاضرة إلى جانب الانتخاب (البيعة)، وأين ذلك من الصيغة القبلية للسلطة؟
في المقابل، نجد أن تجربة الإمام علي (ع) في إدارة شؤون الخلافة كانت تؤسس لمفهوم الدولة ليقترب من معناها الحديث، وهذا ما نجد ملامحه في عهده إلى عامله مالك الأشتر، ولكن نجاحها كان موقوفاً على تجاوز عقبات الفتن الداخلية التي انتشرت في زمن حكمه، والتي انتهت باستشهاده في نهاية المطاف من دون أن يكمل مشروعه الاسلامي النهضوي.
نعم، أدى غياب حضور الإسلام في تجربة الذين سيطروا على مقاليد الحكم بعد الخلافة الراشدة، وابتعادهم عن الخط الإسلامي في تحديده للمعايير اللازم مراعاتها في الخليفة، بفعل الذهنية القبلية التي لم تخرج من النفوس بالدخول في الإسلام، إلى إنحراف الدولة عن خطوطها الإسلامية، وجعلها تخضع لمبدأ التوريث لا على اساس معايير موضوعية تتصل بالتقوى والكفاءة لتولي منصب الخلافة.
• هل تعتبر أن عزل الجمهور عن الانخراط في الحياة السياسية هو الذي ساهم في تصاعد وتيرة العنف خصوصا عند بعض التيارات الاحيائية الإسلامية؟
- إن عزل الجمهور عن الانخراط في الحياة السياسية عموماً أحدث فاصلاً سياسياً بين السلطة والجمهور خصوصاً أنه استمر لفترة تاريخية طويلة، حتى بات الجمهور غير معني بمحاسبة السلطة السياسية، أو هو ممنوع عن القيام بهذا الواجب المهم لضمان عدم انحراف السلطة. على أن ذلك ساهم في تشويه الذهنية العامة للجماهير، حيث إن الإذعان للأمر الواقع سرعان ما ينشئ ذهنية تتقبل الإذعان، وقد يدخل الجمهور هنا في اختراع آليات تبرير للواقع حتى يأتي منسجماً مع الالتزام الإسلامي العام للفرد ما يعني هنا بروز خطورة انقلاب المفاهيم.
أما مسألة ممارسة العنف من قبل التيارات الإحيائية، فإنه لا يمكن الحديث عن عامل واحد في ذلك، بل تتفاوت العوامل المؤثرة تبعاً لتغير الظروف الموضوعية التي يعيشها كل تيار سواء من الناحية الاجتماعية أو الثقافية. نعم، يمكن الحديث عن أن ابتعاد الجماهير عن الانخراط في الحياة السياسية بالنحو الذي ذكرناه سابقاً، وسيادة مناخ الاستبداد، هيّأ الأرضية لصياغة ذهنيات محدودة ومنغلقة لدى هذا التيار أو ذاك، وهذا ما ألقى بظلاله على مجمل النشاط الإنساني الفكري والثقافي، وامتد تالياً إلى الدين نفسه وطريقة تمثلّه، ما قد يبرر ظاهرة العنف، سواء كان عنفاً على المستوى الثقافي، كما هي حال التكفير، أو كان عنفاً على المستوى العملي، وإن كان قمع السلطات يؤدي دوراً كبيراً في إحياء مثل هذه النزعات.
«الجنوب الحزين» لفّه الحداد
بيروت - «الراي»
ما ان اُعلن رسمياً عن وفاة العلامة السيد محمد حسين فضل الله، عمت اجواء الحزن والاسى المناطق الجــنوبية كافة نظراً لما يشكله هذا العالم من مكانة كبيرة على المستويات الدينية والسياسية والفكرية.
ومع تأكــــيد الوفــــاة صدحت المــآذن بالآيات القـــرآنية المباركة ورفـــعت الرايات السود على الطرق العامة والشوارع الرئيسية، فيما رفعت اللافتات التي نعت «العالم الجليل» على مداخل القرى والـــبلدات الجنوبية، وقد حملت كلمات تعكس مشاعر الاسى ومنها «رحيلك افجع الـــــقلوب وانا لله وانا اليه راجعون»، «اسمى آيات العـــــزاء لصاحب العـــصر، الزمان والقائد الخامنئي برحيل سماحة آية الله الســــيد محمد حسين فضل الله».
وقد شهد قسم الانشطة التابع للوحدة الاعلامية في «حزب الله» حركة كبيرة بعد طباعة المواد الاعلامية واللافتات التي وزعت على المندوبين الاعلاميين في القرى.
الى ذلك توجهت الوفود العلمائية والاجتماعية والسياسية والبلدية لتقديم واجب العزاء الذي يقام في مسجد الامامين الحسنين في الضاحية الجنوبية. واصدر تجمع العلماء في جبل عامل بياناً نعى فيه العلامة وسأل الله ان يتغمده بواسع رحمته وان يلهم اهله الصبر والسلوان.
«في دروب السبعين» تركه «وديعة» للتاريخ
بيروت - «الراي»
... «في دروب السبعين»، هو «آخر عنقود» المؤلّفات التي وضعــــها المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله وصدرت قبـــيل رحيــــله عن دار «الملاك» للطباعة والنشر والتوزيع.
فـــــي هذا الــديـــوان الشـــعــــري الذي يــــــقــع في 135 صفــــحة من الحجــم المتوسط، 14 قصــيدة منظومة على الأوزان الخليلية، ومنها ثلاث قصائد مطولات شعر تفعيلة، بدا معها ان السيد فضل الله الذي «استشعر» بالموت يقــــف «على بابه»، أراد ان يترك «حضوره» وهو «يحزم» رزمة السبعيـــنات من عمره، فأطلّ «على السماء» قبل ان تفتح له «ذراعيها» وقلّب صفحات مــــن ذكــــريــــات «لـــن تـــمــــوت».
... «أهوى الحياة»، «إياب الروح»، «الزمـــــن الــهارب»، «أنا الغيــــب في الحس»، « لفتة الطهر»، «نهر الذكريات»، «رحلة إلى السماء»، «أي عمر أي ذات»، «في دروب السبعين»، «يا لطهر الصفاء»، «رحماك في روح أمي»، «وحيدا وقفت»، «شمس الهداية كورت» و«ذكرى الغدير»، هي القصائد الـ 14 التي يتضمّنها «ديوان الوداع» الذي تركه «وديعة» للتاريخ ومحبيه.
وبعض القصائد المنشورة تعود إلى الخمسينات من القرن العشرين، وإلى التسعينات منه، إضافة إلى آخر ما خطت ريشة السيد فضل الله من قصائد، قبل شهور قليلة، عبّرت عن حال الكشف والتأمل والفلسفة، وعن الواقع الإنساني الذي عاشه سماحته، والمشاعر التي تأججت بين حناياه، آملا، ومحبا، وإنسانا، ومتأملا، وزاهدا، وراغباً «في لقاء الإله الحبيب المعشوق في هيكل الهدى والفضيلة».