الرأي اليوم / عن إغلاق المؤسسات الإعلامية

تصغير
تكبير
لا شيء يؤلم الإعلامي أكثر من خبر إغلاق مؤسسة إعلامية، أو إجراء تخفيضات مالية ووظيفية في مؤسسة أخرى، أو تحول صحيفة يومية إلى أسبوعية. فالإعلام صناعة والصناعة شأنها شأن أي مهنة اخرى تزدهر بالانتشار وتتطور باتساع دائرة المنافسة.

ولكن طبعا، لا بد مما ليس منه بد. ندفن رؤوسنا في الرمال مثل النعام اذا اعتقدنا أن ما يدور في العالم من ازمات اقتصادية ومالية لا ينعكس علينا، وكم هي قاسية تلك المفارقة التي تساق في سياق التحليلات من أن بعض المؤسسات المحلية دفع ثمن عدم تسديد المواطن جون سميث او المهاجر «خوسيه رودريغيز» اقساط منزله للبنك في اميركا ما أدى الى انهيار البنك وبالتالي الاقتصاد المرتبط بدورة المال والاعمال وكون غيمة إفلاسية أمطرت في كل بقاع الكرة الارضية وتجاوزت الشركات الى دول بعينها.

هذا جانب من الصورة لكنه ليس كل الصورة. ونحن معنيون هنا بالموضوع الإعلامي وبقانون الإعلام لأن المشاكل التي تؤدي الى ضعف المؤسسة الإعلامية او الصحيفة ليست اقتصادية فحسب ولا ترتبط كلها بأزمة الرهن العقاري وتداعياتها.

يتباهى المسؤولون الاميركيون بأن دستورهم المتجدد المتقدم وقوانينهم المتطورة وتشريعاتهم المرنة تدين بالفضل للمشرعين، ويعترف المشرعون بأنهم يدينون بالفضل للإعلام الحر خصوصا للقضايا التي تصنف في خانة الرأي العام. فالإعلام الحر يكشف الكثير من الأمور المستورة ويصبح سيفا بيد المشرع على الظلم والتخلف والتجاوزات... لكن ذلك كله لم يتم في ليلة وضحاها بل على امتداد عشرات السنين.

من هنا، يصبح الحكم على قانون المطبوعات في الكويت وما يعتبر ثغرات فيه حكما مستعجلا، فالقانون وضع القطار على السكة الصحيحة رغم انه كان يجب أن يُقر قبل موعده بعقود، ومن الطبيعي ان يتعرض لعثرات في الانطلاق ومشاكل في الصيانة وأعطال في الحركة ومحاولات انقضاض عليه من قطاع الطرق... وهم كثُر يدفعوننا دائما الى الدعاء بحمايته «من شر الطريق».

القانون عمره قصير، وكما في كل قانون يتعلق بأمر حضاري لا بد من فرصة، لا ليغوص في المزيد من المشاكل من جهة، ولا للادعاء بانه كامل وشامل والدفاع عنه حقا وباطلا من جهة اخرى، بل لتصحيح نفسه والتكيف رويدا رويدا مع الظروف والمستجدات وطبيعة الساحة الكويتية والاستفادة من التجربة والخطأ... ثم الانتقال الطبيعي الى الدور الطبيعي الطليعي، اي أن يكون الإعلام رافعة من رافعات تطوير الحريات والديموقراطية والتشريع بل والنظام نفسه.

كل وسائل الإعلام في مواجهة المرايا. في مواجهة الحقيقة. في مواجهة التحديات. ونحن قبل غيرنا مدعوون للتمسك أكثر فأكثر بالقيم والمعايير والأصول المهنية للتفاعل مع حركة المجتمع رغم كل السلبيات الظاهرة على السطح، فمن لا يكشف السلبيات ويركز عليها لن يعبر الجسر إلى التطور الإيجابي ولن يساهم في تسليم المشرع سيفا ضد الفساد والافساد والمخالفين والمتجاوزين.

لا ننكر حق أحد في ان يفصل وسيلة إعلامية على قياس افكاره ومصالحه السياسية والاقتصادية وغاياته الخاصة، فهذه ابجديات الحرية، لكن من يفعل ذلك يتحمل هو مسؤولية التجربة من دون جواز اسقاط الخطأ على السلطة الرابعة أو قانون الإعلام أو حتى أزمة الرهن العقاري العالمية.

تجاوز الإعلام الناجح الأُطر السياسية والاجتماعية والإعلامية الضيقة. خرج من مفهوم المنشور أو البيان. سقط إعلام السلطة سقوطا مدويا وصار عبئا على الميزانيات والسلطة نفسها. لا مكان في بلاط صاحبة الجلالة للكيدية أو الحزبية أو الأهداف المرحلية المصلحية أو التوجيه والبروباغندا الا من باب الزيارة... والزيارة زيارة وان طالت.

أن تلهث وراء الخبر من دون تعب ولا ملل. أن تقرأ التطورات بموضوعية ومنهجية قبل ان تكتبها. أن تحلل الحدث بعناصره ودلالاته ونتائجه لا بتمنياتك ورغباتك. أن تعالج التحقيق لاستخلاص المعلومة وعرض الحلول لا لتعبئة الصفحات. أن يكون الانسان هاجسك الاول والاخير في مجالات المعالجة الإعلامية. أن تكشف كل ما يمكن كشفه من عناصر الفساد والتجاوزات على المال العام. ان تفتح مساحات الرأي والمقالات لكل الآراء والتوجهات وفق الضوابط المتعارف عليها. ان تفتح الأبواب دائما للتطور التكنولوجي. ان تلتزم بالقوانين بدءا من شفافية التمويل وانتهاء بعدم الاستناد الى الوثائق في النشر... كلها وغيرها عناصر اساسية للبقاء والتقدم سواء على مستوى المؤسسة الإعلامية نفسها أو على مستوى الرسالة الإعلامية ووظيفة الإعلام ودوره في تطوير المجتمع والنظام.

لا شيء يؤلم الإعلامي أكثر من خبر إغلاق مؤسسة إعلامية، فهذا أمر يخصنا جميعا كأبناء جسد واحد... ومع ذلك، سنبقى نحارب من أجل أن تتفتح ألف زهرة، ومن أجل أن تبقى رائحة الياسمين أقوى من رائحة الفساد. ومن أجل أن يبقى صوت الحق أعلى من نعيق الغربان.



جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي