«لم أقصد فضح شخصيات مقتنيات وسط البلد»

مكاوي سعيد: كتّاب كبار تراجع إبداعهم بعد أن انزووا وراء «الفتارين» الزجاجية والتكييفات

u0645u0643u0627u0648u064a u0633u0639u064au062f
مكاوي سعيد
تصغير
تكبير
|القاهرة- من مي أبوزيد|

لم يقصد الروائي المصري مكاوي سعيد أبدا فضح تلك الشخصيات التي كتب عنها في كتابه الجديد «مقتنيات وسط البلد»، فقط أراد أن يؤرخ لها، وأن يضيء حياتها، ويثبت أن لمنطقة وسط البلد ضحايا، كما أن لها نجوما، وكذلك لأنه رأى نفسه في فترة من الفترات واحدا من تلك الشخصيات.

فمكاوي لم يكتف بما كتبه عن منطقة وسط البلد وشخصياتها في روايته السابقة «تغريدة البجعة»، التي فازت في القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» العربية في دورتها الأولى، بل قام وبشكل مفصل بتسجيل حكايات ومصائر ما يقرب من 40 شخصية، ربطها بالأماكن التي تواجدت فيها والظروف السياسية والاجتماعية التي نشأت وعاشت فيها في كتابه الجديد الصادر عن «دار الشروق».

الكاتب المصري يحكي بلغة تحمل قدرا كبيرا من السخرية المضحكة حتى يخفف- كما يقول- من وقع قتامة وسوداوية مصائر البشر والأماكن، يحكي عن بشر تخلوا عن أفكارهم من أجل المادة، وآخرين باعوا مبادئهم وقضاياهم، وفنانين ومخرجين أذوا البعض واستغلوا قدراتهم، وشباب أضاعوا مواهبهم الجبارة أو ضيعتهم الظروف القاسية، التي حاولوا التغلب عليها، يحكي عن (ناس عادية) تشرب حتى السُكْر، أو تعشق أشياءها بشكل يفوق عشق البشر، ويحكي- أيضا- عن أماكن تجمع فيها المثقفون وتفجرت من خلالها طاقاتهم ومواهبهم، يحكي عن مقهى «علي بابا»، حيث اعتاد نجيب محفوظ الجلوس، وعن «أسترا»، حيث يتجمع الموسيقيون والأدباء والسينمائيون، ففيها كان يجلس يحيى الطاهر عبدالله ونعمان عاشور ومحمد نوح وغيرهم، ويحكي عن بارات ومقاهٍ وشوارع تغيرت ملامحها أو اندثرت، لتخرج بدلا منها محال الوجبات السريعة.

بداية المقتنيات تعود إلى مقالات نشرها مكاوي بجريدة «البديل» المصرية التي أغلقت، وعن ذلك قال مكاوي: «أخبرت القائمين على الجريدة بأنني لا أحب الكتابة الصحافية، وأن ليس عندي ملكتها ولا ميزة الدأب عليها، وأخبرتهم بأمر تلك الشخصيات وبدأت نشرها متتالية، ففوجئت برد فعل مشجع جدا من نقاد وكتاب كثيرين، وبعد نحو 15 حلقة، قررت التوقف لأعيد صياغة ما نشر وكتابة شخصيات جديدة بمنطق أدبي يمكن ضمها في كتاب».

مكاوي يرفض تصنيف مقتنياته بـ «البورتريهات» قائلا: «البورتريهات نوع من الكتابة الصحافية أراها تكتب بلغة سطحية، وهو أمر أرفضه، فأنا لا أحب الكتابة تحت أي تصنيفات، فهناك من صنف الكتاب على أنه حكايات أدبية، وآخرون على أنه قصص قصيرة، ومنهم من قال إنها رواية تربطها وحدة الموضوع والمكان، بالإضافة إلى أن الجانب التاريخي في الكتاب قد يمنحه الطابع التوثيقي، وهذه الاختلافات بالضبط هي التي منعتني من وضع تصنيف معين لها».

ويخدع القارئ بشكل كبير، فهذا القارئ سيزداد يقينه مع كل حكاية يقرأها بأن تلك الحكايات قد حدثت بالفعل، على الرغم من غرابة الأحداث التي وقعت بها، وهذا اليقين تدعمه لغة مكاوي سعيد نفسه، وإشاراته وذكره لبعض الأسماء الحقيقية وتحليله لبعض الوقائع والأسباب، لكن مكاوي يؤكد: «مساحة المتخيل أكثر من 70 في المئة، لأنني أجهل فترات بدايات وشباب هذه الشخصيات، ولا أعرف عنها شيئا إلا من خلال الحكي عنهم أو الاستماع إليهم، وهذا بالطبع هو الجانب المتخيل، لكن هذا لا يمنع أن هناك أناسا مشهورين ذكرتهم بالاسم بعد استئذانهم.. وذلك تحية لهم».

والكتاب أهداه إلى القراء الذين ساندوه، وفسر ذلك قائلا: «هذا الكتاب يقول إنني عشت طويلا في الظل، وأنا لست متيقنا من أي شيء، ففي البداية كانت تراودني أحلام بأن أكون كاتبا كبيرا، وأحيانا أشعر بأنني لن أكون شيئا على الإطلاق، وعندما كتبت رواية «تغريدة البجعة» قلت لنفسي: هذا عمل أرضى عن كتابته مئة بالمئة، وأتمنى أن يلقى القبول، خاصة مع شعوري بأنه سيجذب قراء جددا، لكنني لم أكن أتوقع هذا النجاح المذهل بالنسبة لي، لهذا كان لابد أن أهدي هذا الكتاب للقراء، فلأول مرة في حياتي يقابلني أناس في الشارع يستأذنونني في أن يشتروا الرواية لأوقع عليها، أو أن أستقبل تليفونات من قراء عاديين».

الظل الذي يقصده مكاوي هو توقفه عن الكتابة لما يقرب من 11 عاما، قضاها على المقهى أو في أعمال سينمائية هنا وهناك، ثم قام بعدها بإصدار رواية «تغريدة البجعة» التي حققت نجاحا ملحوظا، بل جلبت له جائزة الدولة التشجيعية، وبعدها إصدار مجموعتين قصصيتين هما «سري الصغير» و«ليكن في علم الجميع سأظل هكذا»، قبل إصداره لهذا الكتاب، وهذه الظروف أو الحكاية تجعله أقرب إلى المقتنيات التي يحكي عنها، وعن ذلك قال: «لفترة طويلة قبل تحققي كأديب، كنت «زيهم»، بل واحد منهم، وكان من الممكن ألا أنجح فأصير «مقتنى» أو قصة أتمنى أن يكتبها الآخرون، الذين لا ينظرون لثراء هذا العالم، ولا يهتمون كثيرا بالكتابة عنه، ففي الفترة من نهاية السبعينات حتى نهاية الثمانينات، كان هناك ثراء أدبي وفني كبير، للأسف لم تتح له الظروف فرصة التسجيل».

وأضاف: «أنا من هؤلاء الناس، وأعتقد أن الكتابة الحقيقية عن الناس هي تلك القريبة منهم، فللأسف حدث تراجع في إبداع كتاب مصريين مميزين، لأنهم انزووا بعد شهرتهم وراء الفتارين الزجاجية والتكييفات، فأصبحوا يراقبون الناس من خلف هذا الزجاج، وهو ما أفقدهم صلتهم بالواقع وجعل الحكي ينتقل إليهم عبر عدة أشخاص، ما يفقد هذا الحكي معناه وإبهاره».

ولن يغضب مكاوي إذا ما وصفه أحد بأنه يركز في كتاباته على منطقة وسط البلد فقط، وقال: «وسط البلد تريد أكثر من 100 كاتب لكي يوفوها حقها، وأنا أكتب عن شيء أعرفه، وباعتباري كاتبا من المدينة، فلن أكتب عن الريف أو الصعيد، لأنني حينها سأكتب كتابة مزيفة عن مجتمع لم أره أو شاهدته بعين سائح، كما أن أغلب كتاب العالم يكتبون عن منطقة وسط البلد الخاصة بهم، وبالمناسبة... فإن الرواية التي أعكف عليها ستكون أيضا عن وسط البلد».

في حكاية « الحالمون» وصف مكاوي نفسه والجيل الذي ينتمي إليه بـ «البلاهة والطيش وقلة الرباية»، وذلك لعدم اهتمامهم في ذلك الوقت بالكتاب الكبار أمثال نجيب محفوظ وغيره، وحينما تسأله عن سبب التمرد عليهم ثم التراجع عنه، سيضحك، قائلا: «المشكلة التي تقابل الكتاب الجدد، أنهم طوال الوقت مفروض عليهم نماذج بعينها من جانب الصحف والإعلام، فيشعرون بأن هؤلاء ضد الاحتفاء بهم ككتاب، نعم كنا نحب محفوظ وغيره بداخلنا، لكننا كنا نراه عقبة في طريقنا، لكن مع تقدمنا في السن وخبرتنا وإعادة قراءتنا لأعمال هؤلاء الكتاب، نشعر كم كنا تافهين مصابين، فلم نكن نحتفي سوى بكتاباتنا فقط».

من يقرأ «مقتنيات وسط البلد» ربما سيؤكد ما يردده البعض في ما يتعلق بمسؤولية المثقفين عن إفساد المجتمع وليس إصلاحه، ومكاوي أمَّن على هذا قائلا: «من يقول ذلك عنده بعض الحق، المفروض أن المثقف عليه أن يقدم فكرة وحلولا ورؤى، وهذا لا يحدث، فالمثقفون يتراجعون كثيرا للوراء، خاصة في حالة حدوث أزمات، فيكونون أول من تضحي بهم النظم، ففي أزمة الجزائر الأخيرة كاد الفنانون ولاعبو الكرة - مع احترامي لهم- أن يحدثوا قطيعة بين الشعبين، هذا إلى جانب صراعاتهم الدائمة وغياب المشروعات الجماعية في ما بينهم».

ومن يقرأ الكتاب أيضا سيكتشف كم التدهور الذي أصاب تيار اليسار في مصر، ويعلن مكاوي حزنه لذلك قائلا: «يحزنني حال اليسار جدا، فرغم أنني لا أنتمي فعليا إليه، فإن اليسار كان يملك عددا من الكتاب والنقاد المتميزين، لكن بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار الفكرة، لفت نظري أن جانبا كبيرا منهم لم يتمسك بأفكاره، بل انقلب لأقصى اليمين أو حتى انضم للإخوان المسلمين، فهل كانوا غير مقتنعين بأفكارهم؟ أو أن الصدمة كانت مفاجئة لهم فأربكتهم؟... هذه الأسئلة شغلتني كثيرا، لأن الانسحاب من الساحة وإعادة النظر في الأفكار أفضل كثيرا من التحول إلى وجهة نظر مغايرة، والآن.. الكل يتحدث عن حقوق وامتيازات مادية، في وقت لم تعد هناك أفكار عظيمة أو حلم قومي».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي