إشراقات النقد / «هو المطر» للشاعر محمد المغربي... سيرة السياب متوهجة في فضاء الشعر (3)

u0645u062du0645u062f u0627u0644u0645u063au0631u0628u064a
محمد المغربي
تصغير
تكبير
|سعاد العنزي|

... فالمطر كما اتضح في قصيدة السياب كتيمة متكررة تحمل دلالات متعددة، في سياقات نفسية متعددة وردت في نص محمد المغربي بنفس الحمولات السابقة التي وردت في النص البكر الأصيل، في قراءة لد. محمد كراكبي بعنوان استثمار اللسانيات في قراءة النص الشعري «تحليل قصيدة السياب المطر»، إذ يحلل في دراسة لسانية معاني ورود كلمة المطر في نص واحد هو انشودة المطر، فيقول إنها دلالة على انبعاث ظاهرة كونية طبيعية ترد بسياقها الطبيعي غير متجاوزة مدلولها الحقيقي وهو ما ورد في قول السياب:

كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم

وقطرة فقطرة تذوب في المطر...

ومعنى ثان يرد عند السياب للمطر بمعنى: ان المطر باعث للحزن، ويتضح في قوله:

أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟

وهو يتقاطع تماما مع صور المطر وأحد مترادفاته الماء في مجموعة «هو المطر»، بقوله:

وارتخت السماء

وأمطرت آلامنا

وقوله في لوحة أخرى من المجموعة:

على ماء أصخت لصوت أحزان تدفق

من شرايين المدينة. ص49

ولعل عنونة المجموعة «هو المطر كالحب كالأطفال كالموتى» تتقاطع إلى حد كبير مع قول السياب:

-المطر كالدم المراق

- المطر كالجياع وكالأطفال وكالموتى...

فمن الاستشهادات السابقة يستشف القارئ مدى عمق رؤية توغل إحساس الشاعر في الطبيعة، بل إنه إذا حزن وتداخل في دائرة الألم فإنه يرى سماءه باكية ماطرة بالألم، وإن ظهرت بوادر الأمل على ظروف ومعطيات الحياة فإن المطر رديف للفرح:

في كل قطرة من المطر

فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد

فالأوصاف السابقة للمطر تلتقي مع وصف المغربي للمطر في حالات السعادة الغامرة،

في الأكباد حبك

تحتفي بالماء

بالمطر الغزير.

لأجل عينك راق ماء الكون

في دعة صفا». (المجموعة، ص 12)

وغير كون المطر مشاركا أساسيا في حالة الفرح والبهجة المتفشية، فإنه يعادل صورة انبعاث الأمل بالاستشفاء بالحب، وبوجود المرأة الماطرة حبا وشوقا:

تشيعني ابتسامتها

ونبرة صوتها: «ستطيب»

طاب الجرح منك

فأمطريني. (المجموعة، ص 60)

فالمطر هنا في النص السابق أصبح معادلا موضوعيا للحب، وللسعادة بجانب المرأة باعثة الحب بالمذهب الرومانسي المتبع لدى السياب والذي يقدمه محمد المغربي كسيرة للسياب.

الوقفات السابقة لدلالة المطر لدى السياب والشاعر محمد المغربي هي دليل واضح على شاعرية السياب ومدى التفرد في استخدام المعجم الشعري، وتفجير طاقات اللغة والإتيان بالجديد والبديع المضاف لمصاف التجربة الشعرية لدى السياب.

كما ان وقوف الشاعر المغربي عندها وتوظيفها في النص الجديد إمارة مدى وعي وقراءة الشاعر وتمثله للتجربة الشعرية لدى السياب، فهو لا يكتب من منطلق التأثر بالشاعر وحسب بل يكتب ما يعيه ويتشكل في ذهنه ووعيه ويتمكن من فهم النص السابق المشار إليه وفق بوابة التناص.

هذه الآلية التي كانت تقنية فعالة وخلاقة في المجموعة إلى حد بعيد، ما دام مدار المجموعة الحديث عن تجربة شعرية زخمة كالسياب أولا، ومن ثم معالجة سيرته من خلال الكتابات البيوقرافية ثانيا، وكان النص الأكثر فعالية في النص اللاحق، «هو المطر»، قصيدة «أنشودة المطر»، بوصفها نصا مفككا ومنسابا في المجموعة الشعرية، ومقسما على لوحات عدة، اختزلت وكثفت مراحل عبور السياب للحياة منذ الطفولة حتى النهايات الشقية والبائسة تحت وطأة المرض.

يبدأ التعالق النصي، بالعنوان، والدوران حول أفكار السياب الواردة في «أنشودة المطر»، من حيث التناص مع المضمون والسيرة الذاتية لحياة الشاعر، بل إن الشاعر قام بالوقوف عند حالات من المعاناة الذاتية للسياب، وتوسيع دائرتها وتضخيم العبارة، لتعميق الإحساس بحالة الشاعر، ومواجع قد سبكت شخصيته وأودعت نفسها في خارطة سيرته الذاتية، من مثل حرمانه من أمه، وهو في أول سني حياته يتمنى سماع كلمة «فدوة» من أمه كهالة من المحبة تحيط الابن:

ومن لقلبك

حين لحفك العباب؟

ولم تعودي تسمعيني «فدوة»

يا أمي البعيدة،

ليس غيرك يشتري خبل ابتسامتي

الشريدة.

«فدوة»

يا أمي البعيدة،

ليس غيرك يجدل الأحلام فوق مخدتي

ويهدد القطط الوحيدة.

«فدوة»

يا أمي البعيدة،

ليس غيرك في دمائي. وانتمائي أنت». (المجموعة، ص 44)

من هنا يتعمق إحساس الأنا بالآخر، ويلعب التناص دورا حيويا في إضافة بيئة متخيلة رديفة لكل الاحتمالات التي ترد فيها الكلمة.

والتناص الشكلي اللغوي طغى بشكل كبير على المجموعة، من حيث تكرار المفردات: «كالمطر، جيكور، الخليج»...

كما ان الشاعر هنا قام بالضرب على وتر المعنى المراد باستخدام معجمه الخاص، وبعدها الانفتاح على عدة مترادفات، كما هو وارد في أسلوب السياب فيكون هنا تناص بنيوي يتقاطع مع بنية النص السابق «أنشودة المطر»:

أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطَر؟

وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر؟

وكيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ؟

بِلا انْتِهَاءٍ- كَالدَّمِ الْمُرَاقِ، كَالْجِياع،

كَالْحُبِّ، كَالأطْفَالِ، كَالْمَوْتَى- هُوَ الْمَطَر!

وقول محمد المغربي:

على ماء أصخت لصوت أحزان تدفق

من شرايين المدينة.

فوق هذا الماء تمشي قبرات الشوق/

نايات البعاد/ نوارس الآجال/ أدعية التقاة/ شموع عباد/ دماء حروفها/

ومناجل الأقدار. (المجموعة، ص??)

إن قراءة المجموعة «هو المطر» بقدر ما أعادتنا إلى منبع من منابع الشعر العربي الحديث كتجربة السياب شعرية والإنسانية بقدر ما فتحت لنا أترجة الأسئلة، ومسارات التحليل، إننا أمام محاورة بين الماضي والحاضر، نقرأ قراءة عالجت الماضي، وقدمت سيرة السياب لنا شعرا وفق ما توافر لها من مصادر شعرية ومراجع بيوجرافية، وبقدر من التأثر بين الشاعر المعاصر المغربي والسابق السياب، وهذا يدعونا للبحث عن الإضافة الحقيقية للشعر وللشاعر؟ إننا نعيش في عصر التحولات، الأزمات المتوالية، والتاريخ المتقلب بعدة صراعات حصلت بين الكويت والعراق، ألا يستحق النص المتأخر قراءة أعمق، معالجة أوسع من العرض والاختزال الشعري لتجربة السياب، فإن وقفة السياب على الخليج في «هو المطر» تستدعي رؤية أشمل لحال العراق اليوم، وما آلت إليه بلاد الشاعر التي ناضل من أجلها كثيرا، كالصراعات الحالية، والوضع المأسوي الذي وصل له عراق اليوم لابد من وقفة شعرية تضيف للعمل قيمة إنسانية وجمالية.

وهذا ما يؤكده بيير كامارا في مقالة له بعنوان «الابتكار الحقيقي والابتكار الزائف» عندما تحدث عن الروائع العالمية بقوله: «ويستطيع المرء حقا أن يقول عن مثل هذه الأعمال إنها أحدثت هزة، أحدثت طريقة جديدة في التفكير والكتابة، هزة في أسلوب الكلام، على وجه الدقة. والحقيقة أن بعض الأعمال العظيمة قدم للقراء في وقته أو في ما بعد ذلك شيئا ما أكثر مما هو هزة، فقد قام، كما يقوم الآن، بتزويد القراء إلى يومنا هذا ببهجة غير معروفة ولكنه، من وراء هذه البهجة، غالبا ما كشف عن عالم جديد كليا، عن مجاهل العقل والروح». (الابتكار والمعاصرة في الأدب والفنون، ترجمة عادل العامل، ص7).



* كاتبة وناقدة كويتية

Mobdi3on@windowslive.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي