تقرير / عشية زيارة اليومين في ختام جولته العربية

بيروت تقلّب صفحات من العلاقات اللبنانية - الكويتية وتستحضر أدواراً لأمير «الديبلوماسية الناعمة»

تصغير
تكبير
|بيروت - من ريتا فرج|

تهتمّ الدوائر المراقبة في بيروت بالزيارة التي يبدأها صاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد للبنان غداً متوّجاً جولته العربية التي تأتي في لحظة اشتداد الشرخ الإقليمي بين الدول العربية على وقع التوتر في معالجة الملفات السياسية المأزومة، بدءاً بتعثر عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مروراً بالحال المتفجرة في العراق، وصولاً الى «التحرش» الايراني الساعي الى تعميق اختراقاته في دول الجوار.

ومع زيارة اليومين لسمو الأمير لبيروت والتي تؤكد عمق الروابط التاريخية بين الكويت ولبنان، تستحضر الذاكرة اللبنانية الأدوار البالغة الأهمية التي كانت الديبلوماسية الكويتية اضطلعت بها في مراحل مختلفة من تاريخ لبنان لا سيما في إطار محاولة إطفاء «نار» الحرب (بين 1975 و1990).

واذا كان دور «الإطفائي» الذي سعت الكويت الى لعبه على خط الملفات اللبنانية «المشتعلة» مردّه في جزء منه الى العلاقة «الخاصة» التي تربطها بلبنان، فانه كان بمثابة «جزء من كلّ» ركيزته استراتيجية «الديبلوماسية الناعمة» والمعتدلة التي تعتمدها الكويت «تاريخياً» وعمادها ثلاثية الحياد الايجابي وتعزيز السلام ومحاولة توحيد العرب على قياس العروبة المفقودة منذ رحيل الرئيس جمال عبد الناصر.

وفي قراءة لباحثين لبنانيين انه منذ العام 1961 تاريخ استقلالها، دأبت الكويت على ترسيخ القاعدة الثلاثية التي اعتمدتها، فالحياد الإيجابي وفرّ لها رؤية أرحب في التنقل بين الدول العربية لاقتراح الحلول أو تقديم المبادرات لحل الأزمات المتفاقمة. ولعل القضية اللبنانية كانت من بين أهم أولوياتها على الاقل منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982. غير أن الحرب الأهلية شكلت تحدياً لها، فسعت بديبلوماسية هادئة الى المساهمة في إخراجها من عنق الزجاجة، بعدما خاضت جولات سياسية عشية إقرار اتفاق الطائف برعاية سعودية، فتمّ تعيين عميد الديبلوماسيين العرب يومها الشيخ صباح الأحمد رئيساً للجنة السداسية، وقرر صاحب الخبرة العريقة أن يبذل جهوداً استثنائية، لكن الخلاف حال دون تحقيق الأماني المطلوبة، فتحولت اللجنة ثلاثية تألفت من الملك السعودي فهد بن عبد العزيز والعاهل المغربي الحسن الثاني والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، وكان ذلك في مايو العام 1989 أي قبل نحو أربعة أشهر من صدور البيان الرسمي عن توقيع اتفاق الطائف.

«شيخ الديبلوماسيين العرب».

واليوم، تأتي جولة سمو الامير الشيخ صباح الأحمد على بعض الدول العربية ومن بينها لبنان، لتؤكد ثلاثية الحياد والسلام والعروبة، الثابتة دعائمها. أما المتغير الأساسي فهو تداخل معضلات البيت العربي على مرمى التهديدات الإسرائيلية بشنّ حرب جديدة على لبنان، والحضور التركي اللافت في الشرق الأوسط، والمصالحة بين سورية والسعودية التي بدأت أولى نتائجها في الأزمة اللبنانية الراهنة، فضلا عما يُثيره المدّ الإيراني الداعم للمقاومات في العراق وفلسطين المحتلة ولبنان، من انقسامات.

وليس مفاجئاً، في نظر كثيرين، اهتمام الكويت بهموم العالم العربي، خصوصا ان «شيخ الديبلوماسيين العرب» الشيخ صباح الأحمد تمرَّس في انتهاج السياسة الخارجية «الناعمة»، قبل تبوؤ سموه سلطاته الدستورية أميراً للبلاد في 29 يناير 2006.

وعلى مدى اربعة عقود، قام سمو الشيخ صباح بدور محوري في تفكيك الخلافات العربية- العربية، فإهتم بالملف اليمني، وسعى الى توحيد الامارات العربية، وعمل على كفّ مطالب إيران بدولة البحرين، وكان من أبرز الداعمين لتأسيس مجلس التعاون الخليجي، عدا عن اهتمامه بوقف الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات وتوقفت رحاها العام 1988 بعدما وافق الإمام الخميني على القرار 598. وتضاف الى ذلك مساعيه في حل الخلاف الباكستاني الهندي.

في مواجهة الأزمات

على مدى ثمانية واربعين عاماً، أي منذ حصول الكويت على استقلالها الذي أعقبه دخولها في عضوية الأمم المتحدة في 15 مايو 1963، إمتازت السياسة الخارجية الكويتية بالحياد الايجابي والاعتدال، فساهمت في تأسيس مجلس التعاون الخليجي العام 1981، وعملت على إيجاد الحلول العادلة للصراع العربي الإسرائيلي، اضافة الى دورها الفاعل خلال المرحلة الصعبة التي أعقبت هزيمة الخامس من يونيو 1967 ومساهمتها في حرب الاستنزاف وإعادة بناء الجيوش العربية في مصر وسورية استعداداً ليوم السادس من أكتوبر 1973. يومها، قرر وزراء البترول العرب في الكويت خفض انتاج البترول في شكل تدريجي باتجاه الدول الاوروبية والولايات المتحدة. لكن البيان الصادر عن قمتهم التي عُقدت في 17 اكتوبر 1973، لم ينص على الحظر، الى أن خطى رئيس دولة الامارات الشيخ زايد الخطوة الأولى وقرر حظر تصدير البترول الى الولايات المتحدة قائلاً: «إن النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي»» وبعدها إتخذت الكويت وليبيا والسعودية وقطر والعراق القرار نفسه، ما دفع وزراء خارجية دول السوق الاوروبية الى إصدار بيان أكثر إعتدالاً بشأن الصراع العربي الإسرائيلي، فدعوا الى البدء بإجراء مفاوضات السلام وتطبيق القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن.

ورغم النكسة التي تعرضت لها الكويت بسبب الغزو العراقي، دأبت على دعم السلام بين الدول العربية، فتواصلت جهودها الديبلوماسية خليجياً وعربياً ودولياً لاجتراح الحلول للعديد من القضايا، من بينها الجزر الإماراتية الثلاث، والنزاع الذي قام بين البحرين وقطر حول بعض الجزر، أو بين السعودية وقطر. ومثل الدعم للقضية الفلسطينية أحدى اهم أولويات السياسة الخارجية الكويتية، سواء لجهة الجهود التي بذلها الشيخ صباح في أحداث سبتمبر الأسود 1970، او في تأكيده ضرورة إيلاء القضية الفلسطينية الأهمية المطلوبة في المحافل الدولية خصوصا الأمم المتحدة التي انضمت الى عضويتها العام 1965. وفي الكلمة التي ألقاها عميد الديبلوماسيين العرب في الجمعية العامة يوم 20 سبتمبر 2005، أشار الى ضرورة التنسيق والتعاون الدوليين لتثبيت دعائم الأمن والسلم في العالم تحت مظلة الشرعة الدولية ووفقاً للعمل الجماعي. ودفعت سياسة الاعتدال والتوازن الكويت الى المطالبة بإرساء قواعد الشراكة الاقتصادية بين الدول المتقدمة والنامية، على قاعدة تخفيف أعباء الديون وإلغائها عن الدول الأكثر فقراً.

وفي الوقت الراهن، وبعد تولي سمو الشيخ صباح الأحمد مقاليد الحكم، لم تغير الكويت ديبلوماسيتها القائمة على ثلاثية الحياد الايجابي والسلام والعروبة، واستفادت من حضورها على المستويين الخليجي والعربي والذي عززته بصندوق التنمية الاقتصادية، لتنخرط في توفير الحلول للأزمات العربية العالقة، وفي مقدمها الازمة اللبنانية. فكيف يمكن مقاربة العلاقات الكويتية- اللبنانية بدءاً بتجربة اللجنة السداسية التي كانت من المهمات الأصعب في ديبلوماسية الشيخ صباح «الناعمة» التي سعت الى وقف نزف الحرب الأهلية قبل إقرار اتفاق الطائف ودخول لبنان في جمهوريته الثانية.

ولدت اللجنة السداسية المكوّنة من وزراء خارجية الكويت والجزائر وتونس والاردن والامارات والسودان من اجتماع وزراء الخارجية العرب في تونس العام 1988، وترأسها الشيخ صباح الاحمد. وكانت مهمتها تحقيق التوافق بين مختلف الأطراف المتنازعين في لبنان لإخماد الحرب. ومعلوم أن لبنان آنذاك كان منقسماً بين حكومتي العماد ميشال عون والدكتور سليم الحص. وبذلت اللجنة جهوداً كبيرة، لكنها لم تكمل مسيرتها، خصوصاً حين بدأ النظام السوري يعرقل مهمتها، وذلك إثر حصولها على تحليلات وتقارير تفيد ان دمشق لا تؤازر سعيها. فارتأى الملوك والرؤساء العرب خلال اجتماعهم في قمة الدار البيضاء في مايو 1989 بعد اطلاعهم على تقرير أعده رئيس اللجنة الشيخ صباح، أن يعيدوا النظر في تكوينها وأن يتمّ إختصارها. وعلى غرار المواجهة الكلامية بين وزيري خارجية العراق وسورية التي شهدها الاجتماع الذي عُقد في تونس الذي انبثقت منه اللجنة الأولى، تكررت التجربة بين الرئيسين حافظ الأسد وصدام حسين في القمة الثانية، وكان منطلقها الوضع اللبناني. ووصل التجاذب الى حد تأكيد الأسد رفضه إخلاء بيروت الكبرى قبل انسحاب إسرائيل أولاً من الجنوب، فرد عليه صدّام قائلاً: «يجب أن تخرجوا من لبنان وإذا لم تخرجكم قرارات القمة فإننا سنخرجكم بالقوة». وبعد هذه المواجهة، قرر الرؤساء والملوك تأليف لجنة ثلاثية من الملك فهد بن عبد العزيز والملك الحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد، وتمّ إشراك الجامعة العربية كمؤسسة تضم جميع الدول الأعضاء في هذه اللجنة ممثلة بالأخضر الابراهيمي. غير أن اللجنة الثلاثية أُصيبت بدورها بانتكاسة، بعدما بدا للنظام السوري أنها تعمل في اتجاه سحب القوات السورية من لبنان. وكانت النتيجة إصدار اللجنة بيانا يوم 31 يوليو 1989 جمدت فيه مهمتها. هذه الأجواء التي سبقت انعقاد مؤتمر الطائف في السعودية كشفت مؤشرين أساسيين: الأول، القرار الاميركي بالهيمنة السورية على لبنان، والثاني، ترقب تحولات اقليمية منتظرة تعيد خلط الأوراق على المستويين العربي والدولي. فهل هي مصادفة تاريخية ان يقر لبنان دستوره الجديد بعد الغزو العراقي للكويت؟

بصرف النظر عن الأجواء السياسية التي سادت مع تشكيل اللجنة السداسية الأولى برئاسة الشيخ صباح الأحمد، تميزت الديبلوماسية الكويتية حيال لبنان بقدرات براغماتية، تأخذ في الاعتبار طبيعة التركيبة اللبنانية الطائفية. ولعل ما أشار اليه فؤاد بطرس في مذكراته يعبر في شكل واضح عن ذلك حين قال: «إن صباح الأحمد يتمتع بقدرة فائقة على المناورة». وطبعاً، هذه الخاصية لا يحملها إلاّ الذين لهم تاريخ طويل في القراءة بين سطور الأزمات العربية من المحيط الى الخليج. وميزة السياسة الخارجية الكويتية المكوَّنة من ثالوث الحياد والسلام والعروبة، اضافة الى عمق الرؤية التي تميز بها الشيخ صباح الأحمد حين كان وزيراً للخارجية، انها سمحت للدولة التي تتمتع بهامش من الحرية والديموقراطية بصوغ معادلة مفادها أن الوفاق لا الافتراق يكرس وحده السلام الناهض على مرتكزات العروبة التي كرستها الكويت في دستورها.

ومسار الديبلوماسية «الناعمة» لم يتوقف بعد تولي سمو الشيخ صباح مهماته كأمير للبلاد. وجاءت القمة الاقتصادية التي عُقدت في الكويت يوم 20 يناير 2009، لتضفي مزيداً من القوة على «ديبلوماسية الصباح». وبعد نحو ثلاثة اعوام على التوتر بين دمشق والرياض، أكثر العواصم العربية تأثيراً في الملف اللبناني، رعى الأمير القمة الرباعية التي عقدت في الرياض يوم 11/3/ 2009 بين مصر وسورية والسعودية والكويت من وراء الكواليس، فعادت العلاقات السعودية- السورية الى مسارها شبه الطبيعي بعد توتر انعكس على لبنان.

الشراكة الاقتصادية

والعلاقات الكويتية- اللبنانية لم تنحصر بالمستوى السياسي الذي تمّ توطيده بدءاً بتدشين التبادل الديبلوماسي بين البلدين أوائل الستينات، فثمة روابط اقتصادية متينة، وهناك ميزات مشتركة عدة مثل مساحة الديموقراطية والاعتدال في السياسة الخارجية والحياد الايجابي إزاء العواصف الاقليمية وحمل شعار العروبة بمعناه الحضاري والسلمي. كل ذلك أعطى لهذه العلاقة التاريخية مزيداً من الاستمرار والثبات، بحيث لم تشهد حالا من القطيعة أو الاضطراب طوال تاريخها الممتد لأكثر من اربعين عاماً.

وتعكس الأرقام الشراكة الاقتصادية بين الكويت ولبنان، اذ وصل حجم التبادل التجاري العام 2009 الى نحو 368 مليون دولار، وكان نصيب الصادرات اللبنانية الى الكويت منها 77 مليونا و300 ألف دولار غالبيتها مواد غذائية وذهب، فيما بلغت واردات لبنان من الكويت 291 مليون دولار تركزت في المشتقات النفطية. وفي العام 1998، أنشئت اللجنة الفنية التجارية الكويتية -اللبنانية بهدف توثيق التعاون في كل المجالات الاقتصادية. وقد تمكنت هذه اللجنة في اجتماعها الثاني الذي عقد في بيروت في فبراير 2010 من انجاز خمسة مشاريع اتفاقات في المجالات التجارية والصناعية والتعاون في القطاع الخاص والجمارك والنقل البري والبحري.

وكشفت تقارير ان قروض الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية لدعم القطاعات الانتاجية اللبنانية، توالت حتى وصلت العام 2009 إلى ما مجموعه 17 قرضاً لتمويل مشروعات اقتصادية، بلغت قيمتها الاجمالية نحو 161 مليون دينار كويتي. وفي مارس 2010، وُقع في بيروت اتفاق قرض بين حكومة الجمهورية اللبنانية والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، يقدم الصندوق بمقتضاه قرضا بقيمة 5.5 مليون دينار كويتي للمساهمة في تمويل مشروع سد القيسماني لمياه الشرب في لبنان.

وإلى جانب القروض التنموية، قدم الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية سبع معونات فنية إلى لبنان، بلغت قيمتها نحو 36.3 مليون دينار. كما تولى الصندوق إدارة سبع منح قدمتها حكومة دولة الكويت الى لبنان بلغت قيمتها الإجمالية نحو 119 مليون دينار، آخرها المنحتان الخاصتان بإعادة اعمار لبنان وبناء متحف بيروت التاريخي.

كذلك، كان للصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية مساهمة في اعادة إعمار لبنان بعد حرب يوليو 2006.

وبحسب التقارير، فان منحة إعادة الاعمار وصلت الى 300 مليون دولار، وقُسمت جزءين، الأول يتصل بتعويضات بقيمة 115 مليون دولار، موزعة على 24 قرية و12 مجمعاً سكنياً في ضاحية بيروت الجنوبية؛ والثاني يشمل تنفيذ 54 مشروعاً بقيمة إجمالية تبلغ 185 مليون دولار موزعة كالاتي: 12 مشروعا في شمال لبنان و17 في الجنوب و9 مشاريع في بيروت وضواحيها و6 مشاريع في البقاع.

الحياد الايجابي، السلام بين الدول العربية، العروبة، العلاقات الديبلوماسية العريقة، الديموقراطية والحراك السياسي، هذه العوامل وغيرها حددت مسار الرؤية المشتركة بين الكويت ولبنان. ولعل ما أشار اليه السفير الكويتي في لبنان عبد الله القناعي يوجز ماهية هذه العلاقة حين قال في حديث صحافي في أواسط أبريل الماضي: « لا يمكن للكويت حكومة وشعباً أن تنسى ذلك الموقف المشرف للبنان الشقيق، إبان الغزو العراقي الغاشم، حيث كان لبنان على صغر حجمه وظروفه الخاصة أول دولة تدين الغزو العراقي، وتنتصر للشرعية الكويتية والدولية وتطالب الغازي بالانسحاب وعودة الشرعية. وعموماً يمكننا القول إن العلاقات ممتازة، ومبنية على الاحترام المتبادل والعروبة، ولم تتردد الكويت يوماً في مدّ يد العون والمساعدة للبنان الشقيق وشعبه الأصيل».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي