حديث / عقلية القطيع...

لوحة للفنانة سوزان بوشناق


| وسمية العويس |
أجلس مضطربة على مقعد هزاز يهز دقات قلبي، القلب وكل ذاك الألم خفقات الندم ومشاعر الذنب المحترقة على نار الحيرة الملتهبة وتلك الغفوات التي أبكتني مرة ولم أنم بعدها مرات ومرات.
أيقظ نفسي في غرفة الطبيب النفسي فأخبره: لقد كانت حادثة بسيطة كما كنت أراها ولكنها تعسرت الان، ذلك أن بعض الذكريات المؤلمة تحاول أن تنساها وأخرى تنسى وبعضها يأتي فجأة ليعيدك كما جئت وحيدا ضعيفا وضائعا.
لقد كنت في المدرسة في السادسة عشرة من عمري فطلبت منا المعلمة أن نحضر بذورا للزراعة أيا كان نوعها، وفي الحديقة اجتمعنا بفرحة تغمرنا بتوديع الكتب واستمتعنا بثرثرتنا، فاقترحت علينا ان نزرع ونثبت اسماءنا على لوحة خشبية حتى لا تختلط معا رغم أننا كنا مع الاختلاط!
فيبتسم الطبيب: وبعد؟
وزرعنا الأمل وأنا أكتب اسمي أشم رائحة التربة الرطبة بالماء فيهب نسيم ينعش ذاكرة فرحي.
يوما بعد يوم كنا نسقيها ماء، ويغرقنها أحيانا وكنت أسقيها رشفة رشفة وأقرأ عليها الفاتحة وأطبطب على تربتها وأنفث حبي لها سرا، فالماء وحده لايكفي فنفث ريق أمي على وجهي يروي ظمئي.
ومر أسبوعان فأسمع صراخهن: «هند تعالي شوفي وردة النرجس»...
وتمسكني أخرى: «وردة الياسمين وايد حلوة، ماأصدق»...
وأخريات وأنا أترقب من بعيد بذرة الخدج وأقول: «وايد موحلوة» ...
وفي اليوم الاخير قررت المعلمة اعلان النبتة الفائزة وان أخبرتنا بأن الهدف ليس الفوز فقط وانما تشجيع على حب الزراعة وأن نجعل أرضنا خضراء جميلة.
ومازلت أترقبها الى أن جاء دوري...
فتسألني: تسقينها يوميا؟
أجيب بتردد كمن يعتذر: نعم.
فتسألني ثانية: من اشتراها؟
- أبي.
فيتهامسن: بذرتها عاقر لاتنجب! ويضحكن عاليا ...
فتلتفت الي المعلمة وتضع يدها على كتفي: لاعليك تحتاج الى الوقت فاصبري.
عن أي صبر تتحدث وأنا في عمري الصغير أكره الانتظار، أتململ في الحزن خوفا من نظراتهن الساخرة فأقول أو كمن يعتذر: لابد أن الريح أخذتها...!
- الريح!... وممكن الحشرات!
فتقاطعهن احداهن بسخرية: ربما لم تكن هناك بذرة أصلا...! ويكملن الضحكات.
وفي لحظة غضب قتلتها، نعم وخنقت أنفاسها، هي ذاتها البذرة التي ولدت بالفاتحة وماتت بتكفيري لها، أحمل جثتها بل أمشاج ايمان ممزقة نحو المقبرة.
في حديقة منزل والدي وفي زاوية صغيرة وبعيدة عن الخطوات توجد مقبرة جماعية لايعلم عنها، الا أنا، أما الاطفال فكانوا يلعبون حولها فأخبرتهم مرة، أن هذه البقعة تحتها حفرة تلتهم من يمشي فوقها وصدقوني.
كانت تضم قبرا لقطة ماتت بسبب الاهمال وأسباب أخرى طويلة وعصفور كناري ماتت أنثاه فقتلت زوجها برش مبيد حشري على طعامه، فلم يرق لي أن يتكلمن بأن لم يكن وفيا وتزوج غيرها! فجاءتني في الحلم : لم قتلت حبيبي؟
أتمتم فيظهر العصفور هزيلا شاحبا يغطي جسده السواد: لاتندمي، فأنا لاأقوى على العيش من بعدها.
فتقول: أرجوك لاتقتلي حلما اخر فيتبادلان قبلة الحب ويغيبان.
وذبابة كانت تعني قناعاتي ماتت رغما عني اذ خبأتها في علبة تحت خاتم الالماس فاتصلت أختي مرعوبة: الذبابة اختفت أقسم اني لبست الخاتم وكانت موجودة...
فصرخت وأغلقت الهاتف ويسألني زوجي فأجيب: كان عزيزا علي.
وبكل برود يقول: لاعليك سأشتري لك أغلى منه.
كانت أغلى من خاتم الألماس، اذ حللوا ألماس قناعاتي فوجدتها فحما... بسببهم.
وقبور أخرى تضم بقايا أحلام.
فأسمع صوت أبي ينادي: هند تعالي.
أرتب هيئة الخذلان وأستغل اللحظة لاسأله عن البذرة التي لم يجف قبرها بعد؟
- ألم أخبرك؟ لم تكن بذرة عادية كانت مختلفة وأحببت أن أجلب لك بذرة لنخلة صغيرة...
أرجف من الصدمة فقد قتلت: من امنت بي اذ كذبني الناس!
أتعلم يادكتور أنا قاتلة بل سفاحة في حق نفسي التي قتلت مرة تلو المرات ولكن أجبني من سأقتل بعدها؟ أجبني ... أجبني، من وكيف وأين... وأغرق في بحر تساؤلاتي أنتظر أن ألقى على ساحل السلام فأرفع رأسي واذا الطبيب غارق في البكاء!
- اسفة ان كان في حديثي شيئا أزعجك... يقاطعني: انا اسف أيضا لم أتطرق للموضوع مع أحد، ولكنك مختلفة ولابد أن تتخلصي من عقلية القطيع، «ان امرأة تكتب هي امرأة
شفافة بطبعها وفوق الشبهات، ابحث عن القذارة حيث لايوجد الأدب»!
وأنت لم ولن تقتلي أحدا بعد, بل قتلوك عمدا كما فعلوا معي، فعلى الرغم من مكانتي الشهيرة الا أنني لاأحبها كنت أود أن أصبح مطربا فقتلوني باسم الدين تارة وتارة باسم التقاليد والاعراف.
- ممكن أسمعك صوتي؟
- تفضل، يالبشاعة صوته رغم صدقه...
أقاطعه: ولكنك تحسن الانصات بشغف، انت في الأصل فنان.
ويوعدني بتحقيق حلمه وأعده بأن أزرع بدلا من أن أحقد، أن أحب بدلا من أصمت، أن أؤمن بدلا من أن أقتل، أن أكتب بدلا من الموت.
وفي الصباح أقرأ الجريدة وتلفني الدهشة ويرن الهاتف ...
-الو، هلا منيرة ...
- قرأت الخبر؟ لقد مات اثر نوبة قلبية مفاجئة ...
أتلعثم، لقد كنت في الامس عنده ...
ترد بلا احساس: انت نذير شؤم.
أجاوب بهدوء: بل العكس تماما، الرجل كان يعاني، قتل حلمه من قبل فقتله من بعد... !
ربما لم يرق لها حديثي فاعتذرت بحجة انشغالها في العمل.
- باي
- باي باي!
أجلس مضطربة على مقعد هزاز يهز دقات قلبي، القلب وكل ذاك الألم خفقات الندم ومشاعر الذنب المحترقة على نار الحيرة الملتهبة وتلك الغفوات التي أبكتني مرة ولم أنم بعدها مرات ومرات.
أيقظ نفسي في غرفة الطبيب النفسي فأخبره: لقد كانت حادثة بسيطة كما كنت أراها ولكنها تعسرت الان، ذلك أن بعض الذكريات المؤلمة تحاول أن تنساها وأخرى تنسى وبعضها يأتي فجأة ليعيدك كما جئت وحيدا ضعيفا وضائعا.
لقد كنت في المدرسة في السادسة عشرة من عمري فطلبت منا المعلمة أن نحضر بذورا للزراعة أيا كان نوعها، وفي الحديقة اجتمعنا بفرحة تغمرنا بتوديع الكتب واستمتعنا بثرثرتنا، فاقترحت علينا ان نزرع ونثبت اسماءنا على لوحة خشبية حتى لا تختلط معا رغم أننا كنا مع الاختلاط!
فيبتسم الطبيب: وبعد؟
وزرعنا الأمل وأنا أكتب اسمي أشم رائحة التربة الرطبة بالماء فيهب نسيم ينعش ذاكرة فرحي.
يوما بعد يوم كنا نسقيها ماء، ويغرقنها أحيانا وكنت أسقيها رشفة رشفة وأقرأ عليها الفاتحة وأطبطب على تربتها وأنفث حبي لها سرا، فالماء وحده لايكفي فنفث ريق أمي على وجهي يروي ظمئي.
ومر أسبوعان فأسمع صراخهن: «هند تعالي شوفي وردة النرجس»...
وتمسكني أخرى: «وردة الياسمين وايد حلوة، ماأصدق»...
وأخريات وأنا أترقب من بعيد بذرة الخدج وأقول: «وايد موحلوة» ...
وفي اليوم الاخير قررت المعلمة اعلان النبتة الفائزة وان أخبرتنا بأن الهدف ليس الفوز فقط وانما تشجيع على حب الزراعة وأن نجعل أرضنا خضراء جميلة.
ومازلت أترقبها الى أن جاء دوري...
فتسألني: تسقينها يوميا؟
أجيب بتردد كمن يعتذر: نعم.
فتسألني ثانية: من اشتراها؟
- أبي.
فيتهامسن: بذرتها عاقر لاتنجب! ويضحكن عاليا ...
فتلتفت الي المعلمة وتضع يدها على كتفي: لاعليك تحتاج الى الوقت فاصبري.
عن أي صبر تتحدث وأنا في عمري الصغير أكره الانتظار، أتململ في الحزن خوفا من نظراتهن الساخرة فأقول أو كمن يعتذر: لابد أن الريح أخذتها...!
- الريح!... وممكن الحشرات!
فتقاطعهن احداهن بسخرية: ربما لم تكن هناك بذرة أصلا...! ويكملن الضحكات.
وفي لحظة غضب قتلتها، نعم وخنقت أنفاسها، هي ذاتها البذرة التي ولدت بالفاتحة وماتت بتكفيري لها، أحمل جثتها بل أمشاج ايمان ممزقة نحو المقبرة.
في حديقة منزل والدي وفي زاوية صغيرة وبعيدة عن الخطوات توجد مقبرة جماعية لايعلم عنها، الا أنا، أما الاطفال فكانوا يلعبون حولها فأخبرتهم مرة، أن هذه البقعة تحتها حفرة تلتهم من يمشي فوقها وصدقوني.
كانت تضم قبرا لقطة ماتت بسبب الاهمال وأسباب أخرى طويلة وعصفور كناري ماتت أنثاه فقتلت زوجها برش مبيد حشري على طعامه، فلم يرق لي أن يتكلمن بأن لم يكن وفيا وتزوج غيرها! فجاءتني في الحلم : لم قتلت حبيبي؟
أتمتم فيظهر العصفور هزيلا شاحبا يغطي جسده السواد: لاتندمي، فأنا لاأقوى على العيش من بعدها.
فتقول: أرجوك لاتقتلي حلما اخر فيتبادلان قبلة الحب ويغيبان.
وذبابة كانت تعني قناعاتي ماتت رغما عني اذ خبأتها في علبة تحت خاتم الالماس فاتصلت أختي مرعوبة: الذبابة اختفت أقسم اني لبست الخاتم وكانت موجودة...
فصرخت وأغلقت الهاتف ويسألني زوجي فأجيب: كان عزيزا علي.
وبكل برود يقول: لاعليك سأشتري لك أغلى منه.
كانت أغلى من خاتم الألماس، اذ حللوا ألماس قناعاتي فوجدتها فحما... بسببهم.
وقبور أخرى تضم بقايا أحلام.
فأسمع صوت أبي ينادي: هند تعالي.
أرتب هيئة الخذلان وأستغل اللحظة لاسأله عن البذرة التي لم يجف قبرها بعد؟
- ألم أخبرك؟ لم تكن بذرة عادية كانت مختلفة وأحببت أن أجلب لك بذرة لنخلة صغيرة...
أرجف من الصدمة فقد قتلت: من امنت بي اذ كذبني الناس!
أتعلم يادكتور أنا قاتلة بل سفاحة في حق نفسي التي قتلت مرة تلو المرات ولكن أجبني من سأقتل بعدها؟ أجبني ... أجبني، من وكيف وأين... وأغرق في بحر تساؤلاتي أنتظر أن ألقى على ساحل السلام فأرفع رأسي واذا الطبيب غارق في البكاء!
- اسفة ان كان في حديثي شيئا أزعجك... يقاطعني: انا اسف أيضا لم أتطرق للموضوع مع أحد، ولكنك مختلفة ولابد أن تتخلصي من عقلية القطيع، «ان امرأة تكتب هي امرأة
شفافة بطبعها وفوق الشبهات، ابحث عن القذارة حيث لايوجد الأدب»!
وأنت لم ولن تقتلي أحدا بعد, بل قتلوك عمدا كما فعلوا معي، فعلى الرغم من مكانتي الشهيرة الا أنني لاأحبها كنت أود أن أصبح مطربا فقتلوني باسم الدين تارة وتارة باسم التقاليد والاعراف.
- ممكن أسمعك صوتي؟
- تفضل، يالبشاعة صوته رغم صدقه...
أقاطعه: ولكنك تحسن الانصات بشغف، انت في الأصل فنان.
ويوعدني بتحقيق حلمه وأعده بأن أزرع بدلا من أن أحقد، أن أحب بدلا من أصمت، أن أؤمن بدلا من أن أقتل، أن أكتب بدلا من الموت.
وفي الصباح أقرأ الجريدة وتلفني الدهشة ويرن الهاتف ...
-الو، هلا منيرة ...
- قرأت الخبر؟ لقد مات اثر نوبة قلبية مفاجئة ...
أتلعثم، لقد كنت في الامس عنده ...
ترد بلا احساس: انت نذير شؤم.
أجاوب بهدوء: بل العكس تماما، الرجل كان يعاني، قتل حلمه من قبل فقتله من بعد... !
ربما لم يرق لها حديثي فاعتذرت بحجة انشغالها في العمل.
- باي
- باي باي!