لقد كانت فترة راحة قسرية لي بسبب متاعب في العين وأحمد الله تعالى على الشفاء، كما اشكر القراء الافاضل الذين سألوا واطمأنوا، كما كانت فرصة لي لمزيد من التفكير والتأمل في اوضاعنا السياسية والاجتماعية، ولقد اصبحت اكثر قناعة بأن هنالك فئتين رئيسيتين من الناس في مجتمعنا يقتاتان على توتير الناس وخلق حالة من عدم الاستقرار في المجتمع من اجل تحقيق مصالحهما من نيل الشهرة والنفوذ وان كان ذلك على حساب مصلحة البلد واستقرار الاوضاع.
هاتان الفئتان هما نواب مجلس الامة والاعلاميون، وبالطبع فأنا لا اقصد الجميع ولكن اقصد فئة منهما.
ان النفوذ الذي يستطيع الانسان العادي ان يصل إليه من خلال البرلمان والاعلام كبير جدا ويغري الكثيرين ببذل جميع التضحيات من اجل الوصول الى ذلك الكنز الثمين، ومن ذلك خلق ظروف اصطناعية - في اغلب الاحيان - تصور مظالم كبيرة وتجاوزات خطيرة اتى النائب او الاعلامي لينقذ الناس منها كما فعل سبارتكوس عندما قاد ثورته لتحرير العبيد.
يبين المفكر الغربي (جان توشار) في كتابه (تاريخ الافكار السياسية) كيف نشأت نظرية «الفوضوية» في اواخر القرن التاسع عشر واستقطبت اتباعا في فرنسا واسبانيا وايطاليا وروسيا، وتتلخص اهداف النظرية بأنها تريد ان تصل الى الحكم على عمل الانسان الارادي ورفض القوانين مطلقا، والاستسلام لنشوة روحانية، وبشرت «الفوضوية» بالقتل وبالمعاشرة بلا ازواج وبالاقامة الدائمة خارج القانون، وترى «الفوضوية» بأن الفوضى هي نزعة الكون الطبيعية، ولايمكن للانسان ان يتبع طبيعته اويحترم العلم إلا بالخضوع لقانون التمرد على كل شيء.
لقد شاهدنا كيف عشنا فترة من الزمن في ظل «الفوضوية» «وبالطبع فأنا لا اقصد الفوضوية لدينا في الكويت انكار النظرية الفوضوية التي ذكرتها».
ولقد شاهدنا كيف استطاعت قلة من اصحاب الفضائيات ان يمزقوا النسيج الاجتماعي للبلد وان يبثوا بيننا روح الكراهية والحقد، ويضربوا على وتر اهل الداخل واهل الخارج، كما شاهدنا كيف تحول بعض نواب المجلس الى الشارع ليخلقوا فيه البلبلة وتغذية روح الثأر على الاوضاع الاجتماعية وخلق روح الاضطهاد والمظلومية التي لا يشبعها إلا هدم المعبد على من فيه، واحراق روما، فهل رأيتم نواب مجلس تشريعي يناقشون مشروع قانون بكل حرية في المجلس ثم يخرجون الى الشارع ليطالبوا الناس بالاعتصام والاضراب اذا لم يوافق المجلس على اقتراحاتهم؟!
لقد عبر سمو امير البلاد عن غضب دفين لتصرفات المجلس عندما صرح لصحيفة غربية بان النواب يريدون ارضاء الشارع بقرارات ترضي المشاعر ولا ترضي المنطق، وتعطيله للمشاريع التنموية، وانشغاله بالنقاشات السياسية العقيمة، كما عبر رئيس مجلس الامة عن غضبه من الاعلام حيث بين بأنه مشكلة المشاكل وليس الحكومة او المجلس.
لقد لمسنا كيف تنامت ظاهرة «الشعبوية» المزعومة التي تحولت من بعض القضايا الشعبية البسيطة الى ظاهرة الصراخ والشتم المستمر والغضب الذي لا ينتهي، واخذ بعض النواب يتبارى من اجل الانضمام الى جنة «الشعبوية»، ويقدم القرابين التي هي استجوابات الوزراء من اجل كسب رضاهم، وفي المقابل تنامت ظاهرة «الجويهلية» للانتقام من الشعوبية، وتبارى الفريقان، والكل يكسب الانصار ويخرّب الديار، ولولا تدخل عقلاء المجلس لافشال جميع الاستجوابات - والتي نعتقد بأنها مستحقة لكثير من الوزراء الفاشلين - لعشنا اجواء مجلس 2008 عشرات المرات ولكررنا الفشل المتواصل واليأس الكامل من الاصلاح.
ان الذين يدغدغ مشاعرهم شعارات القوة من اجل الوصول الى الاهداف وضرورة تكسير رؤوس الوزراء يجب عليهم ان يتوقفوا قليلا ليفكروا في الخسائر الكثيرة التي جنيناها من طغيان عصر «الفوضوية» على حياتنا السياسية وتكرار الازمات والفشل، وليدركوا بأن هذا الطريق لا يؤدي إلا الى المزيد من الفشل.
د. وائل الحساوي
wael_al_hasawi@hotmail.com