لغة الأشياء / تاجر أخلاق


| باسمة العنزي |
الأخلاق الطيبة لا تنفع رجلا يعيش وسط أناس كلهم من ذوي الأخلاق الرديئة... فهي تجعل الإنسان كالعاقل وسط المجانين، يبدو كأنه هو المجنون... والبقية عقلاء.
***
كيف لرواية كتبها أديب مصري قبل أكثر من نصف قرن أن تبدو لقارئها العربي، وكأنها تعبر عن الوقت الراهن بكافة تفاصيله السياسية والاجتماعية والنفسية؟!
رغم أني قرأت أغلب مؤلفات الأديب المصري يوسف السباعي في مراهقتي، إلا أني لم أقرأ روايته الجميلة «أرض النفاق» والتي مررتها لي الزميلة ريما منيمه قائلة: «ستذهلين من تقاطع ما في الرواية مع حاضرنا».
الرواية التي كتبها السباعي الملقب بـ «فارس الرومانسية» عام 1949 لا علاقة لها بالرومانسية المسبغة على أغلب أعماله.
في «أرض النفاق» نقد لاذع بأسلوب جذاب للتدهور الأخلاقي عبر حكاية «فانتازية» عن تاجر أخلاق بالجملة والقطاعي علق على متجره لافته «المحل له فروع في جميع أنحاء العالم».
الرواية استخدم فيها ضمير المتكلم، السرد عبر لغة بسيطة وسلسة ومرحة، البطل الذي يشتري من حانوت في منطقة نائية شيئا من الشجاعة الصالحة لمدة عشرة أيام، يذيبها في كوب ويقلبها جيدا لتظهر آثارها بعد ربع ساعة من شربها. تاجر الأخلاق الحكيم لم يعد يرتاد حانوته الزبائن بعد أن باتت بضاعته غير مطلوبة.
«أتظن أني كنت احتمل الجلوس كل تلك الأعوام الطوال، وسط هذه البضائع الكاسدة البائرة التي لا يريدها إنسان دون أن أتناول من الصبر ما يعينني على الانتظار... لقد طال بي الجلوس يا سيدي بين أكياس الأخلاق، طال بي الجلوس بين شوالات الشجاعة والصدق والإخلاص والصراحة والنزاهة والعفة والصبر والكرم... طال بي الجلوس بين هذه الأصناف البائرة، دون أن يسألني إنسان أين أنت، وأخذت اشرب من شوال الصبر الجرعة تلو الجرعة حتى كاد الصبر ينفذ... والبضائع مكدسة كما هي»*.
تبدأ رحلة البطل المسلح بمفعول الشجاعة بين مجتمعه ليوم واحد فقط، لا يحتمل بعدها تمضية بقية الأيام شجاعا فيستعين بتاجر الأخلاق ليبطل مفعول الشجاعة بعقار المروءة الذي يوقعه أيضا في أكثر من مأزق وموقف محرج في أرض النفاق.
يمر البطل بمواقف عديدة يلقي المؤلف من خلالها بآرائه الواضحة في تملق الساسة، وجهل الجموع ونفاق الصحافة وتحديد النسل ومجانية التعليم ونظافة البيئة وخداع نواب الشعب للشعب!
وفي النهاية وبعد سلسلة مضحكة مبكية من المفارقات، يلقي البطل بالتعاون مع تاجر الأخلاق بشوالات الأخلاق المنقرضة في مياه النهر ليشربها كل الناس، فتتغير أوضاعهم بشكل كوميدي من النقيض الى النقيض.
«قبض في ساعة مبكرة من النهار على المجرمين الآثمين، اللذين ألقيا بجراثيم الأخلاق في الماء، وأودعا السجن رهن التحقيق، وفي الساعة العاشرة صباحا طلبا للتحقيق، ولكن أحدهما احتال على وكيل النيابة وسقاه جرعة من الماء الملوث فأصيب بالأخلاق... ورفض مباشرة التحقيق ورفع تقاريره الى النائب العام يطلب منه تبرئة المتهمين أو محاكمتهما بتهمة السكوت على مصاب البلد دون أن يحاولا التقدم بالعلاج، رغم اعترافهما إنهما كانا يملكان العلاج منذ مدة طويلة».
رواية السباعي تؤكد قدرة الكتابة على تحويل ما هو خاص وراهن لما هو عام وبطرح عميق، والقفز فوق حاجزي الزمن والمكان، فكيف لرواية كتبت عام 1949 أن تبدو وكأنها خرجت للتو من المطبعة معبرة عن الوضع العربي الحالي بأغلب تداعياته وصوره الكئيبة. وكيف لروائي مصري راحل أن تبدو عباراته الرشيقة وملاحظاته الذكية وكأنها تصف الحياة الاجتماعية والسياسية من حول قارئ كويتي عام 2010؟!
«أرض النفاق»... رواية قديمة جديدة تستحق القراءة، لما تبقي من متعة وما تبعث من تساؤلات، وما تلقي من أمنيات أبرزها أن ينتشر تجار الأخلاق بيننا، ويقل منسوب النفاق من حولنا.
المقاطع من رواية يوسف السباعي «أرض النفاق» دار مصر للطباعة.
الأخلاق الطيبة لا تنفع رجلا يعيش وسط أناس كلهم من ذوي الأخلاق الرديئة... فهي تجعل الإنسان كالعاقل وسط المجانين، يبدو كأنه هو المجنون... والبقية عقلاء.
***
كيف لرواية كتبها أديب مصري قبل أكثر من نصف قرن أن تبدو لقارئها العربي، وكأنها تعبر عن الوقت الراهن بكافة تفاصيله السياسية والاجتماعية والنفسية؟!
رغم أني قرأت أغلب مؤلفات الأديب المصري يوسف السباعي في مراهقتي، إلا أني لم أقرأ روايته الجميلة «أرض النفاق» والتي مررتها لي الزميلة ريما منيمه قائلة: «ستذهلين من تقاطع ما في الرواية مع حاضرنا».
الرواية التي كتبها السباعي الملقب بـ «فارس الرومانسية» عام 1949 لا علاقة لها بالرومانسية المسبغة على أغلب أعماله.
في «أرض النفاق» نقد لاذع بأسلوب جذاب للتدهور الأخلاقي عبر حكاية «فانتازية» عن تاجر أخلاق بالجملة والقطاعي علق على متجره لافته «المحل له فروع في جميع أنحاء العالم».
الرواية استخدم فيها ضمير المتكلم، السرد عبر لغة بسيطة وسلسة ومرحة، البطل الذي يشتري من حانوت في منطقة نائية شيئا من الشجاعة الصالحة لمدة عشرة أيام، يذيبها في كوب ويقلبها جيدا لتظهر آثارها بعد ربع ساعة من شربها. تاجر الأخلاق الحكيم لم يعد يرتاد حانوته الزبائن بعد أن باتت بضاعته غير مطلوبة.
«أتظن أني كنت احتمل الجلوس كل تلك الأعوام الطوال، وسط هذه البضائع الكاسدة البائرة التي لا يريدها إنسان دون أن أتناول من الصبر ما يعينني على الانتظار... لقد طال بي الجلوس يا سيدي بين أكياس الأخلاق، طال بي الجلوس بين شوالات الشجاعة والصدق والإخلاص والصراحة والنزاهة والعفة والصبر والكرم... طال بي الجلوس بين هذه الأصناف البائرة، دون أن يسألني إنسان أين أنت، وأخذت اشرب من شوال الصبر الجرعة تلو الجرعة حتى كاد الصبر ينفذ... والبضائع مكدسة كما هي»*.
تبدأ رحلة البطل المسلح بمفعول الشجاعة بين مجتمعه ليوم واحد فقط، لا يحتمل بعدها تمضية بقية الأيام شجاعا فيستعين بتاجر الأخلاق ليبطل مفعول الشجاعة بعقار المروءة الذي يوقعه أيضا في أكثر من مأزق وموقف محرج في أرض النفاق.
يمر البطل بمواقف عديدة يلقي المؤلف من خلالها بآرائه الواضحة في تملق الساسة، وجهل الجموع ونفاق الصحافة وتحديد النسل ومجانية التعليم ونظافة البيئة وخداع نواب الشعب للشعب!
وفي النهاية وبعد سلسلة مضحكة مبكية من المفارقات، يلقي البطل بالتعاون مع تاجر الأخلاق بشوالات الأخلاق المنقرضة في مياه النهر ليشربها كل الناس، فتتغير أوضاعهم بشكل كوميدي من النقيض الى النقيض.
«قبض في ساعة مبكرة من النهار على المجرمين الآثمين، اللذين ألقيا بجراثيم الأخلاق في الماء، وأودعا السجن رهن التحقيق، وفي الساعة العاشرة صباحا طلبا للتحقيق، ولكن أحدهما احتال على وكيل النيابة وسقاه جرعة من الماء الملوث فأصيب بالأخلاق... ورفض مباشرة التحقيق ورفع تقاريره الى النائب العام يطلب منه تبرئة المتهمين أو محاكمتهما بتهمة السكوت على مصاب البلد دون أن يحاولا التقدم بالعلاج، رغم اعترافهما إنهما كانا يملكان العلاج منذ مدة طويلة».
رواية السباعي تؤكد قدرة الكتابة على تحويل ما هو خاص وراهن لما هو عام وبطرح عميق، والقفز فوق حاجزي الزمن والمكان، فكيف لرواية كتبت عام 1949 أن تبدو وكأنها خرجت للتو من المطبعة معبرة عن الوضع العربي الحالي بأغلب تداعياته وصوره الكئيبة. وكيف لروائي مصري راحل أن تبدو عباراته الرشيقة وملاحظاته الذكية وكأنها تصف الحياة الاجتماعية والسياسية من حول قارئ كويتي عام 2010؟!
«أرض النفاق»... رواية قديمة جديدة تستحق القراءة، لما تبقي من متعة وما تبعث من تساؤلات، وما تلقي من أمنيات أبرزها أن ينتشر تجار الأخلاق بيننا، ويقل منسوب النفاق من حولنا.
المقاطع من رواية يوسف السباعي «أرض النفاق» دار مصر للطباعة.