د. مبارك الذروه / رحل الجابري ... رحمه الله

تصغير
تكبير
في الأسبوع الماضي غادرنا المفكر العربي الكبير محمد عابد الجابري، رحمه الله، عن عمر يناهز الخامسة والسبعين، وهو من الذين استنطقوا التراث مرة أخرى، لإعادة قراءته وفق آليات منهجية نقدية ارتآها. الجابري الذي عالج قضايا تتعلق في بنية العقل العربي محاولا نقده وتقويمه.

حاول الجابري أن يربط بين ثلاثة طرق تتعلق ببنية العقل وموروثاته، وتأثيرها على طرق النظر والاستدلال، كالبيان عند العلماء والفقهاء والأدباء، والعرفان الكشفي عند المتصوفة وأهل الإلهام، ثم البرهان العقلي والفلسفي عند الفلاسفة... كل هذه المسارات كانت توظف داخل الحلبة السياسية ضمن البناء العام الاجتماعي والديني بحدوده وتقاطعاته... ولعل منها صراع المعتزلة تجاه الفلاسفة، ثم صراع الأشاعرة ضد المعتزلة، ثم السنة ضد الأشاعرة، وهلم جرا.

اذكر أنني التقيت المفكر الكبير محمد عمارة، وناقشته في بعض المسائل التي تتعلق بالتراث والنهضة حيث قال ان الأمة في حال قوتها تتجه إلى (الفروق) وفي حال ضعفها تميل إلى (الأشباه والنظائر)... وكثيراً ما كنت أتساءل هل صراعاتنا الفكرية والثقافية هي من مراحل التقدم أم هي من مظاهر التخلف؟

وبعيداً عن فروق القرافي، أو أشباه ابن نجيم والقياسات التي توقف العقل أحياناً! فإن الجابري اقتحم أسواراً منيعة ليخبرنا أن ثمة فائضاً فكرياً في زواياه لم يقرأ بعد بعناية!

من روائع كتب الجابري المتميزة نكبة ابن حنبل وابن رشد، هذا عنوانه على ما أذكر، حيث سبر غور الفتنة التي تعرض لها الإمامان الجليلان من زاوية أخرى لم يسبقه إليها احد رغم توافر النصوص والوثائق... وكان يتساءل لماذا تعرض ابن رشد لمحنته ومطاردته، ولماذا يجبر ابن حنبل على القول بخلق القرآن؟ فأفرد الجابري لكل منهما فصلاً خاصاً، وتساءل السؤال نفسه! وتوصل إلى اعتبار المدخل السياسي هو المحرك في فتنة خلق القرآن التي تعرض لها الإمام احمد رحمه الله وليس المدخل العقدي، وقد برر الجابري ذلك بأن مسألة خلق القران لم تكن أصلاً من مسائل الأصول عند المعتزلة وإنما من فرعياتها. ولماذا إذا يحمل خلفاؤها العلماء، بدءا من المأمون وانتهاء بحكم المتوكل، على القول بخلق القرآن ويقتل منهم، أو يسجن ويعذب خلق كثير؟

يرى الجابري أن المسألة سياسية تتعلق بتوظيف الفتوى وطرق الاستدلال عند أحمد وغيره، فقد كان هناك اتجاه عام عند علماء بغداد بعدم شق عصا الطاعة، والتعامل مع الأمراء والحكام تعاملاً لا يفضي إلى فتنة تفرق شمل المسلمين مستدلين بنصوص وردت في ذلك... «عليكم بالسمع والطاعة وان تآمر عليكم عبد حبشي كان رأسه زبيبة».

كان المعسكر الآخر المناوئ لبني أمية من العباسيين ومن معهم يرصدون هذا الاتجاه. بعد تمكن بني العباس والقضاء على الأمويين في الزاب الكبير، ومقتل مروان بن محمد آخر بني أمية في مصر بدأت التصفية ضد الفكر السياسي ولكن بثوب ديني أصولي!

يرى الجابري أن ذلك ظهر واضحاً في مطاردة العلماء والتضييق عليهم ثم امتحانهم فمن أجاب نجا ومن لم يجب فالسجن حتى الموت. كان العباسيون يعتمدون على علماء المعتزلة مثل ابن أبي دؤاد وغيره، وكان المأمون عالماً، وقصة خلق القرآن معروفة يمكن الرجوع لها في مضانها.

المهم أن الجابري تطرق إلى العديد من مفاهيم تتعلق بالدولة والأمة والحضارة مثل مفهوم العصبية الذي سبقه ابن خلدون إليه لكنه أضاف قراءات جديرة بالتمعن والنظر، فمفهوم القبيلة الذي كان يجذر السلوك القبلي قد تحدث عنه الجابري وطالب بتحويله إلى حزب مدني يخدم الأمة ويمارس من خلاله الممارسة الديموقراطية السياسية!

واهتم الجابري رحمه الله بالتجديد، والاجتهاد، والحداثة، وغير ذلك من دراسات ترجمت إلى لغات أجنبية أخرى.

يبدو لي أن الجابري بدا في أخريات حياته يتجه اتجاهاً كبيراً إلى القرآن شأنه شأن كثير من المفكرين، بدأ ذلك من كتبه «المدخل والتفسير في القرآن».

ما يهمنا هنا أن مشروع الجابري في كتبه كافة مشروع يتسم بالعمق والغوص في أعماق النصوص... نعم خالفه الكثير، وقد لا نتفق مع كل ما قال لكنه دخل مضماراً من تراثنا قل من يلجه سوى العارفين بحوره والمتبصرين بأدواته، ويكفيه شرفاً أنه لم يستلف أو يستعير نبتة أجنبية ليزرعها في أوساطنا، أو ثقافة لفظها أهلها لنغص بها... كلا، كان مقتنعاً أن لدينا موروثاً حضارياً يمكن أن يعاد بحثه وتفسيره، وما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل. رحم الله الجابري صاحب رؤية نقد العقل العربي، وغفر له واسكنه فسيح جناته.



د. مبارك عبد الله الذروة

أكاديمي وكاتب كويتي

maltherwa@yahoo.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي