إشراقات النقد / مجموعة «عتمة الضوء» لاستبرق أحمد... أضواء تقرأ الواقع بشفافية بالغة (2 من 3)

استبرق أحمد


| سعاد العنزي |
... اللغة في النص الأدبي بشكل عام أصبحت إضافة إلى انها لغة الخطاب والتداول بين المرسل والمرسل إليه، لغة تحمل أبعادا جمالية ودلالية شديدة الحساسية والتأثير، بما تحمله من حمولات معنوية وفكرية ومعرفية، تعد هي بنفسها آلية مهمة وفعالة في قراءة وفك شفرات النص، فقد تكون لفظة بحد ذاتها مشعة ومحملة بعدة سياقات ودلالات تؤجج فعل القراءة، وتحفز فعل التلقي، وإن كنا نبتغي الدخول في دائرة اللغة القصصية، فإن القصة شهدت قفزات واسعة ومهمة على مستويات عدة، ولاسيما اللغة بما تسوقه معها من حمولات شعرية، واستعارات بلاغية مكثفة، وانحراف أسلوبي وانزياحات عن ضفاف المألوف وتوليف بين المتناقضات والمتضادات اللغوية، ليأخذ السياق في قراءات لا تحتمل التأويل المسبق، والقراءة الاعتباطية غير المتخصصة، بل إن قارئ القصة الحداثية التي جنحت نحو التجريب وتفجير طاقات اللغة وكسرت روتينية السرد، عليه أن يخوض في غمار النص باذلا من أجل بلوغ مراميه، ونيل متعة القص وجمالية التلقي، فالقراءات المتباينة، وتقليب معاني النص وفهم التراكيب اللغوية والانزياحات غير المألوفة، والتماس الإحالات الفكرية والمعرفية والاجتماعية وغيرها من التي يبني النص لغته من أجلها، وبعد كل هذا قد تتحقق القراءة الفعلية للنص أو لا يستطيع القارئ بلوغ بعض من مراميه.
و بمقارنة بسيطة بين القصة ببداياتها الأولى في الوطن العربي، وبين انقسامها إلى لغة تفخيمية تنهل من لغة السرد الأدبي في العصر العباسي وما بعده، مثلما برز لدى المنفلوطي وغيره من كتاب عصر النهضة، ونمط آخر للقصة يحتفي بآلية توصيل المعنى والفكرة القصصية بلغة أدبية رشيقة، مثلما في «عودة الروح» لتوفيق الحكيم.
ونظرة فاحصة للغة القصة المعاصرة، فإنها بلغت مناطق جديدة من الإبداع والخصوبة وتفجير طاقاتها الممكنة والمحتملة، والميل نحو بلاغة الانحراف والتكثيف تارة والتداعي الحر أحيانا أخرى، لأهداف متعددة نزع إليها القاص والروائي:
كسر الروتين والأسس التقليدية التي قطعت فيها القصة العربية حيزا زمنيا طويلا، وطرح نماذج إبداعية جديدة، تغاير المألوف وتدعو إلى خصوصية التجربة الإبداعية، وتفرد البصمة الكتابية الخلاقة عن الأغيار، وهذا الهدف يحاكي رغبة الإنسان المستمرة والملحة في البحث عن الجديد، والفذ، والمتميز، فباللغة الشعرية، يغاير المبدع طروحات الغير لنفس الفكرة والموضوع. وكما يