شكراً صبحي

مليحة الشهاب





| مليحة الشهاب |
من ضمن صفات المجتمعات المحافظة هو التزامها بالسير في خطوط محددة رسمتها لها الأجيال السابقة من الأجداد والآباء... ليغدو دور كل شخص محددا ومعروفا سلفاً، وإذا كان هذا المصير المقرر مسبقاً لجميع أفراد المجتمع، لكنه أكثر صرامة وحِدّة بالنسبة للمرأة، فمنذ ولادتها يتعاطى معها من منظور أنها فقط مشروع زوجة وربة بيت. ولا يمكن تصور المرأة خارج اطار الزوجية. لذا ليس عليها أن تتعلم أو تتقن أي فنون غير فن الطبخ وخدمة الزوج وتربية الأطفال. ولقد ولدت في هذه البيئة المحافظة. ولفترة المرحلة المتوسطة من الدراسة كنت لا أتصورني خارج هذا الاطار، الذي شكل مخيلتي قبل أن أتقن فن الامساك بريشة الإرادة الحرة ورسم أحلامي بنفسي. بقيت بلا حلم حتى ذلك اليوم الذي حدث فيه أن أخذت صديقتي دفتري لمادة التعبير. في المساء اتصلت هاتفيا عليها كي أقوم بتذكيرها أن تحضر دفتري معها في اليوم التالي. ولقد صادف أن الذي أجاب على رنين هاتفي أخوها الكبير. بعد السلام، طلبت منه أن يسمح لي بالتحدث مع أخته، فسألني بنبرة باردة، تعبر عن عدم الاكتراث: أقول لها من يريدها؟... فأجبت: مليحة. ما أن سمع اسمي حتى تغيرت نبرة صوته إلى النقيض لدرجة أني شعرت بأنه غير من طريقة جلسته وهو يقول: اووووه انت مليحة. أنا على الطرف الآخر من الهاتف، وجدتني مصعوقة ليس فقط بهذا الانقلاب المفاجئ من النقيض إلى النقيض بل بعمق وصدق فرحته بي، وقبل أن أفق من هذا الذهول، إذا به يقول: لقد قرأت دفترك التعبير. كتابتك جدا رائعة، لقد أذهلني أن واحدة في عمرك وتكتب بهذا النضج، والثراء اللغوي... هل تحلمين أن تكوني كاتبة...؟
هكذا كانت كلماته مفاجآت متتالية، قوية، وصادمة لعقلي وقلبي الصغير... من ذهولي لم أعرف ماذا أقول، لكن وجدتني أجيب عن سؤاله بتلقائية وببديهية: لا... لم أحلم أن أكون كاتبة، فالبنت لا تحلم.
كان ردي صاعقاً بالنسبة له، فرد بنبرة غضب أكثر من استغراب: من قال إن البنت ليس لها أن تحلم، كل شخص، ذكر أو انثى عليه أن يحلم. بعد صمت قصير، انبرى قائلاً بنبرة فيها تعاطف ورحمة: مليحة، إذ لم يكن لك حلم، دعيني أحلم عنك لك... في المستقبل، أنتِ ستكونين كاتبة، بل وكاتبة رائعة جداً.
هكذا ختم حديثه معي بحلم صاغه لي بدلاً عني. كانت هذه أول وآخر مرة أتحدث معه.
في الحقيقة لم أهتم كثيراً بكلماته لي أو حتى حلمه الجميل. لكن بعد كل هذه السنوات، أجدني أتذكر كلماته وحلمه مع كل مقال أكتبه، وأتساءل هل يقرأوني؟ هل يعلم بأن نبوءته تحققت؟ وبأن بذرة حلمه قد ألقاها في تربة احتضنتها بهدوء وصمت، وفاجأتني والآخرين بولادة شجرة تهمي كل أسبوع بثمرة؟ ومع كل مقال تجتاحني رغبة أن أقول: شكراً صبحي.
ترى كم مليحة في مجتمعنا تحتاج إلى صبحي، يعلمها الحلم وحتى التحليق.
كاتبة سعودية
malihaalshehab@yahoo.com
من ضمن صفات المجتمعات المحافظة هو التزامها بالسير في خطوط محددة رسمتها لها الأجيال السابقة من الأجداد والآباء... ليغدو دور كل شخص محددا ومعروفا سلفاً، وإذا كان هذا المصير المقرر مسبقاً لجميع أفراد المجتمع، لكنه أكثر صرامة وحِدّة بالنسبة للمرأة، فمنذ ولادتها يتعاطى معها من منظور أنها فقط مشروع زوجة وربة بيت. ولا يمكن تصور المرأة خارج اطار الزوجية. لذا ليس عليها أن تتعلم أو تتقن أي فنون غير فن الطبخ وخدمة الزوج وتربية الأطفال. ولقد ولدت في هذه البيئة المحافظة. ولفترة المرحلة المتوسطة من الدراسة كنت لا أتصورني خارج هذا الاطار، الذي شكل مخيلتي قبل أن أتقن فن الامساك بريشة الإرادة الحرة ورسم أحلامي بنفسي. بقيت بلا حلم حتى ذلك اليوم الذي حدث فيه أن أخذت صديقتي دفتري لمادة التعبير. في المساء اتصلت هاتفيا عليها كي أقوم بتذكيرها أن تحضر دفتري معها في اليوم التالي. ولقد صادف أن الذي أجاب على رنين هاتفي أخوها الكبير. بعد السلام، طلبت منه أن يسمح لي بالتحدث مع أخته، فسألني بنبرة باردة، تعبر عن عدم الاكتراث: أقول لها من يريدها؟... فأجبت: مليحة. ما أن سمع اسمي حتى تغيرت نبرة صوته إلى النقيض لدرجة أني شعرت بأنه غير من طريقة جلسته وهو يقول: اووووه انت مليحة. أنا على الطرف الآخر من الهاتف، وجدتني مصعوقة ليس فقط بهذا الانقلاب المفاجئ من النقيض إلى النقيض بل بعمق وصدق فرحته بي، وقبل أن أفق من هذا الذهول، إذا به يقول: لقد قرأت دفترك التعبير. كتابتك جدا رائعة، لقد أذهلني أن واحدة في عمرك وتكتب بهذا النضج، والثراء اللغوي... هل تحلمين أن تكوني كاتبة...؟
هكذا كانت كلماته مفاجآت متتالية، قوية، وصادمة لعقلي وقلبي الصغير... من ذهولي لم أعرف ماذا أقول، لكن وجدتني أجيب عن سؤاله بتلقائية وببديهية: لا... لم أحلم أن أكون كاتبة، فالبنت لا تحلم.
كان ردي صاعقاً بالنسبة له، فرد بنبرة غضب أكثر من استغراب: من قال إن البنت ليس لها أن تحلم، كل شخص، ذكر أو انثى عليه أن يحلم. بعد صمت قصير، انبرى قائلاً بنبرة فيها تعاطف ورحمة: مليحة، إذ لم يكن لك حلم، دعيني أحلم عنك لك... في المستقبل، أنتِ ستكونين كاتبة، بل وكاتبة رائعة جداً.
هكذا ختم حديثه معي بحلم صاغه لي بدلاً عني. كانت هذه أول وآخر مرة أتحدث معه.
في الحقيقة لم أهتم كثيراً بكلماته لي أو حتى حلمه الجميل. لكن بعد كل هذه السنوات، أجدني أتذكر كلماته وحلمه مع كل مقال أكتبه، وأتساءل هل يقرأوني؟ هل يعلم بأن نبوءته تحققت؟ وبأن بذرة حلمه قد ألقاها في تربة احتضنتها بهدوء وصمت، وفاجأتني والآخرين بولادة شجرة تهمي كل أسبوع بثمرة؟ ومع كل مقال تجتاحني رغبة أن أقول: شكراً صبحي.
ترى كم مليحة في مجتمعنا تحتاج إلى صبحي، يعلمها الحلم وحتى التحليق.
كاتبة سعودية
malihaalshehab@yahoo.com