لغة الأشياء / مدن تقطع رؤوسها


| باسمة العنزي |
«السجون أماكن لا تصلح للسينما، رغم كل ما صوروه فيها من أفلام. ليس الألم هو البطل بل الإذلال»*.
***
«شعرت بالبرد والوحدة.بالوحشة التي تنهش الجنود العائدين وهم يسيرون على عكازات، أو يسحبون وراءهم ساقا معطوبة. ولم أكن معطوبة في جسدي لكن مواضع في ذاكرتي كانت تؤلمني. وحقيبتي القماشية الخضراء ثقيلة. والناس من حولي يتعانقون ويسرعون الى مستقبليهم. وزينة الميلاد ما زالت تتدلى من سقف المطار».*
المقطع السابق من رواية «الحفيدة الأميركية» للروائية الفرنسية من أصل عراقي أنعام كجه جي، والصادرة قبل عامين والتي لم اقرأها بسبب عنوانها الذي لم يحمل أي جاذبية بالنسبة لي!
الرواية بطبعتها الأنيقة عن دار الجديد وبغلافها الأخضر ولوحة «شاي العصر») للتشكيلي فيصل لعيبي، لم تنجح في استثارة حماسي لتصفحها طوال عام كامل. لكن ما إن فككت الحصار المعنوي عنها، وبدأت بها حتى تيقنت أن عنوانها غير الجذاب كان الأنسب لها!
الرواية تدور في أجواء العراق الحالي، «زينة» ابنة المهاجر العراقي الأميركية تعود لمسقط رأسها «الموصل»، كمترجمة ملتحقة بالجيش الاميركي.
المجندة الأميركية من أصل آشوري زينة القادمة من ديترويت كمترجمة، تزور جدتها الكلدانية «رحمة»، الرافضة بشدة لدخول القوات الأميركية العراق، تكتشف زينة أن لها أخا بالرضاعة في جيش المهدي وأخا آخر يحلم بالهجرة الى الولايات المتحدة، وما بين ديترويت وبغداد والموصل وعمان والمدينة الخضراء، تكتمل فصول الرواية المكتوبة بلغة شيقة ورائعة قادرة على أسر انتباه القارئ، والتجول معه بحذر بين الصفحات المشبعة برائحة الدخان والمزابل والموت.
«الحقيقة الكاملة هي أن العراقيين يعتبرون رفاقي محتلين، جنودا يؤدون خدمتهم العسكرية وينفذون الأوامر. لا يد لهم في قرار الحرب. مثل الجنود العراقيين في حرب ايران وغزو الكويت. أما أنا فيرونني عميلة. تفتحت عيناي على لوحة كالحة تؤذي البصر. هل تراني جدتي هكذا؟ وطاووس وابنها حيدر؟ هل سيكرهني مهيمن ويتمنى موتي؟»*.
انعام كجه جي لا تطرح الكثير من التساؤلات، ولا تقدم أجوبة معلبة بقدر ما كانت تحاول الولوج لمشاعر أبطالها وعلاقتهم بالحدث عبر خيط الانتماء والطفولة والغربة. ربما أخفقت في بعض الأحيان في تقديم أسباب منطقية لبعض الأحداث في عملها، مثل تحول مهيمن من الشيوعية الى الإرهاب، وإعجاب زينة المفاجئ بمهيمن أخوها بالرضاعة، أو حتى جفاء الجدة رحمة المتصاعد تجاه حفيدتها.
«يقول ان الهجرة مثل الأسر، كلاهما يتركك معلقا بين زمنين، فلا البقاء يريحك، ولا العودة تواتيك.أما أنا فأرى الأمر بشكل مختلف. أقول له ان الهجرة هي استقرار هذا العصر، والانتماء لا يكون بملازمة مسقط الرأس».*
زينة «المواطنة العالمية» في الرواية تعلق الشرائط الصفراء للغائبين،ترتدي العباءة، في زياراتها للجدة رحمة المسيحية الكلدانية الرافضة عمل حفيدتها مع الجيش، ترسل الايميلات لحبيبها الأميركي، تؤرخ الأحداث في مدن تقطع رؤوسها بأيدي أبنائها، وتدخل مع القوات ليلا في مداهماتهم البيوت لتترجم العبارات المتوترة. الغريب أنها لا تشتاق لحياة الأمن والعائلة والاستقرار في بلدها الثاني، وتعمل على محاولة إعادة تجديد عقدها مع الجيش عند انتهائه، رغم قسوة الظروف المعيشية في العراق!
رواية «الحفيدة الأميركية»، تستحق القراءة لأكثر من سبب أهمها موضوعها المغاير ولغتها العالية المستوى... وليس من بين الأسباب اختيارها كواحدة من ست روايات على اللائحة القصيرة للبوكر العربية عام 2009!
* المقاطع من رواية «الحفيدة الأميركية» عن دار الجديد، الطبعة الثانية 2009.
«السجون أماكن لا تصلح للسينما، رغم كل ما صوروه فيها من أفلام. ليس الألم هو البطل بل الإذلال»*.
***
«شعرت بالبرد والوحدة.بالوحشة التي تنهش الجنود العائدين وهم يسيرون على عكازات، أو يسحبون وراءهم ساقا معطوبة. ولم أكن معطوبة في جسدي لكن مواضع في ذاكرتي كانت تؤلمني. وحقيبتي القماشية الخضراء ثقيلة. والناس من حولي يتعانقون ويسرعون الى مستقبليهم. وزينة الميلاد ما زالت تتدلى من سقف المطار».*
المقطع السابق من رواية «الحفيدة الأميركية» للروائية الفرنسية من أصل عراقي أنعام كجه جي، والصادرة قبل عامين والتي لم اقرأها بسبب عنوانها الذي لم يحمل أي جاذبية بالنسبة لي!
الرواية بطبعتها الأنيقة عن دار الجديد وبغلافها الأخضر ولوحة «شاي العصر») للتشكيلي فيصل لعيبي، لم تنجح في استثارة حماسي لتصفحها طوال عام كامل. لكن ما إن فككت الحصار المعنوي عنها، وبدأت بها حتى تيقنت أن عنوانها غير الجذاب كان الأنسب لها!
الرواية تدور في أجواء العراق الحالي، «زينة» ابنة المهاجر العراقي الأميركية تعود لمسقط رأسها «الموصل»، كمترجمة ملتحقة بالجيش الاميركي.
المجندة الأميركية من أصل آشوري زينة القادمة من ديترويت كمترجمة، تزور جدتها الكلدانية «رحمة»، الرافضة بشدة لدخول القوات الأميركية العراق، تكتشف زينة أن لها أخا بالرضاعة في جيش المهدي وأخا آخر يحلم بالهجرة الى الولايات المتحدة، وما بين ديترويت وبغداد والموصل وعمان والمدينة الخضراء، تكتمل فصول الرواية المكتوبة بلغة شيقة ورائعة قادرة على أسر انتباه القارئ، والتجول معه بحذر بين الصفحات المشبعة برائحة الدخان والمزابل والموت.
«الحقيقة الكاملة هي أن العراقيين يعتبرون رفاقي محتلين، جنودا يؤدون خدمتهم العسكرية وينفذون الأوامر. لا يد لهم في قرار الحرب. مثل الجنود العراقيين في حرب ايران وغزو الكويت. أما أنا فيرونني عميلة. تفتحت عيناي على لوحة كالحة تؤذي البصر. هل تراني جدتي هكذا؟ وطاووس وابنها حيدر؟ هل سيكرهني مهيمن ويتمنى موتي؟»*.
انعام كجه جي لا تطرح الكثير من التساؤلات، ولا تقدم أجوبة معلبة بقدر ما كانت تحاول الولوج لمشاعر أبطالها وعلاقتهم بالحدث عبر خيط الانتماء والطفولة والغربة. ربما أخفقت في بعض الأحيان في تقديم أسباب منطقية لبعض الأحداث في عملها، مثل تحول مهيمن من الشيوعية الى الإرهاب، وإعجاب زينة المفاجئ بمهيمن أخوها بالرضاعة، أو حتى جفاء الجدة رحمة المتصاعد تجاه حفيدتها.
«يقول ان الهجرة مثل الأسر، كلاهما يتركك معلقا بين زمنين، فلا البقاء يريحك، ولا العودة تواتيك.أما أنا فأرى الأمر بشكل مختلف. أقول له ان الهجرة هي استقرار هذا العصر، والانتماء لا يكون بملازمة مسقط الرأس».*
زينة «المواطنة العالمية» في الرواية تعلق الشرائط الصفراء للغائبين،ترتدي العباءة، في زياراتها للجدة رحمة المسيحية الكلدانية الرافضة عمل حفيدتها مع الجيش، ترسل الايميلات لحبيبها الأميركي، تؤرخ الأحداث في مدن تقطع رؤوسها بأيدي أبنائها، وتدخل مع القوات ليلا في مداهماتهم البيوت لتترجم العبارات المتوترة. الغريب أنها لا تشتاق لحياة الأمن والعائلة والاستقرار في بلدها الثاني، وتعمل على محاولة إعادة تجديد عقدها مع الجيش عند انتهائه، رغم قسوة الظروف المعيشية في العراق!
رواية «الحفيدة الأميركية»، تستحق القراءة لأكثر من سبب أهمها موضوعها المغاير ولغتها العالية المستوى... وليس من بين الأسباب اختيارها كواحدة من ست روايات على اللائحة القصيرة للبوكر العربية عام 2009!
* المقاطع من رواية «الحفيدة الأميركية» عن دار الجديد، الطبعة الثانية 2009.