مشكلة كبيرة تعاني منها الحياة السياسية في الكويت تتمثل في تفشي مناخ سلبي للغاية بين المختلفين في الحكومة والمجلس، وانعكاس هذا الاختلاف على المجتمع ومكوناته بصورة فيها الكثير من الجلافة والتعسف، ومن أهم معولات الهدم لكل بادرة إيجابية هو بروز التأزيميين ودعاة المصالح والأجندات المشبوهة وتجار اللعب على جراحات الناس وآهاتهم من أجل تجييرها لمصالحهم الفئوية الضيقة، وتلك الفئات لا تخشى إن سقطت البلاد في الدرك الأسفل من الهاوية ما دامت مصالحهم بخير! وطبيعي من نتائج تصدي تلك الفئة أن تصبح الساحة السياسية معتركاً لصراع لا يمكن أن يُنعَت إلا بالسلبية، وما يؤسف أن ما يتم اليوم هو بين مواطنين إخوة يجمعهم تاريخ ومصير وماض وحاضر ومستقبل مشترك، وتنتظر الأجيال القادمة انموذجا يصل إليه لشكل مستقر ومطمئن للمجتمع المثالي، وهذا ما لا يمكن أن يحدث في ظل تلك اللغة البذيئة التي اتبعها بعض النشطاء المتصدين للشأن العام.
والغرابة كل الغرابة هو في غياب النخب الناشطة من أهل العلم والرشد والمعرفة الذين يثق بهم المجتمع من القادة المخضرمين السياسيين وأعلام العلوم الدينية ممن تركوا حلبة السياسة وجلسوا في مقاعد المتفرجين كمن لا حول له ولا قوة، في وقت يعوّل المجتمع على تحركهم الإيجابي كل التعويل، ويثق في قراراتهم كل الثقة، بل أكثر من ذلك حين تتوجه الأنظار الشعبية إليهم هم، في ظل هذا الخروج اللا أخلاقي عن الذوق العام، والذي يقوم به الكثير من ساسة اليوم في المجلس.
ولكن أمام حقيقة مرّة للجميع لابد من وضع النقاط على الأحرف، فما يلفت اليوم أن هناك بونا شاسع في مقدمات التفكير بين تلك النخب العاقلة، والموصوفة بالناشطة في الحقلين العقدي والاجتماعي والمتفرجة في الحقل السياسي، بتعدد مشاربهم ومختلف أطيافهم وتنوع مذاهبهم. لذا نجد الكثير من سلوك التعاطي بين بعض تلك النخب لا يرتقي والذوق العام ولا ينسجم مع حجم التحدي كأبناء بلد مهمتهم الأساسية والمشتركة في إعمار هذا البلد الذي ارتضوه سكناً وملاذاً ومستقراً لأجيالهم الحالية والقادمة. والسبب في نظري أن تلك النخب الناشطة في الساحة تعاني تقصيرا كبيرا في تواصلها مع الآخر، حين تبدأ حياتها الفكرية والثقافية منذ نعومة الأظافر.
فنجد أن أغلب تلك النخب الناشطة تنتهل من المدرسة الفكرية أو المذهبية التي تنتمي إليها هي مع عدم التعني وصرف الوقت والجهد والطاقة لإضفاء بعداً متنوعاً يساعدها على فهم الآخرين، مما يؤسس على ضوء تلك التربية بناء شخصيات ملمة بوضع مدرستها الفكرية في وقت هي جاهلة تماماً لمكونات المدارس الفكرية والثقافية الأخرى، غير مؤهلة لتقييم الواقع التجديدي والتطور الحركي فيها. لذا، ومع الجهل بمقدمات ومبررات تحرك النشطاء الآخرين يصبح الانسجام وفهم أو حتى تفهم الآخر هو ضرب من الخيال.
وما يؤسف أن يسقط جل النخب العاقلة في فخ عدم الاستماع للرأي الآخر من الآخر نفسه، بل يبني كل تصوراته عن الأدبيات المنقولة لقادة مدرسته الفكرية أو الثقافية دون غيرها. وتلك مسألة فيها الكثير من التجني وسوء الفهم وبناء مسلمات يقينية اعتقادية عن الآخر استناداً إلى قواعد ظنية تشرّبتها تلك النخب حين بداية انطلاقتها. لذا، أحسب أن هناك تقصيراً كبيراً في اطلاع النخب على المقدمات الثقافة والفكرية لبعضهما البعض، لتوفر أرضية مشتركة يمكن من خلالها قبول الآخر للآخر. وهذا في نظري هو دور النخب العاقلة اليوم.
د. سامي ناصر خليفة
أكاديمي كويتي
[email protected]