إشراقات النقد / صراع الحضارات في مجموعة «فرامل» للشاعر الجزائري بن يونس ماجن (2)

غلاف المجموعة


| سعاد العنزي |
من بعد مداولات دوال العنوان «فرامل لعجلات طائشة في الهواء»، فإن الولوج إلى بوابة النص الرحبة بالفكر والشعر واللغة المسرجة بالخيال الواسع الذي يرتاد معالم سماوية وهموم أرضية، ويزاوج بين متناقضات شكلت طبيعة النفس البشرية في كل مكان وزمان، بل إنها في هذا العصر المابعد حداثي تعيش الصراع وهو في ذروته وتلاطم امواج الهويات المتعددة، وإشكاليات العنف المسيس، والحرب والسلم، والقوى العظمى التي تقوم بدور الوصاية على العالم بكافة أطيافه وتنوعه وتعدده، على الرغم من الثورة المنهجية التي حدثت في حقل الإنسانيات، التي ترسخت في طروحات الفكر والفلسفة، وتجلت في الأدبيات، واتضحت كثيرا في روائع الأدب العالمي من شعر ورواية.
والمجموعة الشعرية التي هي موضع العرض هنا، واحدة من إحدى الانتفاضات الأدبية التي عالجت إشكالية الإنسان المعاصر، وأزمته الضاربة في عروق الإنسانية، مثل عديد من الأعمال الروائية التي عالجت صراع الهويات، شعرا ورواية، كرواية «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، وذكريات عميد الأدب العربي طه حسين «الأيام»، و«الابريز» لرفاعة الطهطاوي، هذه وغيرها ناقشت علاقة الأنا والآخر الغربي في مرحلة الاندهاش والتعرف على معالم الآخر المانح والواهب الحضارة والعلم والتقدم، الذي يريد تحرير الإنسان من عبوديته، والطالبة بحقوقه الطبيعية. ولكن هذه الأعمال عبرت عن حالة الحلم والشفافية في منتصف القرن المنصرم، ولا يعني ان الغرب احتفظ بصورته المثالية والحالمة لأن الظروف تعاقبت والحروب توالت، والقوى العظمى تباينت رؤاها وأهدافها، ومن هنا فإن الرفض قد يكون عنصرا واردا في الصراع،على وجه الخصوص بين أبناء الشعوب القائم بينها الصراع، مثلما اتضح في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، « رواية كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك»، وفي طور الحديث عن الشعر، ستكون هذه المجموعة إحدى النصوص الممثلة لهذه الحالة.
هوية المكان والمكان الآخر
إن المكان بما هو حيز يحتوي الإنسان ويحيط به لا يمكن اغفال علاقته بالإنسان البسيطة والعميقة بأشكاله المتعددة وتقاطيعه الجغرافية بما تحملها من سمات تسم بها الإنسام ومعالم أشخاصه، ومدى وضوح بصمتهم في المكان، جميعها أمور لابد من مقاربتها عند الحديث عن المكان. والمكان في مجموعة الشاعر بن يونس ماجن كان متعددا وغنيا من حيث الدلالات التي وضحت علاقة الشاعر بمكانين إن لم يكن أكثر الأول هو المكان المتروك، المرتحل عنه «المغرب بلاد الشاعر»، والمكان الآخر هو بلاد إقامة الشاعر «انكلترا بعاصمتها الساحرة لندن»، حيث العمل والاستقرار المعيشي، وقد يكون مكان الالهام المعرفي، والحراك الفكري، إلا إنه مرفوض من قبل الشاعر، بسبب شخصي أو موضوعي لا ينكره اثنان، بسبب تاريخ الصراع السياسي والاستعماري أو بسبب معطيات المكان الحالية، التي لا يشترط بالضرورة أن تكون محط أنظار كل من يزورها.
ومن اللافت للنظر إن الشاعر يورد في أوائل قصائد المجموعة، نية الهروب من المكان الأم للآخر، ففي قصيدة: «ذات ليل بارد طويل على ساحل مغربي جميل»، يتبن إن الشاعر يزمع الهروب من الأرض كونه فقد عوامل الاستقرار والأمان، فيقول:
«أجثم أمام منافذ الريح
وأظل اركض في متاريسها
أتوارى وراء الكثبان رملية
و انتظر البحر يغمض عينيه
لأنتعل الهروب». (المجموعة، ص17)
وفي مقطع آخر من النص يوضح فقدان الهوية الذي سيكون عاملا مانحا له ومساهما في تحقيق عملية الهروب:
«بوسعي أن أتفادى خفر السواحل
في هذا البحر الضيق
لاشيء يثبت هويتي». (المجموعة، ص18)
هذه الهوية المفقودة في الآرض والوطن فرت إلى مكان تعدد الهويات، وتلاشي الذوات أمام الامبراطورية العظمى، التي يغدو الحب فيها مستحيلا مع الفتاة العربية والغربية، «كما يتضح في قصيدة مقاطع من هزيمة من نوع آخر»:
«هل حقا يمكنني أن
أجيد لعبة الحب
في كازينوهات لندن
المكتظة بالسائحات العربيات
والشقروات ذوات العيون الخضر». (المجموعة، ص30)
بل إن الهوية تبدأ بقراءة ذاتها أمام الآخر الذي انجز الكثير وبلغ ذروة الحضارة والتقدم، لينقب في تاريخه، ويجوب أغوار الذاكرة ليبحث عن صنو مقارب لهذه الطفرة، فلايجد جليلو عربي، ولا نيوتن، فتتسع الهوة بين الذات والاحتفاظ بالهوية، بين الفخر والاعتزاز وطأطأة الرأس وكانوا وكنا، واستراتيجية للبقاء والانتاج غير ما أفضت به عناصر الطبيعة من عوامل مانحة للبقاء:
«أجوب أغوار الذاكرة
فأنا لم اكتشف دوران الأرض
ولا عاصرت غاليلو
وأنا مدين لبقائي المديد
للكوارث الطبيعية والمسافات الممطرة». (المجموعة، ص16)
فلم الفخر والتباهي والاعتزاز مادامت ثقافة الشاعر لا ترتقي إلى مستوى العطاء الحضاري الزخم؟ وليس بالغريب ألا يرى الشاعر نفسه بوضوح مادامت الهوية غائبة، ومادامت الصورة شاحبة وفاقدة لبريقها، من هنا تتضح معالم الشحوب في فضاء المجموعة، كقوله في النص التالي «فقاعات ذائبة»:
«أمضي إلى عتمة طازجة
في وضح النهار
واختفي في رذاذات شاحبة
كانت تتماهى ببطء». (المجموعة، ص46)
مما مضى من عرض وتحليل ومحاولات لرسم صورة للهوية العربية وهي في حالة تقابل مع الآخر، لا يعني بالضرورة إن هذه هي حالة الشاعر الحقيقية بقدر ماهي رؤية عميقة لمسيرة إنسانية تحمل أطياف البشر، وتنوع في الهويات والآمال والطموحات، ولا تعني بالضرورة رفض الشاعر للثقافة الغربية بقدر ما هي حالة ترسيخ لفكرة التضاد والتقابل بين الأشياء ليتعمق الإحساس بالمفقود في الحضارة العربية والغربية.
* كاتبة وناقدة كويتية
[email protected]
من بعد مداولات دوال العنوان «فرامل لعجلات طائشة في الهواء»، فإن الولوج إلى بوابة النص الرحبة بالفكر والشعر واللغة المسرجة بالخيال الواسع الذي يرتاد معالم سماوية وهموم أرضية، ويزاوج بين متناقضات شكلت طبيعة النفس البشرية في كل مكان وزمان، بل إنها في هذا العصر المابعد حداثي تعيش الصراع وهو في ذروته وتلاطم امواج الهويات المتعددة، وإشكاليات العنف المسيس، والحرب والسلم، والقوى العظمى التي تقوم بدور الوصاية على العالم بكافة أطيافه وتنوعه وتعدده، على الرغم من الثورة المنهجية التي حدثت في حقل الإنسانيات، التي ترسخت في طروحات الفكر والفلسفة، وتجلت في الأدبيات، واتضحت كثيرا في روائع الأدب العالمي من شعر ورواية.
والمجموعة الشعرية التي هي موضع العرض هنا، واحدة من إحدى الانتفاضات الأدبية التي عالجت إشكالية الإنسان المعاصر، وأزمته الضاربة في عروق الإنسانية، مثل عديد من الأعمال الروائية التي عالجت صراع الهويات، شعرا ورواية، كرواية «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، وذكريات عميد الأدب العربي طه حسين «الأيام»، و«الابريز» لرفاعة الطهطاوي، هذه وغيرها ناقشت علاقة الأنا والآخر الغربي في مرحلة الاندهاش والتعرف على معالم الآخر المانح والواهب الحضارة والعلم والتقدم، الذي يريد تحرير الإنسان من عبوديته، والطالبة بحقوقه الطبيعية. ولكن هذه الأعمال عبرت عن حالة الحلم والشفافية في منتصف القرن المنصرم، ولا يعني ان الغرب احتفظ بصورته المثالية والحالمة لأن الظروف تعاقبت والحروب توالت، والقوى العظمى تباينت رؤاها وأهدافها، ومن هنا فإن الرفض قد يكون عنصرا واردا في الصراع،على وجه الخصوص بين أبناء الشعوب القائم بينها الصراع، مثلما اتضح في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، « رواية كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك»، وفي طور الحديث عن الشعر، ستكون هذه المجموعة إحدى النصوص الممثلة لهذه الحالة.
