من بيع الصناديق في الشارع إلى التدريس الجامعي والصحافة فـ «النجومية» التلفزيونية فالنيابة
صقر لـ «الراي»: لم يأخذني الفقر إلى البلطجية وثقافتي النقدية تسببت لي بالاتهامات و... النجاح

عقاب صقر





| بيروت - من محمد بركات |
بخلاف ما كُتب أكثر من مرة عن النائب اللبناني عقاب صقر، فإنّه، رغم اعتلائه سلّم الشهرة اللبناني، ووصوله الى سلّم «المجد السياسي»، ما زال يحافظ على صداقاته القديمة ولم «يخرج من ثيابه» كما يقال عن البعض.**
فتح عينيه طفلاً على يتم الأب. ولد فقيراً جداً في العام 1974. كان يمكن أن تكون سيرته سيرة الحروب الأهلية «الملبننة»، هو المولود في أتون هذه الحروب، في الشياح بالضاحية الجنوبية لبيروت. لكنّ العنف لم يستهوه. كان «مثقفاً» في زمن البارود والنار، و«المتعلّم» بين أقرانه الذين سرعان ما انتقلوا من التهكّم على «فهمه» الى جعله «مرجعية» في الحيّ.
سريعاً انتقل من الجامعة الى التعليم في جامعة القديس يوسف الى الصحافة المكتوبة فالتحليل السياسي المتلفز فمجلس النواب. كلّ هذا الصعود الذي يحتاج الى عمر طويل، أنجزه صقر في خمسة أعوام، بين العامين 2004 و2009، تاريخ دخوله البرلمان اللبناني.
اليوم، يتنقل بين زحلة التي انتُخب نائباً عن مقعدها الشيعي، وبيروت التي عاش ويحب العيش فيها. ونادراً ما يزور مسقطه بسبب ظروف عمله، و«لأنّ كلّ مَن ألتقيهم يدفعون ثمن لقائهم بي».
تحدث الى «الراي» عن طفولته بين «المرض والقصف»، وعن مراهقته «بين الزنود والكتب» وعن شبابه «بين المغامرة والنجاح».
• اذا أردت أن تحكي قصة حياتك، من أين تبدأ؟
- أبدأ منذ ولدت. الصورة الأولى التي أذكرها في رأسي، صورة وعيي الأول، حين كنت صغيراً جداً، هي صورة أمي تحملني بيديها وتأخذني الى المستشفى. كنت صغيراً جداً وأولاد الحيّ يبكون وأنا أسعل. حتى والدتي لم تكن تتذكر هذا المشهد وكانت تسألني أيّ مستشفى وأين. ثم تذكرت المستشفى ولم تتذكر الحادثة. منذ صغري، أعاني مشكلات في رئتي ولا أزال. دائماً أتذكر هذا المشهد والحقنة التي رأيتها للمرة الأولى. وحصل يومها اطلاق نار وارتعب الناس، وهربنا الى ملجأ تحت الأرض.
تلك هي الصورة الأولى في ذاكرتي، صورة اطلاق نار وحرب ومستشفى ومرض يمسك بي. ربما هذا ما جعلني أكره البكاء وأحب الضحك. وكنت أقول لعائلتي، حين كنت مهدداً، أنه اذا متّ فلا أريد أن يبكي عليّ أحد. كذلك، لا أحب الحرب وأفكّر أن هذه الصورة هي التي صنعتني كما أنا اليوم: رجل يحب الضحك ويكره اطلاق النار والسلاح والحرب.
من المحطات الأساسية في طفولتي أنني عشت في بيئة عنيفة جداً وكنت أكره العنف. عشت في بيئة تمجّد البندقية والسكّين والزند والضرب والقتل والقوة. لكنني اتخذت موقفاً مبكراً من هذه الحالات الاجتماعية ورفضت الانصياع لارادة الجماعة. كنت أخترع ألعاباً يصفها الصبيان بأنّها أقرب الى ألعاب الفتيات، مثل
«غمّيضة» معدّلة ورفض اللعب بالحرب. وكنت أقوم بمبادرات كأن نأتي بالمياه، في عربات، الى الحيّ. كان يزعجني مشهد النفايات في الشارع، وكان أصدقائي أطفال الحيّ يقولون لي عبارات مثل: «أوعا يا فوفو».
كانوا ينظرون اليّ على أنني الطفل المتعلّم، الأمر الذي شجّعني على القراءة أكثر. كان العلم هو الامتياز الذي أستقوي به أمام الزنود. كنت «مثقف» الحيّ، وكان هناك الأقوياء و«البلطجيون».
هكذا، بتّ أستمدّ قوتي وهيبتي في الحيّ من القراءة. وصرت أشبه بالمرجعية، أروح أروي لهم قصصاً تاريخية عن لبنان والعالم العربي والدين. وحتى «البلطجي» صرت صديقاً له لأنني كنت أكتب له أشعاراً يرسلها الى الفتاة التي يحبها مدعياً أنه هو من كتبها. ولاحقاً صار المتخاصمون يطلبون مشورتي ورأيي، وكنت أحلّ وأربط بينهم، لأنّهم يعتبرونني المثقف الذي يزن رأيه بالحقّ.
• هل كنت قريباً من الدين في هذه المرحلة؟
- كلا، لاحقاً دخلت الثقافة الدينية. كنت في الرابعة عشرة من عمري، وبعدها بعام، أو اثنين بدأت أتعمّق في الثقافة الدينية وأجادل الأطفال في الأمور الدينية.
في تلك الأيام من العامين 1987 و1988، كان الدين في الشياح، في ضاحية بيروت الجنوبية حيث ولدت وعشت، يعني «حزب الله»، وخصوصاً أنّ هذه المنطقة كانت ولا تزال معقل حركة «أمل»، التي خاضت معارك دامية ضدّ «حزب الله» في تلك الأعوام.
كان أيّ حديث فيه كلمات مثل «فقه» و«صحابة» وغيرها من المصطلحات التي يكثر استعمالها في أدبيات المتدينين، يعني انتماء قائله الى «حزب الله». ولم أكن عضواً في الحزب، بل كنت مشاركاً في الندوات والنقاشات.
والطريف في الأمر أن زملائي في تلك الندوات كانوا ينفرون مني، وكذلك المسؤولون، لأنني أطرح الكثير من الأسئلة ولا أرضى بالأجوبة التقليدية، وأنحو منحى النقاش أكثر من التلقن. ووصل بهم الأمر
الى اتهامي بأنني سنّي تارة، ومرتدّ تارة اخرى. في حين أن زملائي الذين صاروا في «أمل» كانوا يتهمونني بأنني عنصر في «حزب الله».
كان الدين العادي مقبولاً لكنّ الدين بالأحاديث البليغة يخيف «أمل» وبيئتها. الصلاة في الجامع تعني «حزب الله»، والصلاة في المنزل لا بأس بها. وكنت أصلّي في الجامع أحياناً.
كان الطرفان يخوّنانني، ولم أكن منحازاً الى أيّ منهما، بل كنت أريد أن أفهم وأجادل وأسأل. منذ تلك الأيام تعودت التخوين. بتّ أعرف أن طرح الأسئلة والمناقشة في الأطر الاجتماعية المغلقة، التي تؤمن بأفكار مطلقة لا جدل حولها، يعني أن تخرج عن الجماعة وأن تكون مرذولاً ومرفوضاً.
لم يكن النقد مقبولاً، لا في الدين مع «حزب الله» ولا في الاجتماعيات مع البيئة المحيطة بي، عنيت حركة «أمل». في «حزب الله» كانوا يعتبرونني نقدياً، وكان أحد زملائي يسمّيني «شادي» وليس
«عقاب». كان يردّد دائماً أن صفاتي كلّها تبدأ بحرف «الشين»، من «شادي» الى «الشيطان» الى غيرها من الأمور التي لا يتّسع المقام لذكرها.
كنت دائماً أحمل النقد على ظهري، وقرأت باكراً لصادق جلال العظم، وقرأت الكتاب المقدّس قبل أن أقرأ القرآن. كنت أجادل الشباب دائماً وأقوم بمقارنات ونقاشات حادّة وجدّية معهم، الأمر الذي كان يقلقهم ويزعجهم. ومرة اتهموني بأنني من شهود يهوى ولست مسلماً.
• متى انضممت الى «حزب الله»؟
- لم أكن يوماً عضواً في «حزب الله»، بل كنت قريباً منهم، لكنّهم لم يقبلوني وأنا لم أقبلهم. كنت أشارك في دورات تثقيفية ينظمونها، ومرة نلت المرتبة الأولى عن كل لبنان، وسلمني السيد حسن نصر الله شخصياً شهادة مرسلة من الامام الخميني.
لكنني لم أنخرط مرة في أي نشاط عسكري أو تنظيمي جدّي. كنت دائماً أميل الى النقاشات والكلام والمجادلة والسؤال والاجابة، ولم يستهوني السلاح الذي استهوى معظم أبناء جيلي. لكنني أحتفظ بصداقات مع اناس في «حزب الله» حتى اليوم.
• ما أبرز عمل قمت به في تلك الأيام ولا تنساه؟
- أذكر أنّني، في أيام الدراسة قبل الجامعة، اتصلت بشبّان في المنطقة الشرقية (المسيحية) وصرت ألتقيهم. كنت أريد أن أعرف أكثر عن الآخر، اذ أنّ ثقافتي كانت أوسع من ثقافة البيئة التي عشت فيها.
واذا قارن المحيطون بي بين استنادي الى أقوال من الكتاب
المقدّس وصداقاتي المسيحية التي استجدّت، كانت الاجابة جاهزة: العمالة.
مرة استدعاني مكتب «حزب الله» رسمياً ووجّه اليّ تهمة العمالة للاستخبارات الأميركية. فقلت له يومها انّ عليه الاتيان بدليل قبل اتهامي وجاهرته: أنت عميل للاستخبارات الايرانية في رأيي. هكذا من دون أيّ دليل، وفقط لأنني أجادل وأملك صداقات مسيحية. في تلك الفترة كنت أكوّن صداقات وعلاقات هنا وهناك لأنني أحب التعرف الى الناس ومصادقتهم.
• حبّ التفلّت من القيود ألا علاقة له بكونك نشأت يتيم الأب، من دون سلطة بطريركية فوق رأسك؟
- لا علاقة لهذا بذاك. فقد كان لي بدل الأب آباء كثر هم أعمامي، الذين كانوا يحتلّون موقع والدي المتوفى. أذكر أنني كنت أنادي أحد أعمامي «بابا». وفي يوم، وكنت لا أزال طفلاً، سألت نفسي: كيف يكون والدي وله زوجة وأولاد ومنزل آخر؟ وكيف يكون والدي واسمه ليس مكتوباً في اخراج قيدي وفي لوائح المدرسة. واستنتجت وقلت لأمي: هذا ليس والدي.
حصلت مشكلة يومها، وغضب عمي ظناً منه أنّ أمي هي التي أخبرتني أن والدي مات. لكنني أكدت له أنني استنتجت هذا من تلقاء نفسي.
في أي حال، كان أعمامي في مقام والدي وهم الذين كانوا ينفقون عليّ. لكنني كنت أعمل في أحيان كثيرة. عملت دهاناً ونجاراً حتى أنني جمعت الصناديق عن الطريق وكنت أبيعها، أنا وأطفال الحيّ، لأحد الوسطاء. أذكر أن زملائي وأصدقائي كانوا يبلّلون الصناديق
من أجل زيادة وزنها عند بيعها، لكنني كنت أرفض أن أفعل ذلك بالصناديق خاصتي. وانتبه الوسيط، وقرر مكافأتي بأن جعلني الوسيط بينه وبين أطفال الحيّ، فصرت أنا الذي أشتري منهم وأحاسبهم.
كانت تلك واحدة من الاشارات التي كنت ألتقطها من الله، أن الطريق المستقيم هو الأفضل وهو الذي يجلب الأفضل. وكان زملائي يظنون أن تعليمي الذي يميزني عنهم هو سبب اختياري لأكون الوسيط معهم، وكنت أصرّ على أنّ الاستقامة هي السبب.
• هل كنت فقيراً الى هذه الدرجة، ألم يكن أعمامك ميسورين؟
- كنت فقيراً جداً، وكنت أذهب الى المدرسة، ثم الى الجامعة، بالفان (حافلة صغيرة). كان أعمامي يساعدوننا ويقدمون الينا ما في وسعهم، لكنّ الأحوال كانت صعبة. والمهمّ أنني كنت مصراً على التعلّم رغم الصعوبات وهذا ما فعلته. لاحقاً عملت مدرساً خصوصياً،
ثم درّست في عدد من المدارس قبل أن أدرّس في جامعة القديس يوسف.
• أخبرنا عن الجامعة، كيف انعكست نشاطاتك فيها؟
- في الجامعة (اللبنانية) حاولت أن أدرس الحقوق في كلية الحقوق. والجميع يعرف بيد من كانت هذه الكلية، أي حركة «أمل». أصدرتُ مجلة مع عدد من المستقلين، لكن الاحتكاكات الكثيرة مع «أمل»
دفعتني الى ترك الكلية والتوجه الى كلية الآداب، حيث درست علم الاجتماع والفلسفة بالتوازي، وحصلت على شهادتين في العام نفســـه.
كان العمل السياسي في الجامعة متعباً ومضنياً، ولم يكن مسموحاً العمل خارج اطار الأحزاب. لكننا اخترعنا شيئاً اسمه «المستقلون» وصرنا قوة حقيقية، تفاوضنا الأحزاب في زمن الانتخابات ونحصل على ما نريد. كنت أفاوض «حزب الله» و«أمل» باسم المستقلين، وكنا قوة لا يستهان بها. أصدرنا في كلية الآداب مجلة كنت أكتب فيها. وفي هذا الوقت بدأت العمل النظيف خارج الشارع. فعلّمت في الجامعة اليسوعية، بعد أعوام من الدروس الخصوصية والتعليم في مدارس متوسّطة الحال.
في تلك الفترة، بدأت علاقاتي تصير أكبر وأهمّ، خصوصاً أنني صرت واحداً من الذين نادوا بالحوار الاسلامي - المسيحي، منذ مراهقتي قبل الجامعة. صرت قريباً من أعضاء «لقاء قرنة شهوان»، خصوصاً من أستاذي الذي أدين له بالكثير، النائب السابق سمير فرنجية.
• كيف انتقلتَ من الجامعة الى الاعلام؟
- بعد أعوام من التعليم والعمل السياسي في شكل غير تقليدي، اذ كنت خارج الأحزاب، بدأت تجربة جريدة «البلد» في العام 2003. قبلها، كنت أبعث بمقالات الى صحف لبنانية عدّة، مثل «السفير» و«النهار» و«الكفاح العربي». لكنّ المقالات كانت تتعرض لـ «القصقصة» ولا يبقى منها الا ما لا يعني شيئاً. كان السوريون يمسكون بالأجواء السياسية في بيروت ولم يكن مسموحاً السقف العالي.
ولكن في العام 2003 تعرّفت الى الزميل بشارة شربل، رئيس تحرير «البلد»، فقال لي انّ السقف مفتوح، وان الجريدة ستكون شبابية وناطقة باسم الحريات، فأعجبت بالفكرة وبدأت العمل. أذكر أنني كنت أكتب مقالات توزّع أحياناً في الجامعتين اليسوعية والأميركية وغيرها. وأذكر هنا مقالاً كتبته في ذكرى رحيل الرئيس السوري حافظ الأسد، عنوانه: «ان ما بين لبنان وسورية لم يصنعه الله». يومها، كتبت أنه لا يمكن الله أن يصنع كل هذا الفساد في العلاقات بين البلدين.
• سقف الاعلام كان بدأ يعلو في تلك الفترة؟
- أبداً. كان ذلك في العام 2004 وكان السوريون يمسكون بزمام الأمور. لكنني كنت مقتنعاً بوجوب أن أقول رأيي وليحصل ما يحصل. لم أكن أخاف أبداً، وفي رأيي أن لا شيء يستاهل أن تتنازل عن رأيك الحقيقي من أجله.
• اليوم هل تقول رأيك وان اختلف مع رأي الرئيس سعد الحريري؟
- طبعاً، أحياناً كنت أنتقده في الاعلام وأتحدث عن أخطاء «قوى 14 مارس»، فكان المحيطون به يستغربون ويتهامسون في ما بينهم، لكنه ليبيرالي ويحب النقد ويتقبله، ومنفتح أكثر بكثير مما يعتقد البعض، ويعاتبني أحياناً عن طريق المزاح.
حتى حين كان الجميع يرددون أن على الأكثرية ألا تعطي النصف زائداً واحداً، كنت أقول له ان تعطيل الحكومة أسهل بكثير من تعطيل البلد كلّه، وكان يستمع الى رأيي ويقول انه يحترمه. وحتى حين أطلق النائب وليد جنبلاط خطابه الشهير عن الحيتان والأفاعي قلت في الاعلام انني ضدّه، وأنّ الاهانات الشخصية ليست مطلوبة ولا مستحبة، فعاتبني المحيطون بجنبلاط واعتبروا أنني أهاجمه، واليوم يعرفون ما الذي كنت أقصده.
• ولكن أليست صراحتك الزائدة «مقامرة»، خصوصاً في وقت لم تكن تملك الحصانة ولا الدعم السياسي من الحريري؟
- آمنت طوال عمري بأن الرأي قبل شجاعة الشجعان. وأعتقد أنني في مرات كثيرة أثبت لمن يتهمونني بالعمالة أنني كنت أقول رأياً فقط. مرة، خلال حرب يوليو 2006، قلت في احدى اطلالاتي التلفزيونية أنه لو كان السيد حسن نصرالله يعرف أنّ الاسرائيليين سيردّون بهذه الهمجية لما سمح بأسر الجنديين الاسرائيليين. فاتصل بي أحد مسؤولي الحزب وقال لي انني أقدم خدمات مجانية لاسرائيل. ولاحقاً قال السيد نصرالله نفسه انه لو كان يعلم بما سيحصل لما أقدم على الحرب، فاتصلت بالمسؤول وسألته: هل السيد يقدم خدمات مجانية لاسرائيل؟ فأجابني: لم يكن صائباً قول هذا خلال الحرب، واليوم صار وقت القول. فضحكت وهزأت به قائلاً: يجب أن تكون مسؤول الاعلام ليس فقط في «حزب الله» بل في العالم العربي كلّه.
هذه هي الحال. لا يستطيعون تقبل النقد ولا الكلام الآتي من أفكار حرة، بل يريدون فقط أن يكون الناس ببغاوات يردّدون ما يقولونه لهم، وهذا ما قررت ألا أفعله منذ طفولتي.
• كيف نجحت في الانتقال من الصحافة المكتوبة الى أن تكون نجماً تلفزيونياً؟
- أصدقائي، ممن يعملون في التلفزيونات، ومنهم عباس ناصر مراسل «الجزيرة» الذي كان عضواً في «حزب الله»، كانوا يطلبون مني الظهور والادلاء بآرائي في حلقات تلفزيونية، وكنت أرفض. كانوا، انطلاقاً من الندوات والمحاضرات والنقاشات، يرون فيّ متحدثاً لبقاً. وفي احدى المرات، طلب مني عباس ناصر، وكان يعمل في قناة «العالم» الايرانية، الظهور في حلقة سياسية فوافقت. وكانت التجربة ناجحة جداً. فواظبت «العالم» على استضافتي. ثم طُلب مني الظهور على شاشة قناة «الجديد» فوافقت، والطريف أنني أصبحت معلقاً دائماً على «الاسرائيليات» في التلفزيون السوري الرسمي. فموقفي واضح من الاحتلال الاسرائيلي، لذا كانوا يتصلون بي في شكل يومي أحياناً، ثم كرّت السبحة. أذكر أنّ أمي فوجئت حين قلت لها انني أقبض كثيراً من الأموال مقابل ظهوري وتحليلي السياسي، فأجابتني باستغراب وتهكّم ومزاح: كنا نجمّع الأموال في
طفولتك وندفع لك لتسكت، واليوم صاروا يدفعون لك لتتكلّم. هكذا بدأت رحلتي مع التلفزيون. وأنا بطبيعتي أحب الكلام وأحبّ المجاهرة بآرائي.
• كيف انتقلت من التلفزيون الى مجلس النواب؟
- بسبب ظهوري المتكرر على الشاشات، اتصل بي يوما المستشار الاعلامي للشيخ سعد الحريري، هاني حمود، وقال لي ان الشيخ سعد يريد التعرّف اليّ. فذهبت وقابلته وتعارفنا وصرنا نلتقي باستمرار، الى أن نشأت بيننا علاقة انسانية وشخصية وسياسية بالطبع. لاحقاً، طلب مني الحريري أن أترشّح في زحلة بعد استطلاعات رأي عمن يريده أبناء الدائرة مرشحاً عن المقعد الشيعي. وكان اسمي الأول بلا منازع حتى قبل اعلان ترشيحي أو حتى التفكير فيه. وانتخبت نائباً عن زحلة.
• في الفترة نفسها أسست «لقاء الخيار اللبناني»؟
- نعم. ولكنني كنت احيي ندوات سياسية وحوارات في البقاع الأوسط قبل ذلك وبعده، ولم يقتصر نشاطي على قريتي الأصلية والقرى المحيطة بها. وأقول اليوم انّ ما قيل عن دعم مالي كبير حظي به «اللقاء» لا أساس له من الصحة.
وأضيف أنّ تجربة «اللقاء» حوصرت من جانب «حزب الله» في شكل كبير. فكان كلّ من يجهر بالوقوف الى جانبي، أو بحضور مهرجانات، أو لقاءات، أو ندوات ننظمها، تعلن الحرب عليه في وظيفته وعائلته، حتى أنهم تهجموا مرة على شيخ معمّم وضربوه في منزله أمام زوجته. حوصرت التجربة وكادت تجهض ...
• ألم يقض ترشّحك وانتخابك في دائرة أخرى على هذه التجربة؟
- كلا، لأنني استشرت القاعدة ووافق الحزبيون على ترشّحي، ثم أنني ما زلت على تواصل دائم مع الدائرة التي أنتمي اليها، رغم انشغالاتي في زحلة والبقاع الأوسط.
• متى خرجت من الضاحية لتسكن في مكان غير شيعي؟
- انتقلت الى بشامون (جنوب غرب بيروت) حين تزوجت في نهاية العام 2003. ولم يكن السبب سياسياً بل أسرياً.
• لو لم تكن شيعياً هل كنت لتحصد هذا النجاح؟
- لو لم أكن شيعياً لما حصدت هذه العداوات. فكثيرون من أصدقاء الطفولة باتوا مسؤولين في «حزب الله». وكثيرون منهم خيّروا بين قطع علاقتهم بي والاستمرار في «حزب الله». بعضهم قرر ترك الحزب، وبعضهم الآخر اتصل بي طالباً قطع العلاقة. ولكن اليوم تحسّنت الأمور قليلاً وصرنا نتحدث ونلتقي أكثر من السابق، فقد صرت سياسياً ولم أعد صحافياً فقط يكتب المقالات.
• هل أنت مؤمن بشيعيتك؟
- بالطبع أنا شيعي، لكن مفهومي للتشيع لا ينطبق على ما يفكر فيه «حزب الله». فأنا أعتبر أن ولاية الفقيه لا علاقة لها بالدين لا من قريب ولا من بعيد، وهي بدعة يجب التخلص منها. وأدعو اليوم قادة «حزب الله» و«أمل» والمراجع الشيعية الى أن نفتح نقاشاً علنياً، أو في غرف مقفلة، حول الدين والشريعة والفقه والعقل والتاريخ، واذا ربحنا فليتوقفوا عن تخويننا ولا نريد منهم أن يصيروا معنا، واذا خسرنا سنصير الى جانبهم.
• أليست مغامرة تلك التي قمت بها؟
- بلى مغامرة، لكنني قررت الآتي: اذا خيّرت بين أن أقول ما أريده وما أفكر فيه وأحدث صدى من حولي، وان أسكت وأكون «رقماً آخر»، فانني أختار أن أقول ما أريده وأفكر فيه رغم المخاطر. وهذا الأمر جعلني متهماً بالعمالة لاسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وسفارتها، رغم أنني لم أزر السفارة الا مرة واحدة للحصول على تأشيرة. اتهمت بالكثير، لكنّني معتاد على ذلك، في بيئة لا يستطيع فيها الناس تحمل الرأي الآخر.
• أين صارت الصحافة في حياتك، هل هي مرحلة انتهت أم أنّك ما زلت في الميدان؟
- كوني نائباً يجعلني أبتعد عن الصحافة في المعنى المباشر، لكنني أملك عقلاً صحافياً. وهذا العقل هو الذي يتحكم في. حتى حين أكون ذاهباً الى مقابلة ما أحضّر لها كما لو أنّني أقوم بتحقيق كتابي، ويراني المذيعون والمذيعات متأبطاً الأوراق ويروحون يضحكون ليعرفوا ما الذي أخبّئه لهم.
• الشائعات كثيرة في البلد، ويقال انك «نسونجي»؟
- هذه واحدة من أدوات الحملة عليّ في وسائل الاعلام غير المسؤولة والمواقع الالكترونية السخيفة. لي العديد من الصداقات في أوساط الجمال، لكن هذا لا يعني أن لي العديد من العلاقات. وقد صدرت حولي شائعات كثيرة نفيتها ونفتها الفتيات المتهمات. واحدة من التهم ايضاً أنني «سكرجي» والحقيقة أنني لا أشرب الخمر.
• إطلاقاً؟
- إطلاقاً... إطلاقاً.
• ماذا تفعل غير العمل السياسي؟
- أقرأ كثيراً وأحب المشي. ولكن بسبب الأوضاع الأمنية أمشي في المنزل فقط. لكن هوايتي الرئيسية في طفولتي كانت لعب البلياردو، أما اليوم فالقراءة تأخذ حيزاً كبيراً من وقتي.
بخلاف ما كُتب أكثر من مرة عن النائب اللبناني عقاب صقر، فإنّه، رغم اعتلائه سلّم الشهرة اللبناني، ووصوله الى سلّم «المجد السياسي»، ما زال يحافظ على صداقاته القديمة ولم «يخرج من ثيابه» كما يقال عن البعض.**
فتح عينيه طفلاً على يتم الأب. ولد فقيراً جداً في العام 1974. كان يمكن أن تكون سيرته سيرة الحروب الأهلية «الملبننة»، هو المولود في أتون هذه الحروب، في الشياح بالضاحية الجنوبية لبيروت. لكنّ العنف لم يستهوه. كان «مثقفاً» في زمن البارود والنار، و«المتعلّم» بين أقرانه الذين سرعان ما انتقلوا من التهكّم على «فهمه» الى جعله «مرجعية» في الحيّ.
سريعاً انتقل من الجامعة الى التعليم في جامعة القديس يوسف الى الصحافة المكتوبة فالتحليل السياسي المتلفز فمجلس النواب. كلّ هذا الصعود الذي يحتاج الى عمر طويل، أنجزه صقر في خمسة أعوام، بين العامين 2004 و2009، تاريخ دخوله البرلمان اللبناني.
اليوم، يتنقل بين زحلة التي انتُخب نائباً عن مقعدها الشيعي، وبيروت التي عاش ويحب العيش فيها. ونادراً ما يزور مسقطه بسبب ظروف عمله، و«لأنّ كلّ مَن ألتقيهم يدفعون ثمن لقائهم بي».
تحدث الى «الراي» عن طفولته بين «المرض والقصف»، وعن مراهقته «بين الزنود والكتب» وعن شبابه «بين المغامرة والنجاح».
• اذا أردت أن تحكي قصة حياتك، من أين تبدأ؟
- أبدأ منذ ولدت. الصورة الأولى التي أذكرها في رأسي، صورة وعيي الأول، حين كنت صغيراً جداً، هي صورة أمي تحملني بيديها وتأخذني الى المستشفى. كنت صغيراً جداً وأولاد الحيّ يبكون وأنا أسعل. حتى والدتي لم تكن تتذكر هذا المشهد وكانت تسألني أيّ مستشفى وأين. ثم تذكرت المستشفى ولم تتذكر الحادثة. منذ صغري، أعاني مشكلات في رئتي ولا أزال. دائماً أتذكر هذا المشهد والحقنة التي رأيتها للمرة الأولى. وحصل يومها اطلاق نار وارتعب الناس، وهربنا الى ملجأ تحت الأرض.
تلك هي الصورة الأولى في ذاكرتي، صورة اطلاق نار وحرب ومستشفى ومرض يمسك بي. ربما هذا ما جعلني أكره البكاء وأحب الضحك. وكنت أقول لعائلتي، حين كنت مهدداً، أنه اذا متّ فلا أريد أن يبكي عليّ أحد. كذلك، لا أحب الحرب وأفكّر أن هذه الصورة هي التي صنعتني كما أنا اليوم: رجل يحب الضحك ويكره اطلاق النار والسلاح والحرب.
من المحطات الأساسية في طفولتي أنني عشت في بيئة عنيفة جداً وكنت أكره العنف. عشت في بيئة تمجّد البندقية والسكّين والزند والضرب والقتل والقوة. لكنني اتخذت موقفاً مبكراً من هذه الحالات الاجتماعية ورفضت الانصياع لارادة الجماعة. كنت أخترع ألعاباً يصفها الصبيان بأنّها أقرب الى ألعاب الفتيات، مثل
«غمّيضة» معدّلة ورفض اللعب بالحرب. وكنت أقوم بمبادرات كأن نأتي بالمياه، في عربات، الى الحيّ. كان يزعجني مشهد النفايات في الشارع، وكان أصدقائي أطفال الحيّ يقولون لي عبارات مثل: «أوعا يا فوفو».
كانوا ينظرون اليّ على أنني الطفل المتعلّم، الأمر الذي شجّعني على القراءة أكثر. كان العلم هو الامتياز الذي أستقوي به أمام الزنود. كنت «مثقف» الحيّ، وكان هناك الأقوياء و«البلطجيون».
هكذا، بتّ أستمدّ قوتي وهيبتي في الحيّ من القراءة. وصرت أشبه بالمرجعية، أروح أروي لهم قصصاً تاريخية عن لبنان والعالم العربي والدين. وحتى «البلطجي» صرت صديقاً له لأنني كنت أكتب له أشعاراً يرسلها الى الفتاة التي يحبها مدعياً أنه هو من كتبها. ولاحقاً صار المتخاصمون يطلبون مشورتي ورأيي، وكنت أحلّ وأربط بينهم، لأنّهم يعتبرونني المثقف الذي يزن رأيه بالحقّ.
• هل كنت قريباً من الدين في هذه المرحلة؟
- كلا، لاحقاً دخلت الثقافة الدينية. كنت في الرابعة عشرة من عمري، وبعدها بعام، أو اثنين بدأت أتعمّق في الثقافة الدينية وأجادل الأطفال في الأمور الدينية.
في تلك الأيام من العامين 1987 و1988، كان الدين في الشياح، في ضاحية بيروت الجنوبية حيث ولدت وعشت، يعني «حزب الله»، وخصوصاً أنّ هذه المنطقة كانت ولا تزال معقل حركة «أمل»، التي خاضت معارك دامية ضدّ «حزب الله» في تلك الأعوام.
كان أيّ حديث فيه كلمات مثل «فقه» و«صحابة» وغيرها من المصطلحات التي يكثر استعمالها في أدبيات المتدينين، يعني انتماء قائله الى «حزب الله». ولم أكن عضواً في الحزب، بل كنت مشاركاً في الندوات والنقاشات.
والطريف في الأمر أن زملائي في تلك الندوات كانوا ينفرون مني، وكذلك المسؤولون، لأنني أطرح الكثير من الأسئلة ولا أرضى بالأجوبة التقليدية، وأنحو منحى النقاش أكثر من التلقن. ووصل بهم الأمر
الى اتهامي بأنني سنّي تارة، ومرتدّ تارة اخرى. في حين أن زملائي الذين صاروا في «أمل» كانوا يتهمونني بأنني عنصر في «حزب الله».
كان الدين العادي مقبولاً لكنّ الدين بالأحاديث البليغة يخيف «أمل» وبيئتها. الصلاة في الجامع تعني «حزب الله»، والصلاة في المنزل لا بأس بها. وكنت أصلّي في الجامع أحياناً.
كان الطرفان يخوّنانني، ولم أكن منحازاً الى أيّ منهما، بل كنت أريد أن أفهم وأجادل وأسأل. منذ تلك الأيام تعودت التخوين. بتّ أعرف أن طرح الأسئلة والمناقشة في الأطر الاجتماعية المغلقة، التي تؤمن بأفكار مطلقة لا جدل حولها، يعني أن تخرج عن الجماعة وأن تكون مرذولاً ومرفوضاً.
لم يكن النقد مقبولاً، لا في الدين مع «حزب الله» ولا في الاجتماعيات مع البيئة المحيطة بي، عنيت حركة «أمل». في «حزب الله» كانوا يعتبرونني نقدياً، وكان أحد زملائي يسمّيني «شادي» وليس
«عقاب». كان يردّد دائماً أن صفاتي كلّها تبدأ بحرف «الشين»، من «شادي» الى «الشيطان» الى غيرها من الأمور التي لا يتّسع المقام لذكرها.
كنت دائماً أحمل النقد على ظهري، وقرأت باكراً لصادق جلال العظم، وقرأت الكتاب المقدّس قبل أن أقرأ القرآن. كنت أجادل الشباب دائماً وأقوم بمقارنات ونقاشات حادّة وجدّية معهم، الأمر الذي كان يقلقهم ويزعجهم. ومرة اتهموني بأنني من شهود يهوى ولست مسلماً.
• متى انضممت الى «حزب الله»؟
- لم أكن يوماً عضواً في «حزب الله»، بل كنت قريباً منهم، لكنّهم لم يقبلوني وأنا لم أقبلهم. كنت أشارك في دورات تثقيفية ينظمونها، ومرة نلت المرتبة الأولى عن كل لبنان، وسلمني السيد حسن نصر الله شخصياً شهادة مرسلة من الامام الخميني.
لكنني لم أنخرط مرة في أي نشاط عسكري أو تنظيمي جدّي. كنت دائماً أميل الى النقاشات والكلام والمجادلة والسؤال والاجابة، ولم يستهوني السلاح الذي استهوى معظم أبناء جيلي. لكنني أحتفظ بصداقات مع اناس في «حزب الله» حتى اليوم.
• ما أبرز عمل قمت به في تلك الأيام ولا تنساه؟
- أذكر أنّني، في أيام الدراسة قبل الجامعة، اتصلت بشبّان في المنطقة الشرقية (المسيحية) وصرت ألتقيهم. كنت أريد أن أعرف أكثر عن الآخر، اذ أنّ ثقافتي كانت أوسع من ثقافة البيئة التي عشت فيها.
واذا قارن المحيطون بي بين استنادي الى أقوال من الكتاب
المقدّس وصداقاتي المسيحية التي استجدّت، كانت الاجابة جاهزة: العمالة.
مرة استدعاني مكتب «حزب الله» رسمياً ووجّه اليّ تهمة العمالة للاستخبارات الأميركية. فقلت له يومها انّ عليه الاتيان بدليل قبل اتهامي وجاهرته: أنت عميل للاستخبارات الايرانية في رأيي. هكذا من دون أيّ دليل، وفقط لأنني أجادل وأملك صداقات مسيحية. في تلك الفترة كنت أكوّن صداقات وعلاقات هنا وهناك لأنني أحب التعرف الى الناس ومصادقتهم.
• حبّ التفلّت من القيود ألا علاقة له بكونك نشأت يتيم الأب، من دون سلطة بطريركية فوق رأسك؟
- لا علاقة لهذا بذاك. فقد كان لي بدل الأب آباء كثر هم أعمامي، الذين كانوا يحتلّون موقع والدي المتوفى. أذكر أنني كنت أنادي أحد أعمامي «بابا». وفي يوم، وكنت لا أزال طفلاً، سألت نفسي: كيف يكون والدي وله زوجة وأولاد ومنزل آخر؟ وكيف يكون والدي واسمه ليس مكتوباً في اخراج قيدي وفي لوائح المدرسة. واستنتجت وقلت لأمي: هذا ليس والدي.
حصلت مشكلة يومها، وغضب عمي ظناً منه أنّ أمي هي التي أخبرتني أن والدي مات. لكنني أكدت له أنني استنتجت هذا من تلقاء نفسي.
في أي حال، كان أعمامي في مقام والدي وهم الذين كانوا ينفقون عليّ. لكنني كنت أعمل في أحيان كثيرة. عملت دهاناً ونجاراً حتى أنني جمعت الصناديق عن الطريق وكنت أبيعها، أنا وأطفال الحيّ، لأحد الوسطاء. أذكر أن زملائي وأصدقائي كانوا يبلّلون الصناديق
من أجل زيادة وزنها عند بيعها، لكنني كنت أرفض أن أفعل ذلك بالصناديق خاصتي. وانتبه الوسيط، وقرر مكافأتي بأن جعلني الوسيط بينه وبين أطفال الحيّ، فصرت أنا الذي أشتري منهم وأحاسبهم.
كانت تلك واحدة من الاشارات التي كنت ألتقطها من الله، أن الطريق المستقيم هو الأفضل وهو الذي يجلب الأفضل. وكان زملائي يظنون أن تعليمي الذي يميزني عنهم هو سبب اختياري لأكون الوسيط معهم، وكنت أصرّ على أنّ الاستقامة هي السبب.
• هل كنت فقيراً الى هذه الدرجة، ألم يكن أعمامك ميسورين؟
- كنت فقيراً جداً، وكنت أذهب الى المدرسة، ثم الى الجامعة، بالفان (حافلة صغيرة). كان أعمامي يساعدوننا ويقدمون الينا ما في وسعهم، لكنّ الأحوال كانت صعبة. والمهمّ أنني كنت مصراً على التعلّم رغم الصعوبات وهذا ما فعلته. لاحقاً عملت مدرساً خصوصياً،
ثم درّست في عدد من المدارس قبل أن أدرّس في جامعة القديس يوسف.
• أخبرنا عن الجامعة، كيف انعكست نشاطاتك فيها؟
- في الجامعة (اللبنانية) حاولت أن أدرس الحقوق في كلية الحقوق. والجميع يعرف بيد من كانت هذه الكلية، أي حركة «أمل». أصدرتُ مجلة مع عدد من المستقلين، لكن الاحتكاكات الكثيرة مع «أمل»
دفعتني الى ترك الكلية والتوجه الى كلية الآداب، حيث درست علم الاجتماع والفلسفة بالتوازي، وحصلت على شهادتين في العام نفســـه.
كان العمل السياسي في الجامعة متعباً ومضنياً، ولم يكن مسموحاً العمل خارج اطار الأحزاب. لكننا اخترعنا شيئاً اسمه «المستقلون» وصرنا قوة حقيقية، تفاوضنا الأحزاب في زمن الانتخابات ونحصل على ما نريد. كنت أفاوض «حزب الله» و«أمل» باسم المستقلين، وكنا قوة لا يستهان بها. أصدرنا في كلية الآداب مجلة كنت أكتب فيها. وفي هذا الوقت بدأت العمل النظيف خارج الشارع. فعلّمت في الجامعة اليسوعية، بعد أعوام من الدروس الخصوصية والتعليم في مدارس متوسّطة الحال.
في تلك الفترة، بدأت علاقاتي تصير أكبر وأهمّ، خصوصاً أنني صرت واحداً من الذين نادوا بالحوار الاسلامي - المسيحي، منذ مراهقتي قبل الجامعة. صرت قريباً من أعضاء «لقاء قرنة شهوان»، خصوصاً من أستاذي الذي أدين له بالكثير، النائب السابق سمير فرنجية.
• كيف انتقلتَ من الجامعة الى الاعلام؟
- بعد أعوام من التعليم والعمل السياسي في شكل غير تقليدي، اذ كنت خارج الأحزاب، بدأت تجربة جريدة «البلد» في العام 2003. قبلها، كنت أبعث بمقالات الى صحف لبنانية عدّة، مثل «السفير» و«النهار» و«الكفاح العربي». لكنّ المقالات كانت تتعرض لـ «القصقصة» ولا يبقى منها الا ما لا يعني شيئاً. كان السوريون يمسكون بالأجواء السياسية في بيروت ولم يكن مسموحاً السقف العالي.
ولكن في العام 2003 تعرّفت الى الزميل بشارة شربل، رئيس تحرير «البلد»، فقال لي انّ السقف مفتوح، وان الجريدة ستكون شبابية وناطقة باسم الحريات، فأعجبت بالفكرة وبدأت العمل. أذكر أنني كنت أكتب مقالات توزّع أحياناً في الجامعتين اليسوعية والأميركية وغيرها. وأذكر هنا مقالاً كتبته في ذكرى رحيل الرئيس السوري حافظ الأسد، عنوانه: «ان ما بين لبنان وسورية لم يصنعه الله». يومها، كتبت أنه لا يمكن الله أن يصنع كل هذا الفساد في العلاقات بين البلدين.
• سقف الاعلام كان بدأ يعلو في تلك الفترة؟
- أبداً. كان ذلك في العام 2004 وكان السوريون يمسكون بزمام الأمور. لكنني كنت مقتنعاً بوجوب أن أقول رأيي وليحصل ما يحصل. لم أكن أخاف أبداً، وفي رأيي أن لا شيء يستاهل أن تتنازل عن رأيك الحقيقي من أجله.
• اليوم هل تقول رأيك وان اختلف مع رأي الرئيس سعد الحريري؟
- طبعاً، أحياناً كنت أنتقده في الاعلام وأتحدث عن أخطاء «قوى 14 مارس»، فكان المحيطون به يستغربون ويتهامسون في ما بينهم، لكنه ليبيرالي ويحب النقد ويتقبله، ومنفتح أكثر بكثير مما يعتقد البعض، ويعاتبني أحياناً عن طريق المزاح.
حتى حين كان الجميع يرددون أن على الأكثرية ألا تعطي النصف زائداً واحداً، كنت أقول له ان تعطيل الحكومة أسهل بكثير من تعطيل البلد كلّه، وكان يستمع الى رأيي ويقول انه يحترمه. وحتى حين أطلق النائب وليد جنبلاط خطابه الشهير عن الحيتان والأفاعي قلت في الاعلام انني ضدّه، وأنّ الاهانات الشخصية ليست مطلوبة ولا مستحبة، فعاتبني المحيطون بجنبلاط واعتبروا أنني أهاجمه، واليوم يعرفون ما الذي كنت أقصده.
• ولكن أليست صراحتك الزائدة «مقامرة»، خصوصاً في وقت لم تكن تملك الحصانة ولا الدعم السياسي من الحريري؟
- آمنت طوال عمري بأن الرأي قبل شجاعة الشجعان. وأعتقد أنني في مرات كثيرة أثبت لمن يتهمونني بالعمالة أنني كنت أقول رأياً فقط. مرة، خلال حرب يوليو 2006، قلت في احدى اطلالاتي التلفزيونية أنه لو كان السيد حسن نصرالله يعرف أنّ الاسرائيليين سيردّون بهذه الهمجية لما سمح بأسر الجنديين الاسرائيليين. فاتصل بي أحد مسؤولي الحزب وقال لي انني أقدم خدمات مجانية لاسرائيل. ولاحقاً قال السيد نصرالله نفسه انه لو كان يعلم بما سيحصل لما أقدم على الحرب، فاتصلت بالمسؤول وسألته: هل السيد يقدم خدمات مجانية لاسرائيل؟ فأجابني: لم يكن صائباً قول هذا خلال الحرب، واليوم صار وقت القول. فضحكت وهزأت به قائلاً: يجب أن تكون مسؤول الاعلام ليس فقط في «حزب الله» بل في العالم العربي كلّه.
هذه هي الحال. لا يستطيعون تقبل النقد ولا الكلام الآتي من أفكار حرة، بل يريدون فقط أن يكون الناس ببغاوات يردّدون ما يقولونه لهم، وهذا ما قررت ألا أفعله منذ طفولتي.
• كيف نجحت في الانتقال من الصحافة المكتوبة الى أن تكون نجماً تلفزيونياً؟
- أصدقائي، ممن يعملون في التلفزيونات، ومنهم عباس ناصر مراسل «الجزيرة» الذي كان عضواً في «حزب الله»، كانوا يطلبون مني الظهور والادلاء بآرائي في حلقات تلفزيونية، وكنت أرفض. كانوا، انطلاقاً من الندوات والمحاضرات والنقاشات، يرون فيّ متحدثاً لبقاً. وفي احدى المرات، طلب مني عباس ناصر، وكان يعمل في قناة «العالم» الايرانية، الظهور في حلقة سياسية فوافقت. وكانت التجربة ناجحة جداً. فواظبت «العالم» على استضافتي. ثم طُلب مني الظهور على شاشة قناة «الجديد» فوافقت، والطريف أنني أصبحت معلقاً دائماً على «الاسرائيليات» في التلفزيون السوري الرسمي. فموقفي واضح من الاحتلال الاسرائيلي، لذا كانوا يتصلون بي في شكل يومي أحياناً، ثم كرّت السبحة. أذكر أنّ أمي فوجئت حين قلت لها انني أقبض كثيراً من الأموال مقابل ظهوري وتحليلي السياسي، فأجابتني باستغراب وتهكّم ومزاح: كنا نجمّع الأموال في
طفولتك وندفع لك لتسكت، واليوم صاروا يدفعون لك لتتكلّم. هكذا بدأت رحلتي مع التلفزيون. وأنا بطبيعتي أحب الكلام وأحبّ المجاهرة بآرائي.
• كيف انتقلت من التلفزيون الى مجلس النواب؟
- بسبب ظهوري المتكرر على الشاشات، اتصل بي يوما المستشار الاعلامي للشيخ سعد الحريري، هاني حمود، وقال لي ان الشيخ سعد يريد التعرّف اليّ. فذهبت وقابلته وتعارفنا وصرنا نلتقي باستمرار، الى أن نشأت بيننا علاقة انسانية وشخصية وسياسية بالطبع. لاحقاً، طلب مني الحريري أن أترشّح في زحلة بعد استطلاعات رأي عمن يريده أبناء الدائرة مرشحاً عن المقعد الشيعي. وكان اسمي الأول بلا منازع حتى قبل اعلان ترشيحي أو حتى التفكير فيه. وانتخبت نائباً عن زحلة.
• في الفترة نفسها أسست «لقاء الخيار اللبناني»؟
- نعم. ولكنني كنت احيي ندوات سياسية وحوارات في البقاع الأوسط قبل ذلك وبعده، ولم يقتصر نشاطي على قريتي الأصلية والقرى المحيطة بها. وأقول اليوم انّ ما قيل عن دعم مالي كبير حظي به «اللقاء» لا أساس له من الصحة.
وأضيف أنّ تجربة «اللقاء» حوصرت من جانب «حزب الله» في شكل كبير. فكان كلّ من يجهر بالوقوف الى جانبي، أو بحضور مهرجانات، أو لقاءات، أو ندوات ننظمها، تعلن الحرب عليه في وظيفته وعائلته، حتى أنهم تهجموا مرة على شيخ معمّم وضربوه في منزله أمام زوجته. حوصرت التجربة وكادت تجهض ...
• ألم يقض ترشّحك وانتخابك في دائرة أخرى على هذه التجربة؟
- كلا، لأنني استشرت القاعدة ووافق الحزبيون على ترشّحي، ثم أنني ما زلت على تواصل دائم مع الدائرة التي أنتمي اليها، رغم انشغالاتي في زحلة والبقاع الأوسط.
• متى خرجت من الضاحية لتسكن في مكان غير شيعي؟
- انتقلت الى بشامون (جنوب غرب بيروت) حين تزوجت في نهاية العام 2003. ولم يكن السبب سياسياً بل أسرياً.
• لو لم تكن شيعياً هل كنت لتحصد هذا النجاح؟
- لو لم أكن شيعياً لما حصدت هذه العداوات. فكثيرون من أصدقاء الطفولة باتوا مسؤولين في «حزب الله». وكثيرون منهم خيّروا بين قطع علاقتهم بي والاستمرار في «حزب الله». بعضهم قرر ترك الحزب، وبعضهم الآخر اتصل بي طالباً قطع العلاقة. ولكن اليوم تحسّنت الأمور قليلاً وصرنا نتحدث ونلتقي أكثر من السابق، فقد صرت سياسياً ولم أعد صحافياً فقط يكتب المقالات.
• هل أنت مؤمن بشيعيتك؟
- بالطبع أنا شيعي، لكن مفهومي للتشيع لا ينطبق على ما يفكر فيه «حزب الله». فأنا أعتبر أن ولاية الفقيه لا علاقة لها بالدين لا من قريب ولا من بعيد، وهي بدعة يجب التخلص منها. وأدعو اليوم قادة «حزب الله» و«أمل» والمراجع الشيعية الى أن نفتح نقاشاً علنياً، أو في غرف مقفلة، حول الدين والشريعة والفقه والعقل والتاريخ، واذا ربحنا فليتوقفوا عن تخويننا ولا نريد منهم أن يصيروا معنا، واذا خسرنا سنصير الى جانبهم.
• أليست مغامرة تلك التي قمت بها؟
- بلى مغامرة، لكنني قررت الآتي: اذا خيّرت بين أن أقول ما أريده وما أفكر فيه وأحدث صدى من حولي، وان أسكت وأكون «رقماً آخر»، فانني أختار أن أقول ما أريده وأفكر فيه رغم المخاطر. وهذا الأمر جعلني متهماً بالعمالة لاسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وسفارتها، رغم أنني لم أزر السفارة الا مرة واحدة للحصول على تأشيرة. اتهمت بالكثير، لكنّني معتاد على ذلك، في بيئة لا يستطيع فيها الناس تحمل الرأي الآخر.
• أين صارت الصحافة في حياتك، هل هي مرحلة انتهت أم أنّك ما زلت في الميدان؟
- كوني نائباً يجعلني أبتعد عن الصحافة في المعنى المباشر، لكنني أملك عقلاً صحافياً. وهذا العقل هو الذي يتحكم في. حتى حين أكون ذاهباً الى مقابلة ما أحضّر لها كما لو أنّني أقوم بتحقيق كتابي، ويراني المذيعون والمذيعات متأبطاً الأوراق ويروحون يضحكون ليعرفوا ما الذي أخبّئه لهم.
• الشائعات كثيرة في البلد، ويقال انك «نسونجي»؟
- هذه واحدة من أدوات الحملة عليّ في وسائل الاعلام غير المسؤولة والمواقع الالكترونية السخيفة. لي العديد من الصداقات في أوساط الجمال، لكن هذا لا يعني أن لي العديد من العلاقات. وقد صدرت حولي شائعات كثيرة نفيتها ونفتها الفتيات المتهمات. واحدة من التهم ايضاً أنني «سكرجي» والحقيقة أنني لا أشرب الخمر.
• إطلاقاً؟
- إطلاقاً... إطلاقاً.
• ماذا تفعل غير العمل السياسي؟
- أقرأ كثيراً وأحب المشي. ولكن بسبب الأوضاع الأمنية أمشي في المنزل فقط. لكن هوايتي الرئيسية في طفولتي كانت لعب البلياردو، أما اليوم فالقراءة تأخذ حيزاً كبيراً من وقتي.