قبل خمسة وعشرين عاماً قرأت رواية «البؤساء» لفيكتور هيغو وكانت من الروايات المؤثرة جداً من روايات القرن التاسع عشر والتي عالج فيها المؤلف أحوال الطبقة الكادحة، وصور ما يقع عليها من ظلم اجتماعي تحت اسم البؤساء... كان شفافاً صادقاً ذا حس مرهف جمالي في نقل الوقائع كما أحسها.
المقصود أنني علمت بعد ذلك بأعوام أنه لم ينجح ككاتب مرموق إلا بعد بلوغه سن الستين وبروايته تلك «البؤساء»!
شكسبير أشهر كاتب في التاريخ الحديث والذي كان ليونارد شو يحتقره حتى النخاع ويتمنى موته، هو شكسبير اليوم بعد أكثر من أربعة قرون رغماً عن مخالفيه!
وما يتعرض له الكاتب الأستاذ محمد عبد القادر الجاسم هو تأهيل للنجومية المطلقة في عالم الكتابة والمهنية الصحافية الحرة والفضاء السياسي الذي لا يحده حد. ما يتعرض له لن يلقي به في زوايا النسيان أو قمامة التاريخ، كما يظن البعض، إنما هي إرهاصات عهد جديد من الحريات مقبل، قربانه محمد الجاسم، وهي قيمة فاتورة دفع ثمنها مسبقاً تزف للرجل المحجوز، وتصديق على تاريخه المهني بأنه كان حراً مدافعاً عن نقده ورأيه!
إذا كان الفكر لا ينضب، والقلم لا يجف، والديان لا يموت، فإن حرية الكلمة وحقوق الناس في التعبير لا يستطيع أن يقف أمامها أحد، وقتل الأقلام الجريئة لا يمكن أن يكون في عصر الانفتاح ومؤسسات حقوق الإنسان، ومحاولة اسكات الأقلام هو في الحقيقة إحياء لكلمات قد تكون باهتة ميتة. وإذا كان الناس اليوم في غيبوبة عما يحدث فغداً قد يكون قطار انتشاره وبعثه من جديد أقوى وأشد.
لا نتفق مع كل ماكتبه الجاسم، وقد يكون هناك تجاوز فيما كتب. لكنه قال ما عنده بموافقة وزارة الإعلام، وهو موجود عياناً بياناً، نهاراً جهاراً، فلماذا يتم حجزه، ولماذا لا يحال ملفه إلى القضاء؟
ما يتعرض له الكاتب الجاسم هو رجوع إلى الوراء فكتبه منشورة منذ زمن فلماذا إثارتها من جديد، ولمصلحة من؟
وإذا كان الجاسم سيفقد بريقه ولن يجد من ينشر له مستقبلاً، فإن هذا الحجز والتحويل النيابي ومنع زيارته ولقاء محاميه إنما هو أفضل من ألف دار نشر، وأسرع من أكبر مؤسسات التسويق التقنية الشهيرة، وهو بعد ذلك سيتصدر الصحف المحلية والدولية، وستعرض مؤلفاته ومقالاته وكل ما كتبه. وأكثر من ذلك ستكون فرصة ذهبية ليتشفى بالكويت كل عدو حاسد لضرب قيم الحريات فيها من خلال (حجز الجاسم) وكبت الحريات، وتقليص دور شارع الصحافة، وهو ما يعتبر ضمان
لبقاء الجاسم في مقدمة صفوف رجال التاريخ السياسي الكويتي الحديث على الأقل.
هذا ما تنبئنا به تجارب كثير من الكتاب المعارضين والمطالبين بالحريات العامة. فليس كل الكتاب ينفع معهم الحجز أو السجن!
لم اطلع على شيئ من تفاصيل كتبه، ولم أقرأ سوى عدد قليل من مقالاته، وهي لا تروق لي أصلاً! ولا نتفق مع كل ما يطرحه، ولكننا أيضاً لا نقبل منعه من التعبير في الوقت الذي يترك الحبل على القارب لمن يطعن في دستور الأمة وشرعيتها، وينتهك حرمات الدولة وأمنها.
الجاسم كان واضحاً كالشمس في رابعة النهار، لم يداهن أو يتلون، كان في إمكانه أن يتقلب ويفوز بالغنائم، ويفعل ذلك ويستريح، لكنه مقتنع بما يقول، ويرى أن ذلك من حقه وواجبه الوطني في ظل قانون الحريات وإبداء الرأي والتعبير الذي كفله له الدستور...
واليوم نحن نستنكر بشدة عدم مراعاة حالة الجاسم الصحية واستمرار حجزه كمتهم رأي. وستثبت الأيام أن الجاسم نجح في جولته الأولى، وسينجح في الثانية، وسينتشر خبره أكثر وأكبر محلياً ودولياً... واسألوا شكسبير، وجوته، وغيرهما، كيف دخلوا التاريخ.
د. مبارك عبدالله الذروة
كاتب وأكاديمي كويتي
Maltherwa@yahoo.com