نبيل علي صالح / المشروع الثقافي الإسلامي ... تحديات الحاضر وآفاق المستقبل

تصغير
تكبير
يؤكد الإسلاميون، في كل نتاجاتهم الفكرية، على أن الدين الإسلامي يقدم نفسه للناس جميعاً وعلى اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم على أساس أنه مشروع تغييري حضاري وإنساني كبير، ينطلق من موقع الثقافة والفكر ليصل إلى مواقع السياسة والاجتماع والاقتصاد. أي أنه يمتد في سياق رؤيته الشاملة بامتداد الوجود الإنساني في الحاضر والمستقبل على المستويين الحضاري والجغرافي.

ويحاول أتباع هذا المنهج الفكري التغييري، إبراز دور هذا الدين في الحياة من حيث كونه دعوة عالمية لبناء الحياة والوجود على قيم العدل والحق والمبادئ الإنسانية الفاضلة الأخرى... لكننا، وبغض النظر عن طبيعة تلك الأفكار التي تسيطر عليها نزعة رومانسية حالمة بعيدة عن الواقع البشري النسبي المتغير، كبقية الأفكار الأيديولوجية التي مرت علينا وحكمت مجتمعاتنا، نعتقد أنه يجب على رموز وعلماء ومفكري هذا الدين، باعتبار أنه رسالة إنسانية قبل أي شيء آخر، سلوك طريقين رئيسيين:

الأول: الانخراط الميداني في الحياة والواقع، والانفتاح على الفكر الآخر والتواصل والاحتكاك مع بقية الحضارات والمذاهب المؤيدة له، أو المناقضة لطروحاته. أي السير عملياً وليس نظرياً فقط على طريق الانفتاح على قيم العصر وأخلاقه العملية المتغيرة.

والثاني: طريق التجديد والاجتهاد الديني واعتماد طريق العلم والعقل كأساس للنهوض والتعمير والبناء، لأن ذلك هو الذي يحقق لهذا الدين امتداداً ووجوداً واستمرارية في ساحة الوجود والمنافسة الحضارية السلمية الشاملة.

وقد يتحدث البعض عن وجود صعوبات ميدانية عديدة يمكن أن تقف حائلاً أمام تحقيق تلك الأهداف الكبرى، ولكننا نعتبر، من جانبنا، أنه بمقدورنا تنفيذ كثير من تلك الطموحات والمشاريع المستقبلية المنشودة على المستوى السابق رغم تراكم كثير من الضغوطات والعقد والعراقيل هنا وهناك، وبالرغم من حالة التخلف المركب الذي نعترف بوجوده، والمتمثل في الأمور التالية:

أزمة الهوية: لا جدال في أن المشروعية الحضارية والثقافية للأمة ترتكز على قاعدة الدين الإسلامي، وبهذه الخلفية الفكرية استطاعت هذه الأمة أن تنجز استقلالها وتتحرر من الاستعباد والاستعمار. فالعرب والمسلمون قاوموا جميعاً كل أنواع الاستعمار تحت راية الإسلام، وحتى الحركات الوطنية الاستقلالية العلمانية كانت ترفع رايات الجهاد والإسلام، والتي مكنتها من حشد التأييد والدعم والأنصار لها بين صفوف مجتمعاتها.

لكن دراسة وتحليل واقع تلك المجتمعات حالياً، وانفتاح أنظمتها التحديثية على حداثة القشور الغربية لم يعوض الأمة، كما يقول دعاة الفكر الإسلامي، عن هويتها الأصلية الحقيقية المتمثلة في وجود هذا الدين (الإسلام). فالمد الوطني والقومي لم يسهما أبداً في بلورة هوية واضحة، لأنه كان دائماً مشروعاً توليفياً وتلفيقياً جمع المتناقضات في بوتقة واحدة.

التخلف المجتمعي العام: وهو ما يمكن ملاحظته والوقوف أمامه من خلال مراجعة مجمل الأفكار والمذاهب والتيارات الفكرية التي كانت سائدة (وربما لا يزال بعضها قائماً حتى الآن) والتي فشلت، بحسب الإسلاميين، في إيصال المجتمعات العربية والإسلامية إلى مواقع وأعتاب الحداثة الحقيقية، بل إن ما حدث من تطورات وجهود تنموية اقتصر على مجموعة تغييرات شكلية غيرت مواقع السطح، ولم تصل إلى أعماق المجتمع.

غياب وتغييب الرؤى الاستراتيجية للمستقبل: وهذا ما نلاحظه من خلال عدم وجود رؤية علمية وموضوعية للغد لدى معظم القوى والنخب الفكرية والسياسية الحاكمة. وتتمظهر هذه الحالة عملياً من خلال انعدام الوعي والرؤية الواقعية للمستقبل.

