بدر العيسى / كوريا الشمالية... ونموذج آخر من الحياة


قامت جمعية علماء العلوم الاجتماعية في كوريا الشمالية بتقديم دعوة كريمة لزيارة العاصمة بيونغ يانع إلى وفد من الكويت برئاسة د. عبدالرضا اسيري عميد كلية العلوم الاجتماعية.
عندما وصلتني هذه الدعوة لم اتردد لحظة في قبولها لما لها من وطأة غريبة ومختلفة في النفس عن بقية الزيارات إلى دول العالم الأخرى، وذلك بسبب انغلاق المجتمع الكوري الشمالي والحصار الاقتصادي المفتك مع سيطرة الهاجس الامني.
هذه الزيارة التي امتدت إلى 7 ايام كان لها جوانب سياسية وامنية، واقتصادية واجتماعية وثقافية، وفي هذه السطور سوف اتناول جزءا من الجانب الاجتماعي الثقافي
والذي يحدد طبيعة ونوعية الحياة في مجتمع كوريا الشمالية.
نظام الحكم في ذلك البلد شيوعي في نطاق حزب واحد وهو «حزب العمال» وسياستها الخارجية تسعى لتحقيق هدفين رئيسيين:
- توحيد شبه الجزيرة الكورية في اتحاد كونفيديرالي يقوم على المبادئ اللينينية تحت شعار كونفيديرالية ديموقراطية لكوريا (هو الاسم القديم لكوريا).
- المحافظة على النظام السياسي القائم في كوريا الشمالية وضمان استمراره.
تقوم الدولة على ايديولوجية شيوعية تسمى بالفلسفة «الجوتشية» (Juch» والتي تركز على الاعتماد الذاتي للانسان الكوري، وان هذا الانسان له استقلالية مطلقة، وان الانسان الكوري له حياتان حياة مادية تكرس للدفاع وخدمة الموطن والنظام، وحياة اخرى اجتماعية بعد الممات وتعني الارث الاجتماعي الذي خلفه المواطن الكوري لنفسه في حماية الوطن والدفاع عنه والتمسك بفلسفة الزعيم العظيم (كما يطلقون عليه) كيم ايل سونغ، لذلك لديهم اعتقاد بأن زعيمهم الراحل حي ويعيش حياته الاجتماعية وانهم يذاولون حياتهم وكأنه موجود فيما بينهم، فلذلك عمدوا على تحنيط جثمانه واصبح مزارا للوفود وللشعب الكوري الشمالي.
حياتهم تصف بالعسكرة الاجتماعية، حيث ينفق نسبة كبيرة من الدخل القومي تقدر ما بين 8-9 بلايين دولار سنويا على القوات المسلحة، فهم يأخذون بمبدأ الجيش اولا (سون جون) ثم في المرتبة الثانية احتياجات الشعب، يحصل المواطن الكوري على مستلزمات الحياة كافة من الدولة من دون مقابل، ويعمل العامل والمزارع والعسكري جنبا إلى جنب في جميع المجالات مثل الزراعة، التشييد والبناء، النظافة ويعملون لساعات طويلة لذلك لايعانون من ظاهرة السمنة وامراضها.
العلاقات الاجتماعية والاحتكاك بالاجانب شبه معدوم، او محرم على الشعب الكوري، فلديهم شبكة اتصال خاصة بهم، وشبكة اخرى للاجانب حيث لايمكن الاتصال بين كوري واجنبي، ولديهم مسارح وصالات عرض للموسيقى ومراكز رياضية، حيث يخصص يوم للمواطنين ويوم آخر للاجانب (الممنوع الاختلاط).
ليس لديهم في معجمهم الاجتماعي مصطلح او مفهوم يسمى «مشكلة، او معضلة او ازمة»، لا يحبذون سماع اي من هذه المصطلحات، فالفلسفة «الجوتشية» قضت على كل المشاكل فلا توجد هناك جريمة، تعاطي مخدرات، بطالة أو انتحار ولاحالات طلاق ولا تلوث بيئي ولا يوجد شخص كوري لا يعرف القراءة والكتابة.
نظامهم التعليمي يقوم على أساس فلسفة التربية الثورية الساعية للتخلص من الترسبات القديمة في عقول النشء وتربيته على عقيدة شيوعية مع تكثيف وعيها المطبق إلى حين بلوغها درجة من التشبع الثوري بما يضمن لها اعداد افرادها لخدمة الثورة، وان حلم المواطن الكوري هو الحافض على النظام من أي تهديد خارجي.
كما لديهم مسرح للطفل متطور وفي غاية الابداع والاعداد المتميز والقائم ايضاً على العمل الثوري للدفاع عن فلسفة الزعيم العظيم، ولديهم ايضاً فرق موسيقية عريقة تعزف مقطوعات موسيقية تحاكي اعمال الزعيم الراحل والتي ترسم صورة ثورية صادقة لا تعطي مجالا للتفكير العاطفي حتى ترسخ المبادئ والقيم الثورية في حياة الشعب.
فالحياة الاجتماعية مرصودة ومقننة، حيث اخذت نموذجا آخر قائما على الانغلاق حتى في داخل الوطن ، حيث استطاع النظام تتحديد نطاق الحياة الاجتماعية الصارمة لكي يفوز بها المواطن الكوري بعد مماته (الحياة الأخرى).
وعن طريق هذه القيم والمبادئ استطاع الزعيم الراحل والذي يرمز له بالزهرة البنفسجية والزعيم الحالي كيم ايل جونغ (ويرمز له بالزهرة الحمراء) ان يغير أسس الحياة المادية والاجتماعية وانماط الثقافة في كوريا الشمالي، ولهذا نجد ان رياح التغيير التي هبت على العالم خصوصاً في الاتحاد السوفياتي السابق واوروبا الشرقية والصين في منتصف الثمانينات والتسعينات الا ان النطام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في كوريا الشمالية على الدوام يعلن تمسكه بفلسفة الزعيم الراحل وانها هي الحياة وما بعد الممات.
أخيرا وليس آخر لا يسعني هنا الا ان اتقدت بجزيل الشكر والامتنان لسعادة وزير خارجية الكويت الشيخ محمد الصباح الذي كان مهتما لهذه الزيارة والوقوف على نتائجها لرعايته الكريمة لنا عن طريق سفارتنا في بكين ولطاقمها على التقدير والاجلال الذين طوقونا برعايتهم وكرمهم، والشكر مضاعف لسعادة سفير مصر الحبيبة السيد اسماعيل غنيم والشكر ايضا للمستشار الثقافي المصري في كوريا الشمالية الاستاذ حسام مشير الذي كرس وقته واهتمامه لنا.
والشكر موصول ايضا لسعادة سفير كوريا الشمالية لدى الكويت على تسهيله لمهمتنا.
بدر العيسى
أستاذ في قسم الاجتماع - جامعة الكويت
عندما وصلتني هذه الدعوة لم اتردد لحظة في قبولها لما لها من وطأة غريبة ومختلفة في النفس عن بقية الزيارات إلى دول العالم الأخرى، وذلك بسبب انغلاق المجتمع الكوري الشمالي والحصار الاقتصادي المفتك مع سيطرة الهاجس الامني.
هذه الزيارة التي امتدت إلى 7 ايام كان لها جوانب سياسية وامنية، واقتصادية واجتماعية وثقافية، وفي هذه السطور سوف اتناول جزءا من الجانب الاجتماعي الثقافي
والذي يحدد طبيعة ونوعية الحياة في مجتمع كوريا الشمالية.
نظام الحكم في ذلك البلد شيوعي في نطاق حزب واحد وهو «حزب العمال» وسياستها الخارجية تسعى لتحقيق هدفين رئيسيين:
- توحيد شبه الجزيرة الكورية في اتحاد كونفيديرالي يقوم على المبادئ اللينينية تحت شعار كونفيديرالية ديموقراطية لكوريا (هو الاسم القديم لكوريا).
- المحافظة على النظام السياسي القائم في كوريا الشمالية وضمان استمراره.
تقوم الدولة على ايديولوجية شيوعية تسمى بالفلسفة «الجوتشية» (Juch» والتي تركز على الاعتماد الذاتي للانسان الكوري، وان هذا الانسان له استقلالية مطلقة، وان الانسان الكوري له حياتان حياة مادية تكرس للدفاع وخدمة الموطن والنظام، وحياة اخرى اجتماعية بعد الممات وتعني الارث الاجتماعي الذي خلفه المواطن الكوري لنفسه في حماية الوطن والدفاع عنه والتمسك بفلسفة الزعيم العظيم (كما يطلقون عليه) كيم ايل سونغ، لذلك لديهم اعتقاد بأن زعيمهم الراحل حي ويعيش حياته الاجتماعية وانهم يذاولون حياتهم وكأنه موجود فيما بينهم، فلذلك عمدوا على تحنيط جثمانه واصبح مزارا للوفود وللشعب الكوري الشمالي.
حياتهم تصف بالعسكرة الاجتماعية، حيث ينفق نسبة كبيرة من الدخل القومي تقدر ما بين 8-9 بلايين دولار سنويا على القوات المسلحة، فهم يأخذون بمبدأ الجيش اولا (سون جون) ثم في المرتبة الثانية احتياجات الشعب، يحصل المواطن الكوري على مستلزمات الحياة كافة من الدولة من دون مقابل، ويعمل العامل والمزارع والعسكري جنبا إلى جنب في جميع المجالات مثل الزراعة، التشييد والبناء، النظافة ويعملون لساعات طويلة لذلك لايعانون من ظاهرة السمنة وامراضها.
العلاقات الاجتماعية والاحتكاك بالاجانب شبه معدوم، او محرم على الشعب الكوري، فلديهم شبكة اتصال خاصة بهم، وشبكة اخرى للاجانب حيث لايمكن الاتصال بين كوري واجنبي، ولديهم مسارح وصالات عرض للموسيقى ومراكز رياضية، حيث يخصص يوم للمواطنين ويوم آخر للاجانب (الممنوع الاختلاط).
ليس لديهم في معجمهم الاجتماعي مصطلح او مفهوم يسمى «مشكلة، او معضلة او ازمة»، لا يحبذون سماع اي من هذه المصطلحات، فالفلسفة «الجوتشية» قضت على كل المشاكل فلا توجد هناك جريمة، تعاطي مخدرات، بطالة أو انتحار ولاحالات طلاق ولا تلوث بيئي ولا يوجد شخص كوري لا يعرف القراءة والكتابة.
نظامهم التعليمي يقوم على أساس فلسفة التربية الثورية الساعية للتخلص من الترسبات القديمة في عقول النشء وتربيته على عقيدة شيوعية مع تكثيف وعيها المطبق إلى حين بلوغها درجة من التشبع الثوري بما يضمن لها اعداد افرادها لخدمة الثورة، وان حلم المواطن الكوري هو الحافض على النظام من أي تهديد خارجي.
كما لديهم مسرح للطفل متطور وفي غاية الابداع والاعداد المتميز والقائم ايضاً على العمل الثوري للدفاع عن فلسفة الزعيم العظيم، ولديهم ايضاً فرق موسيقية عريقة تعزف مقطوعات موسيقية تحاكي اعمال الزعيم الراحل والتي ترسم صورة ثورية صادقة لا تعطي مجالا للتفكير العاطفي حتى ترسخ المبادئ والقيم الثورية في حياة الشعب.
فالحياة الاجتماعية مرصودة ومقننة، حيث اخذت نموذجا آخر قائما على الانغلاق حتى في داخل الوطن ، حيث استطاع النظام تتحديد نطاق الحياة الاجتماعية الصارمة لكي يفوز بها المواطن الكوري بعد مماته (الحياة الأخرى).
وعن طريق هذه القيم والمبادئ استطاع الزعيم الراحل والذي يرمز له بالزهرة البنفسجية والزعيم الحالي كيم ايل جونغ (ويرمز له بالزهرة الحمراء) ان يغير أسس الحياة المادية والاجتماعية وانماط الثقافة في كوريا الشمالي، ولهذا نجد ان رياح التغيير التي هبت على العالم خصوصاً في الاتحاد السوفياتي السابق واوروبا الشرقية والصين في منتصف الثمانينات والتسعينات الا ان النطام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في كوريا الشمالية على الدوام يعلن تمسكه بفلسفة الزعيم الراحل وانها هي الحياة وما بعد الممات.
أخيرا وليس آخر لا يسعني هنا الا ان اتقدت بجزيل الشكر والامتنان لسعادة وزير خارجية الكويت الشيخ محمد الصباح الذي كان مهتما لهذه الزيارة والوقوف على نتائجها لرعايته الكريمة لنا عن طريق سفارتنا في بكين ولطاقمها على التقدير والاجلال الذين طوقونا برعايتهم وكرمهم، والشكر مضاعف لسعادة سفير مصر الحبيبة السيد اسماعيل غنيم والشكر ايضا للمستشار الثقافي المصري في كوريا الشمالية الاستاذ حسام مشير الذي كرس وقته واهتمامه لنا.
والشكر موصول ايضا لسعادة سفير كوريا الشمالية لدى الكويت على تسهيله لمهمتنا.
بدر العيسى
أستاذ في قسم الاجتماع - جامعة الكويت