بينما انشغل الكثيرون في السودان بالانتخابات البرلمانية والرئاسية، نجد فريقاً مهماً من الشعب السوداني لا ذكر له، وهم ما يطلق عليهم السلفيون، وكذلك في مصر... الكثيرون يتحدثون عن التغيير، وحتمية تعديل الدستور، والمشاركة السياسية، وانتخابات مجلس الشعب المقبلة، إلا تيار مهم وكبير لا يختلف أي مراقب للعالم الإسلامي على أنه متواجد في عمق نسيج الواقع العربي والإسلامي، ألا وهو التيار السلفي الذي أصبح حالة عصية على الإقصاء، أو البتر لأنها حالة متداخلة في عمق وجذور الهوية الإسلامية. والشرح يطول ويحتاج إلى مجلدات وليس إلى مقالات لرصد التيار السلفي.
بداية... السلفية منهج وليست جماعة، وهي اتباع منهج السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين، وقد تعددت وتنوعت المسميات داخل الحالة السلفية نظراً لتنوع الاجتهادات مابين السلفية العلمية، والسلفية الجهادية، والسلفية الدعوية.
وقد ظهرت اخيراً سلفية مدجّنة مهجّنة يطلق عليها سلفية حكومية، وللأسف تصفق للاستبداد زوراً تحت مبدأ السمع والطاعة لولي الأمر.
لكننا نتوقف في مقالنا مع عموم حالة التيار السلفي المتميز جداً بوجوده العلمي والدعوي الرصين وله جهد لا ينكر في الرد على الشبهات والمحافظة على العقيدة، لكنه بالنسبة للتواجد السياسي منعدم تماماً، وذلك لوجود إشكاليات معقدة في عمق جذور التيار السلفي عامة للتفاعل السياسي خصوصاً مع العمل البرلماني، وهي إشكاليات تعددت قديماً «بسبب تقليد البعض للحالة السعودية، وهي حالة لها خصوصيتها» من لعن السياسة، وقول «لعن الله ساس ويسوس»، و«السياسة رجز من الشيطان»، إلى إطلاق أحكام شرعية عقابية زاجرة تتفاوت من التحريم إلى التكفير، وهي أحكام لها قوتها من حيث رفض التعامل مع آلية البرلمان لأنها قائمة على حكم الشعب بالشعب، وهو ما ترفضه الشريعة الإسلامية. ولكن مع التحرر من تلك الحالة في التقليد، وضرورة الواقع الأليم المعقد، تعددت الآراء، فمنها من يرى بعدم المشاركة في البرلمان، لأنها لن تحقق نتائج مطلقة في ظل التزوير وسيطرة المناوئين والمستبدين على البرلمان، ويضرب مثال بتجارب «الإخوان» في العمل البرلماني، وآخرون يرون حتى ولو تم فوز الإسلاميين بالأغلبية فلن يستطيعوا تحقيق نتيجة بالتغيير الإسلامي المنشود كما حدث مع «جبهة الإنقاذ» في الجزائر. حتى وصلت الآراء إلى قمة التحرر من التقليد بفتوى شيخ السلفية بالإسكندرية الشيخ محمد المقدم الذي قال فيها «ومن أبى إلا الدخول «البرلمان» فلا نضلله؛ لأن دخوله مبنيّ على اجتهاد ونظر، وهو أيضاً لا يجوز له أن يضلِّل من خالفه، والواجب علينا أن نعذر بعضنا بعضاً في المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف».
لكن مع كل هذه الآراء عزف غالبية السلفيين في مصر تماماً عن دخول البرلمان والمشاركة في العمل السياسي رغم وجود قيادات سلفية متميزة جداً، ورغم ظهور اجتهادات رصينة وفريدة لسلفيين في الدول العربية وأبرزها في الكويت رغم أنها الأقرب للخصوصية السعودية. لكن المناخ في الكويت مختلف فظهر فيها الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق بإبداعاته التي اقتحم بها ساتر الدخان حول تفاعل السلفيين مع العمل السياسي، وقدم رؤيته في كتبه «المسلمون والعمل السياسي»، و«فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله»، و«الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي»، ما شجع السلفيين في الكويت على التفاعل مع العمل السياسي منذ ربع قرن، وتبعهم سلفية البحرين.
لكن يبقى أن الواقع ينطق بأن التيار السلفي في مصر خاصة غالبه متجمد، ويتبعه السودان لوحدة سلفيي وادي النيل بسبب عدم تفاعلهم مع الواقع، سواء بسبب رؤية علمية تجمدت مع ظاهر النصوص فجمدت تحركهم، أو تعودهم على التنظير وتخوفهم من الاجتهاد، ومغبة المشاركات العملية، أو بسبب القهر الأمني الذي لا ينفك ليل نهار عن الإسلاميين، واخيراً ظهر رئيس جماعة «أنصار السنة السلفية» في حوار لإحدى الصحف بمقولة «إننا لا نهتم بالسياسة، ونهتم بالدعوة فقط»... وهو ما جعل المشهد الخارجي للسلفيين وكأنهم علمانيو الحركة، إسلاميو العقيدة، وهو ما جعل البعض يقول إن السلفيين سعداء بإنغلاقهم. والسلفيون يقولون... رغم اعتراضاتنا والقيود الكثيرة لكننا لسنا منغلقين، ولكن المناخ العام الفاسد والمناوئ هو من يوقف حركتنا.
... نعم يوجد قهر وقانون طوارئ، لكن في المقابل يوجد هامش حرية جعل «جماعة الإخوان» يتحركون ويناضلون ويتحملون تبعات ذلك من تضييق واعتقال، والشباب في «حركة 6 أبريل»، و«كفاية»، وغيرهم يتحركون ويسجنون، بالطبع ليس مثل الإسلاميين الذين يستمر اعتقالهم أعواماً ظلماً.
صحيح أن مناخ الحرية والعدل عامل أساسي ومهم في تفاعل الجماهير مع العمل السياسي، لكن متى تعطى الحرية من دون نضال، لذلك أعتقد أن الاستبداد سعيد بانغلاق السلفيين ويؤيدهم في ذلك، ويفتح لهم كل مجال.
والتيار السلفي الآن لا يحتاج إلى فتاوى، أو اجتهادات في العمل السياسي، بقدر ما يحتاج إلى الشعور بالحرية والعدل، وأيضاً يحتاج إلى همة. تحرره من الركون إلى التجمد والتنظير إلى شجاعة السير في الشارع، والتفاعل مع الناس، وتصحيح أهدافهم وأمانيهم بقدوة تتحرك وتردع وتؤخر المفسدين، وتتقدم لتتحمل تبعية التحرك السلمي الهادئ من أجل التغيير للأفضل والأسعد... والحق سبحانه وتعالى يقول «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم».
ممدوح إسماعيل
محامٍ وكاتب
Elsharia5@hotmail.com