مرزوق علي الغانم / العم محمد الرشيد الرموز ترحل ولا تموت

تصغير
تكبير
بقلم: مرزوق علي الغانم

غاب عن أنظارنا... ارتحل عن مرمى البصر... لكنه بقي في النفوس وبقيت مآثره في مجال العمل الوطني نموذجا يُقتدى به الكثيرون خصوصا من عرفه عن قُرب.

العم محمد الرشيد، رحمه الله وطيب ثراه، كان مدرسة في الزهد والالتزام الديني والمحافظة على الثوابت، ونبراساً يحتذى به في أدب الحوار والاختلاف، ومنهجاً في المبادرات الايجابية الهادفة على مختلف المستويات.

في عمله البرلماني توافق المختلفون على نزاهة أدائه وحرصه على الثوابت والدفاع عن الدستور. عايش النشأة والممارسة لبناء ديموقراطية وليدة متميزة بين جاراتها وفي محيطها، وكان انعكاسا حقيقيا لحلم التغيير الديموقراطي من خلال أداء برلماني راق معياره المصلحة العامة، وغايته واضحة لا لبس فيها.

كان الفقيد أول من فعّل أداة المساءلة الدستورية بتقديمه أول استجواب في تاريخ الحياة البرلمانية إلى وزير الشؤون آنذاك العم المرحوم عبدالله مشاري الروضان، وما أن عقد اجتماع بينهما قبل مناقشة الاستجواب بحضور الفلكي العم صالح العجيري ووعد الوزير حينها بإزالة المخالفات محل الاستجواب... حتى أقدم على سحب طلب الاستجواب، في خطوة تمثل الهدف المأمول من النائب الوطني دون مزايدة أو تأويل أو مطالبات.

ومثلما كان شرساً في الدفاع عن الدستور عندما تم تعليق الحياة البرلمانية في ثمانينات القرن الماضي كانت شراسته أكبر في الدفاع عن الشرعية إبان فترة الاحتلال الغاشم عام 1990. ومازلنا نذكر كيف كنا نتحلق حوله خلال تلك الفترة ونتلقى منه التوجيه والدعم وبث روح الحماسة ومعنويات الانتصار بتأكيده أن الحق سينتصر للشرعية عاجلاً أم آجلاً... كان مقاوما حقيقيا بالكلمة الصادقة. بالتعبئة. بشحن النفوس ضد اليأس. بالأمل في رؤية الضوء في نهاية النفق. بالايمان بأن للحق ألف صولة وجولة في مواجهة الباطل.

العم محمد الرشيد، الوالد والقدوة والمعلم النزيه. تتلمذنا على يديه ونهلنا من فكره واكتسبنا منه مبادئ السياسة والعمل البرلماني. أتذكر عندما كنا نذهب معه أنا وأبناؤه ومنهم الأخ معن والدكتور أنس الرشيد من ندوة إلى أخرى ومن منتدى إلى آخر لنتعلم كيف يكون الحوار أساساً للعمل الجماعي. كان الحوار مذهبه، والحلم والهدوء والروية والكلمة الحسنة خريطة طريق لايصال أفكاره إلى الجميع بمن فيهم أهل بيته وأصدقاؤه. كان مدرسة حقيقية لم تبخل على زائريها بالمعرفة والنقاش واكتساب المهارات... وفوق ذلك كله كان نموذجا نادرا من الذين يفتحون عقولهم وقلوبهم للرأي الآخر وتقبل النقد والاختلاف خصوصا من أقرب المقربين إليه.

نستذكرك أيها الكبير ونحتاجك في الوقت نفسه، إذ ما أحوجنا دائماً في العمل البرلماني إلى حُسن الظن بالآخر وقبول الآراء رغم اختلافها والابتعاد عن التأويل والمواقف المسبقة... من أجل تحقيق الفائدة من الديموقراطية كخيار دائم، استنادا إلى أن المعيار في الحكم دائماً هو المصلحة العامة.

نستذكرك وأنت الزاهد الكبير بالمصالح الآنية والمكاسب الشخصية. أنت الحالم بأن تتبوأ الكويت منصبا مرموقا يعيدها إلى التألق الاقليمي والدولي. انت المقاتل من أجل أن تربح الكويت ويربح شعبها لا أن يربح بعض من في الكويت ويخسر الوطن. انت الذي أتعبت تلاميذك وجعلت الاقتداء بك مسألة يصعب حلها لأن الرقي والرؤية والحكمة وبُعد النظر ليست أرقاما حسابية بل كيمياء خاصة يهبها الله فتتولد موهبة وقيادة وحضوراً.

غيّب الموت العم ابوأحمد... خطف الرحيل قامة من قامات الكويت لم تحنِها التجارب بل زادتها استقامة ولم تكسرها العواصف بل زادتها صلابة. غربت شمسه لكن تاريخه سيظل مشرقاً وخالداً لمن يريد الاستزادة من النهج الوطني الأصيل... هكذا كانت الكويت وستظل، وفية لنماذجها الوطنية التي تحولت رموزاً وحصدت اجماع المحبة من جموع تشاركت في الألم والأمل.

رحم الله العم محمد الرشيد وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله ومحبيه وأبناء الشعب الكويتي الصبر والسلوان.

وحتى نقابل هذه القامة الكويتية التاريخية بجزء يسير من عطاءاتها، وحتى نعمم القيم التي مثلها الفقيد الغالي في نفوس الجيل الجديد والأجيال القادمة، فإني أناشد جامعة الكويت أن تطلق اسم الراحل محمد الرشيد على أحد مرافقها. فهذا هو المكان الذي اعتبره ابوأحمد مصنعا للرجال، وما أحوج شباب الكويت اليوم إلى استلهام سيرته... من أجل أن تستعيد الكويت شبابها.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي