حوار / التشكيلي المغربي مكي مغارة لـ «الراي»: وضعيتنا كفنانين عرب ضحية المكانية!
تتعدد أعمال الفنان التشكيلي المغربي مكي مغارة، إلا أنها تظل تتسم بتصارع الألوان وتساكنها ومزجها بين المائية والزيتية في كيمياء عجيب من الإبداع يجعل منها قصيدة غنائية تخاطب الروح والوجدان.
أقام هذا الفنان الرائد (مواليد تطوان 1933) وشارك في عشرات المعارض التشكيلية داخل المغرب وخارجه، كما توجد أعماله في مجموعات خاصة في متاحف الفن بأسبانيا وفرنسا وايطاليا والولايات المتحدة، وهو إلى ذلك من بين قلة متميزة من الفنانين المغاربة الذين عهد إليهم بتصميم العملة المغربية.
وهذا الحوار مع مكي مغارة ليس مجرد «سين وجيم»، انه محاولة لاستخلاص التجربة، والأحرى تقطيرها في دورق الفن الشفاف، الذي بقدر ما يسمح لنا بالرؤية، بقدر ما يجعلنا نزداد رغبة في المعرفة. وهذا نص الحوار:
•منذ 1949 وأنت تعيش الفن التشكيلي وتتعايش معه، كيف تفسر هذا العشق الطويل؟
- قد لا نفرق بين ما يهزنا وما لا يهزنا وبين ما نفهمه وما لا نفهمه، فليس هناك مقياس مطلق لفهم العالم، لكننا ندرك ان المجابهة هي احدى الوسائل الناجحة لفهم ما يدور حولنا والمبدعون هم أكثر المرشحين لمواجهة التحديات القائمة على مبدأ الصراع بين الخير والشر من خلال آثارهم الفنية والأدبية والفكرية وهي تضفي طعما لذيذا ونفسا جديدا للحياة، ليس بالأدوات التقليدية للمبدع فحسب بل بالإرادة والعزم والتصميم والتي تشكل إلى جانب عوامل أخرى زيت خطواتهم إلى النور.
ليس هناك حب لا يخلو من المعاناة، ولكن ليس إلى حد تدمير الذات، فالفن يظل فسحة للعين وللقلب، وهو عشق من نوع آخر، عشق للحياة والأزهار وضوء الشمس وكل ما هو جميل فوق هذا الكوكب.
البحث عن الجمال
• والواقع؟ أين مكانه في رؤية مكي مغارة الفنان؟
- الفنان يفتح عينيه على الواقع، ويتتلمذ على مدرسة الطبيعة المفعمة بالجمال يلتقطها بعدسته الفنية. وإذا كان الفنان المعاصر اليوم لا يطارد الواقع لكن الواقع لا محالة يطارده شاء أم أبى، ويملي عليه شروط بحثه في الفن عن الجمال من خلال ضرورة توظيف عناصر الظل والضوء بموازاة الذاكرة والخيال داخل العمل الفني، ليس على صعيد المدارس الواقعية فحسب بل حتى على صعيد الاتجاهات الأكثر تجريدية في الفن، وهذه هي المهمة الحقيقية للفنان الجاد.
• ماذا يميز تجربتك التشكيلية، أعني ما هي إضافاتك لحركة التشكيل المغربي؟
- لقد اشتغلت في البداية على رسم المشاهد المختلفة التي تساعد حاسة الرؤية على دقة الالتقاط وقدرة اليد على مجاراتها، وتلت هذه المرحلة مرحلة رسم الوجوه البشرية رسما يكاد يكون آليا نظرا لارتباطي وقتها بالأسلوب الأكاديمي الذي هو أول الطريق. تلت هذه مرحلة التعبير التشكيلي بإقصاء الأشكال من اللوحة والاستعاضة عنها بالموتيفات التي تحيل عليها الذاكرة، بعد هذه المرحلة اتخذت اللوحة فضاء مختلفا يريد أن يثبت أن كل ما في الكون صالح لأن يستغل تشكيليا.
إن قيمة تجربتي تكمن في نزوعي إلى الحرية. كنت وما زلت أسعى إلى حرية الفن والفنان، فالحرية بالنسبة للفنان هي مادته وموضوعه، وهي ضرورة لفك القيود عن الفكر والثقافة وتحقيق الإبداع والارتباط بالحياة، وكما قيل، إن الفن هو الحياة مضافا إليها الإنسان.
• هل تعني أنه يجب أن تكون للفنان حرية أوسع من حرية المواطن العادي؟
- لا اعتقد بوجود حرية للفنان وأخرى للمواطن، هناك حرية فقط، غير أن على الفنان أن ينتزع حريته لأنه يتجرأ على خرق قانون ترتيب الأشياء، ولأنه يجد نفسه أحيانا في تحد مع مجتمعه كرد فعل تجاه الأشياء الناقصة أو الثابتة أو الميتة.
• تقودنا هذه الإجابة إلى التساؤل عن وضعية الفنان العربي في عالم اليوم؟
- كثيراً ما تكون وضعيتنا كفنانين عرب ضحية المكانية، فنحن إذا صح التعبير «مكانيون» نتيجة الحاجز الذي نضعه بيننا وبين الفنان الآخر الذي لا يتورع عن استغلال هذا الحاجز ليبقينا في إطار فنونا التقليدية التي هي بالنسبة إليه مجرد بضاعة سياحية، فإذا حدث وتقدمت مسافات إليه فستتعطل رؤيته نحوك، فهو كان يأتي إليك لأنك تمثل عصراً آخر وحضارة أخرى.
لقد اعتدنا أن نجزأ العالم ونعطيه اتجاها سياسيا معينا، بينما ينبغي على الفنان أن يفسح المجال لخياله ليتجاوز كل الحدود السياسية والثقافية.
تحول الرؤية
• في أعمالك الأخيرة ثمة اتجاه أسماه النقاد بـ «الإلصاقية»، حيث أدخلت إلى اللوحة عناصر غير تشكيلية من المواد الجامدة المختلفة، هل نقول إن هذه التجربة مغايرة لمسار تجربتك؟
- هناك تحول وتغير مع الاحتفاظ بروح التجربة السابقة. ربما كان اتساع حركة اليد بعض التأثير. كانت اليد تعمل بطريقة أفقية كأنها تكتب ثم تكون الأشياء حسب تخطيط معين، فلما امتدت اليد إلى أبعد، اتسع حجم الحركة، كما اتسعت مساحة اللون، وبذلك تحولت الرؤية أيضا وطريقة المشاهدة.
• الذي افهمه من حديثك أن ثمة علاقة بين جسد الفنان وحجم اللوحة. هل هي ذاتها العلاقة بين الخيال والواقع؟
- الفنان ككيان إنساني يتأثر ويستقبل من الخارج كل المعلومات المتعلقة بالتجربة ويجد نفسه قادراً على التعبير من خلالها حسب رؤية معينة وأسلوب معين، وبالتالي تركيب معين، والتوفيق بين المواد المختلفة مع الجسد عملية ممكنة، إذ يتحول العمل إلى قراءة أخرى مختلفة عن القراءات السابقة بحكم اختيارات الفنان نفسه، وبحكم علاقته التجريبية مع الأشياء البصرية والثقافية. والعمل عندما يتحول إلى مجسمات يجمع بين الرسم والنحت، فإنما يتحول المنظور الفني إلى صيغة الحداثة.
لا أدري لماذا نستجيب أحيانا لرغبة الأشياء وفي نفس الوقت نحاول أن نطوعها كي تلبي رغباتنا الخاصة؟ هل هي لعبة الحوار المستمر مع العالم، نستنطقه ويستنطقنا، نعطيه ويعطينا. ولكن العالم يعطينا حسب ظروفه التاريخية، والفنان يتلقى هذه الظروف ويشتغل عليها بحكم انتمائه إلى فضاء معين، عصر معين بمواده وتكويناته.
• صيغة الحداثة هذه أين تضعها من التجارب «الحداثوية»؟
- ربما تتضح بأسلوبها الخاص أو ربما هناك تجارب أخرى تسير في نفس الاتجاه، أو لها ثبات المفهوم مع تفاوت الرؤية والأسلوب، ولكنني أستطيع القول إن تجربتي لها صيغة خاصة، فإذا عرض عملي على امتداد العالم العربي يمكن التعرف عليه، لعدة عوامل منها حركية العمل نفسه.
• هل تأخذ المتلقي بنظر الاعتبار؟
- سؤالك يحيل إلى موضوع التواصل بين الفنان التشكيلي والجمهور، وهو جدير بالطرح، إلا انه يستوجب للإجابة عليه متخصصين للاحاطة بجميع الجوانب، فالكل يتفق بان ليس هناك تواصل حقيقي لأسباب كثيرة منها ما يتعلق بالفنان نفسه أو بالنقاد ووسائل الإعلام أو حتى بالمادة التشكيلية نفسها.
• وماذا تقترح كي تتم مثل هذه المواكبة؟
- يتطلب الأمر استراتيجية ثقافية تسعى لإدماج الفن في الحياة اليومية، والفسح في المجال أمام الفنان كي يسهم في التبليغ بوسائل مختلفة كالملصق والجدارية والتمثال، وإشراكه في وضع تصاميم المدن إلى جانب المعماري، حتى يكون الدور مكتملا في التوعية لمتطلبات الإنسان في بيئته، كذلك يجب دعم حقوق الفنانين قانونيا وحماية الإبداع والمبدعين، وقبل ذلك لابد من إقصاء كل المتطفلين على المجال الفني لأن الساحة التشكيلية قد اختلط فيها كل شيء.