هوية المكان والمكان الآخر
إن المكان بما هو حيز يحتوي الإنسان ويحيط به لا يمكن اغفال علاقته بالإنسان البسيطة والعميقة بأشكاله المتعددة وتقاطيعه الجغرافية بما تحملها من سمات تسم بها الإنسام ومعالم أشخاصه، ومدى وضوح بصمتهم في المكان، جميعها أمور لابد من مقاربتها عند الحديث عن المكان. والمكان في مجموعة الشاعر بن يونس ماجن كان متعددا وغنيا من حيث الدلالات التي وضحت علاقة الشاعر بمكانين إن لم يكن أكثر الأول هو المكان المتروك، المرتحل عنه «المغرب بلاد الشاعر»، والمكان الآخر هو بلاد إقامة الشاعر «انكلترا بعاصمتها الساحرة لندن»، حيث العمل والاستقرار المعيشي، وقد يكون مكان الالهام المعرفي، والحراك الفكري، إلا إنه مرفوض من قبل الشاعر، بسبب شخصي أو موضوعي لا ينكره اثنان، بسبب تاريخ الصراع السياسي والاستعماري أو بسبب معطيات المكان الحالية، التي لا يشترط بالضرورة أن تكون محط أنظار كل من يزورها.
ومن اللافت للنظر إن الشاعر يورد في أوائل قصائد المجموعة، نية الهروب من المكان الأم للآخر، ففي قصيدة: «ذات ليل بارد طويل على ساحل مغربي جميل»، يتبن إن الشاعر يزمع الهروب من الأرض كونه فقد عوامل الاستقرار والأمان، فيقول:
«أجثم أمام منافذ الريح
وأظل اركض في متاريسها
أتوارى وراء الكثبان رملية
و انتظر البحر يغمض عينيه
لأنتعل الهروب». (المجموعة، ص17)
وفي مقطع آخر من النص يوضح فقدان الهوية الذي سيكون عاملا مانحا له ومساهما في تحقيق عملية الهروب:
«بوسعي أن أتفادى خفر السواحل
في هذا البحر الضيق
لاشيء يثبت هويتي». (المجموعة، ص18)
هذه الهوية المفقودة في الآرض والوطن فرت إلى مكان تعدد الهويات، وتلاشي الذوات أمام الامبراطورية العظمى، التي يغدو الحب فيها مستحيلا مع الفتاة العربية والغربية، «كما يتضح في قصيدة مقاطع من هزيمة من نوع آخر»:
«هل حقا يمكنني أن
أجيد لعبة الحب
في كازينوهات لندن
المكتظة بالسائحات العربيات
والشقروات ذوات العيون الخضر». (المجموعة، ص30)
بل إن الهوية تبدأ بقراءة ذاتها أمام الآخر الذي انجز الكثير وبلغ ذروة الحضارة والتقدم، لينقب في تاريخه، ويجوب أغوار الذاكرة ليبحث عن صنو مقارب لهذه الطفرة، فلايجد جليلو عربي، ولا نيوتن، فتتسع الهوة بين الذات والاحتفاظ بالهوية، بين الفخر والاعتزاز وطأطأة الرأس وكانوا وكنا، واستراتيجية للبقاء والانتاج غير ما أفضت به عناصر الطبيعة من عوامل مانحة للبقاء:
«أجوب أغوار الذاكرة
فأنا لم اكتشف دوران الأرض
ولا عاصرت غاليلو
وأنا مدين لبقائي المديد
للكوارث الطبيعية والمسافات الممطرة». (المجموعة، ص16)
فلم الفخر والتباهي والاعتزاز مادامت ثقافة الشاعر لا ترتقي إلى مستوى العطاء الحضاري الزخم؟ وليس بالغريب ألا يرى الشاعر نفسه بوضوح مادامت الهوية غائبة، ومادامت الصورة شاحبة وفاقدة لبريقها، من هنا تتضح معالم الشحوب في فضاء المجموعة، كقوله في النص التالي «فقاعات ذائبة»:
«أمضي إلى عتمة طازجة
في وضح النهار
واختفي في رذاذات شاحبة
كانت تتماهى ببطء». (المجموعة، ص46)
مما مضى من عرض وتحليل ومحاولات لرسم صورة للهوية العربية وهي في حالة تقابل مع الآخر، لا يعني بالضرورة إن هذه هي حالة الشاعر الحقيقية بقدر ماهي رؤية عميقة لمسيرة إنسانية تحمل أطياف البشر، وتنوع في الهويات والآمال والطموحات، ولا تعني بالضرورة رفض الشاعر للثقافة الغربية بقدر ما هي حالة ترسيخ لفكرة التضاد والتقابل بين الأشياء ليتعمق الإحساس بالمفقود في الحضارة العربية والغربية.
* كاتبة وناقدة كويتية
[email protected]