وقد وجدنا أن تلك النخب كانت عاجزة عن فهم وإدراك حجم الأحداث والتحولات المتسارعة التي ضربت العالم كله بعد مرحلة الحرب الباردة. فكانت قراءتها متسرعة ومرتبكة وغير واضحة، وبخاصة في المجال الاقتصادي، حيث نرى أمامنا الآن أن الدين الخارجي للدول العربية يقدر بحوالي (350) مليار دولار أميركي، كما تبلغ فائدة هذا الدين سنوياً أكثر من (22) مليار دولار. ولذلك لا عجب أن تتسع دوائر الفقر والمعاناة والحرمان واليأس في مجتمعاتنا كلها. خصوصاً بعد حدوث أزمة الأسواق المالية الدولية وتأثر كل القطاعات الأخرى المرتبطة معها بصورة سلبية للغاية.

التعصب والانغلاق: تعاني مجتمعاتنا العربية والإسلامية من هيمنة أفكار وطروحات انغلاقية قديمة موروثة من عهود التخلف الفكري والسياسي، وهي لا تزال حاضرة بقوة حتى الآن، حيث نجد أنه لا يزال ممنوعاً على الكتاب والمفكرين المتنورين معالجة تلك الأفكار التراثية ونقدها أو إعادة هضمها وتمثلها بصورة إيجابية، وكأن الانغلاق والتعصب يعطي الفكر قوةً وتجذّراً في ساحة المواجهة الحضارية، في الوقت الذي يحتاج العام إلى من يوسع رقعة النقد للأفكار والمفاهيم، ويرسخ مبدأ الانفتاح على الآخر.

وفي هذا المجال، تشكل القضية الأخيرة (قضية انفتاح الفكر الإسلامي على الحياة والعصر، وتواصله معهما) ضرورة ذاتية وموضوعية في آن معاً، باعتبار أن هناك وجوداً كمياً ونوعياً هائلاً لمجموعة من المعطيات والمضامين الفكرية الذاتية الخاصة بالدين الإسلامي نفسه، لا يمكنها أن تنمو وتتصاعد من دون تفاعلها المتوازن مع الآخر، وفهمها له، وانفتاحها عليه، من موقع ذاتية الانتماء، وعمومية المعنى والهدف، وليس من موقع موضوعية التحدي والاستجابة فحسب...

ضمن هذا الإطار، من الطبيعي أن تظهر أمام هذا المشروع الثقافي كثير من المشكلات الجديدة، والقضايا العصرية الراهنة والمستقبلية، والتي تتمثل في كيفية إيجاد سبل التخاطب والتواصل مع ثقافة الآخر الذي بات يفرض نفسه علينا الآن من خلال ثوراته العلمية والمعلوماتية والتكنولوجية الحديثة (مجتمعات الثورة المعلوماتية) التي عممت ذاتها الثقافية والحضارية على مستوى العالم، وعلى حساب بقية ثقافاته، وخصوصاً الثقافة والحضارة الإسلامية، بما أدى إلى تهميشها، وجعلها عديمة الفاعلية والجدوى في العمق والامتداد. الأمر الذي يتطلب من المشروع الثقافي الإسلامي لهذه الحضارة استيعاب الواقع الموضوعي الجديد المرتبط بعنصري الزمان والمكان، وإبداع القواعد النصية الخاصة به، خصوصاً وأن هناك تأثيرات عملية سلبية لا بد أن تنجم عن تلك الثورات، في ما يتعلق بآليات التنميط الثقافي والحضاري القسري أحياناً التي يستخدمها الآخر في عمله الدائم على تعميم نموذجه الحضاري على الثقافات الحية الأخرى.

من هنا نحن نعتقد أن التحديات الأساسية الحاضرة التي تواجه الفكر الإسلامي المعاصر، على مستوى دوره النوعي الكبير المتمثل في عمله الدائم على قضايا بناء الذات المسلمة، تنحصر في ثلاثة مظاهر حضارية روحية ومادية، هي العولمة، والهويات الثقافية، ومجتمع الثورة المعلوماتية..

ولذلك فإنه من الضروري جداً بالنسبة للفكر الإسلامي المعاصر الوعي بهذه الوقائع الجديدة، ودراستها، وتحليلها، واتخاذ المواقف الفعالة بشأنها، على اعتبار أن هناك ظروفاً مستجدة مختلفة تحكم تلك الوقائع، وتؤثر في صياغة المشهد الثقافي المستقبلي برمته على مستوى ضرورة نقد هذا الفكر وتقييمه وطرح رؤى وأفكار جديدة ترتب أولوياته وخطوط عمله في المدى الزمني القريب والبعيد، بحيث ذلك يؤدي إلى إعادة التأسيس الجديد لمشروع النهضة العربي والإسلامي.



نبيل علي صالح

كاتب وباحث سوري والمقال بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية»

www.minbaralhurriyya.org
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي