أماكن / برد... برد (2 من 2)

جمال الغيطاني





|جمال الغيطاني|
... أذكر أنني خرجت صباح أول أيام وصولي الى موسكو قاصدا زيارة الشاعر، الفنان عبدالرحمن الخميسي، كنت بصحبة محمود أمين العالم، والروائي الجزائري الطاهر وطار، ولي بالخميسي صلة وطيدة، عميقة، ترجع الى بداية الستينيات، وفي عام واحد وسبعين غادر مصر الى الخارج، استقر به المقام في موسكو، ويشاء القدير أن أراه في تلك الزيارة مرتين، قبل أن يروح في غيبوبة استمرت أسبوعين ثم وافته المنية.
وسبب المرض النهائي الذي لحقه كان البرد، فقد خرج قاصدا المؤتمر الختامي الذي اقامه جورباتشوف، والذي جئت الى موسكو من أجله، وكان يضم ثلاثة آلاف شخصية من مشاهير العالم، عقده تحت عنوان «من أجل بقاء البشرية» من أجل مناهضة التسابق النووي في التسليح، لكن كما تبين فيما بعد، كان له هدف آخر، تقديم نفسه الى الغرب كمصلح ديموقراطي، معادٍ للديكتاتورية والشيوعية طبعا.. ولهذا حديث آخر.
عند أبواب الكرملين أغمي على الخميسي، يبدو أن رئتيه لم تتحملا الهواء البارد، كان الأجل قد دنا، راح في غيبوبة لم يفق منها، وعاد جثمانه ليستقر في ثرى مصر، شاء القدر أن أقابله في زيارتي تلك، عندما فتح الباب، قبل أن يصافحني تطلع اليّ متسائلا: «فين الكوفية» ثم تساءل «أنت مجنون؟!».
أسرع الى الداخل وعاد ممسكا بكوفية من الصوف الروسي الجيد، نصحني ألا أنزعها عن حول عنقي طالما أنا خارج الفندق، ثم عانقني مرحبا، واكتشفت أنه يحتفظ في صوان كبير بعدد من المعاطف والـ «شبكات» و«الكوفيات» استعدادا لصحبة القادمين من مصر والأقطار العربية، وليس لديهم فكرة دقيقة عما تعنيه درجة الحرارة عندما تنزل الى ثلاثين أو خمسة وثلاثين تحت الصفر، ويشاء القدر أن يكون البرد سببا مباشرا في رحيله.
رغم برد موسكو القارس الا أن ثمة شيئا يخص برد الدنمارك، لا أدري بالضبط كيف يمكن تحديده، ولكنه برد أكثر قسوة، يحيل البشر الى الداخل، الى داخل البيوت، الى داخل المؤسسات، الى داخل المطاعم وأماكن السهر، الى داخل الذوات، الى الوحدة الانسانية، كثيرا ما كنت أقرأ عن ارتفاع نسبة الانتحار في بلاد الشمال رغم المستوى المعيشي المرتفع، ودائما كنت أتعجب، ماذا يدفع مجتمعا بلغت فيه الرفاهية حدا متقدما الى أن ينتحر أفراده.. بعد أن رأيت البرد وخلو الطرقات والمدن التي تبدو مثل نماذج ضخمة في كوكب بعيد، يمكنني القول انني أستطيع أن أفهم المناخ الذي يتم فيه نضج الظروف الدافعة الى الانتحار الذي يلي اصابة الانسان بالاكتئاب.
عندما وصلت الى المركز الثقافي في منطقة لويزيانا التي تبعد نحو مئة كيلو متر عن كوبنهاجن، وجدت منطقة جميلة، أشجار الشمال المعمرة، والحشائش التي لاتزال محتفظة بخضرتها، رغم حداثة المباني الا أنها لا تتناقض مع البيئة المحيطة، لم أشعر بغرابة الخرسانة، ربما لأن التصميم راعى الانسجام مع البيئة.
في المدخل مشاجب لتعليق المعاطف والملابس الثقيلة، كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة، بدأت الاجتماعات وكانت متتالية لا هوادة فيها، محورها حول امكانية اقامة جسور بين الثقافات والحقيقة أنني كنت اتفرج على نماذج شتى، العاملون في مجالات الثقافة الأوروبية، بعضهم يثير الاحترام، وآخرون منهم يثيرون الريبة، الناشطون في مجالات حقوق الانسان، بعضهم مخلص، وبعضهم كأنه يقوم بتجارة.
مثقفون عرب، منهم عرب بالجنس والعقل والانتماء، وبعضهم بالاسم، جاء ليثبت ولاءه للغرب، وللولايات المتحدة، الأميركي الوحيد الذي كان حاضرا يبعث على الاحترام العميق، انه الدكتور كارل براون أستاذ علم الاجتماع بجامعة برنستون، صوت شريف وانساني، ضد السياسة الأميركية الحالية، لكن مثله قلة الآن، حضور صهيوني قوي خفي وظاهر.
ليس ذلك بمستغرب، فتلك البلاد الشمالية بوابة خلفية الى كل قضايا الصراع في الشرق الأوسط، أذكر فقط بتحالف كوبنهاجن، اتفاقية أوسلو!
أكثر من عشر ساعات متتالية، مناقشات، خلافات، صراعات، استعراضات... لمت نفسي في بعض اللحظات لمجيئي وقطعي تلك المسافات لكي أقضي معظم الوقت داخل تلك القاعة التي لم يكن يخفف ارهاقي فيها الا التطلع من النافذة العريضة، تحتل مساحة الجدار كله.
تطل مباشرة على البحر، تلوح في الأفق ما يشبه الصخور الكبيرة، قال زميلي المصري المهاجر منذ ثلاثين عاما الى السويد:
«انه الشاطئ السويدي...».
ما بعد المغيب شعرت بارهاق، خرجت من دون معطف الى الحديقة المطلة على البحر، تنسمت الهواء البارد. كنت لاأزال محتفظا بدفء الداخل، لم أفقده بعد، أنعشني الهواء الشمالي النقي ولكن عند حد معين كان لابد من سلوك القانون الذي يحكم هذه البلاد ويؤطر جميع مظاهر الحياة فيها، الانثناء الى الداخل، بحثا عن الدفء وهربا من البرد، البرد.
... أذكر أنني خرجت صباح أول أيام وصولي الى موسكو قاصدا زيارة الشاعر، الفنان عبدالرحمن الخميسي، كنت بصحبة محمود أمين العالم، والروائي الجزائري الطاهر وطار، ولي بالخميسي صلة وطيدة، عميقة، ترجع الى بداية الستينيات، وفي عام واحد وسبعين غادر مصر الى الخارج، استقر به المقام في موسكو، ويشاء القدير أن أراه في تلك الزيارة مرتين، قبل أن يروح في غيبوبة استمرت أسبوعين ثم وافته المنية.
وسبب المرض النهائي الذي لحقه كان البرد، فقد خرج قاصدا المؤتمر الختامي الذي اقامه جورباتشوف، والذي جئت الى موسكو من أجله، وكان يضم ثلاثة آلاف شخصية من مشاهير العالم، عقده تحت عنوان «من أجل بقاء البشرية» من أجل مناهضة التسابق النووي في التسليح، لكن كما تبين فيما بعد، كان له هدف آخر، تقديم نفسه الى الغرب كمصلح ديموقراطي، معادٍ للديكتاتورية والشيوعية طبعا.. ولهذا حديث آخر.
عند أبواب الكرملين أغمي على الخميسي، يبدو أن رئتيه لم تتحملا الهواء البارد، كان الأجل قد دنا، راح في غيبوبة لم يفق منها، وعاد جثمانه ليستقر في ثرى مصر، شاء القدر أن أقابله في زيارتي تلك، عندما فتح الباب، قبل أن يصافحني تطلع اليّ متسائلا: «فين الكوفية» ثم تساءل «أنت مجنون؟!».
أسرع الى الداخل وعاد ممسكا بكوفية من الصوف الروسي الجيد، نصحني ألا أنزعها عن حول عنقي طالما أنا خارج الفندق، ثم عانقني مرحبا، واكتشفت أنه يحتفظ في صوان كبير بعدد من المعاطف والـ «شبكات» و«الكوفيات» استعدادا لصحبة القادمين من مصر والأقطار العربية، وليس لديهم فكرة دقيقة عما تعنيه درجة الحرارة عندما تنزل الى ثلاثين أو خمسة وثلاثين تحت الصفر، ويشاء القدر أن يكون البرد سببا مباشرا في رحيله.
رغم برد موسكو القارس الا أن ثمة شيئا يخص برد الدنمارك، لا أدري بالضبط كيف يمكن تحديده، ولكنه برد أكثر قسوة، يحيل البشر الى الداخل، الى داخل البيوت، الى داخل المؤسسات، الى داخل المطاعم وأماكن السهر، الى داخل الذوات، الى الوحدة الانسانية، كثيرا ما كنت أقرأ عن ارتفاع نسبة الانتحار في بلاد الشمال رغم المستوى المعيشي المرتفع، ودائما كنت أتعجب، ماذا يدفع مجتمعا بلغت فيه الرفاهية حدا متقدما الى أن ينتحر أفراده.. بعد أن رأيت البرد وخلو الطرقات والمدن التي تبدو مثل نماذج ضخمة في كوكب بعيد، يمكنني القول انني أستطيع أن أفهم المناخ الذي يتم فيه نضج الظروف الدافعة الى الانتحار الذي يلي اصابة الانسان بالاكتئاب.
عندما وصلت الى المركز الثقافي في منطقة لويزيانا التي تبعد نحو مئة كيلو متر عن كوبنهاجن، وجدت منطقة جميلة، أشجار الشمال المعمرة، والحشائش التي لاتزال محتفظة بخضرتها، رغم حداثة المباني الا أنها لا تتناقض مع البيئة المحيطة، لم أشعر بغرابة الخرسانة، ربما لأن التصميم راعى الانسجام مع البيئة.
في المدخل مشاجب لتعليق المعاطف والملابس الثقيلة، كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة، بدأت الاجتماعات وكانت متتالية لا هوادة فيها، محورها حول امكانية اقامة جسور بين الثقافات والحقيقة أنني كنت اتفرج على نماذج شتى، العاملون في مجالات الثقافة الأوروبية، بعضهم يثير الاحترام، وآخرون منهم يثيرون الريبة، الناشطون في مجالات حقوق الانسان، بعضهم مخلص، وبعضهم كأنه يقوم بتجارة.
مثقفون عرب، منهم عرب بالجنس والعقل والانتماء، وبعضهم بالاسم، جاء ليثبت ولاءه للغرب، وللولايات المتحدة، الأميركي الوحيد الذي كان حاضرا يبعث على الاحترام العميق، انه الدكتور كارل براون أستاذ علم الاجتماع بجامعة برنستون، صوت شريف وانساني، ضد السياسة الأميركية الحالية، لكن مثله قلة الآن، حضور صهيوني قوي خفي وظاهر.
ليس ذلك بمستغرب، فتلك البلاد الشمالية بوابة خلفية الى كل قضايا الصراع في الشرق الأوسط، أذكر فقط بتحالف كوبنهاجن، اتفاقية أوسلو!
أكثر من عشر ساعات متتالية، مناقشات، خلافات، صراعات، استعراضات... لمت نفسي في بعض اللحظات لمجيئي وقطعي تلك المسافات لكي أقضي معظم الوقت داخل تلك القاعة التي لم يكن يخفف ارهاقي فيها الا التطلع من النافذة العريضة، تحتل مساحة الجدار كله.
تطل مباشرة على البحر، تلوح في الأفق ما يشبه الصخور الكبيرة، قال زميلي المصري المهاجر منذ ثلاثين عاما الى السويد:
«انه الشاطئ السويدي...».
ما بعد المغيب شعرت بارهاق، خرجت من دون معطف الى الحديقة المطلة على البحر، تنسمت الهواء البارد. كنت لاأزال محتفظا بدفء الداخل، لم أفقده بعد، أنعشني الهواء الشمالي النقي ولكن عند حد معين كان لابد من سلوك القانون الذي يحكم هذه البلاد ويؤطر جميع مظاهر الحياة فيها، الانثناء الى الداخل، بحثا عن الدفء وهربا من البرد، البرد.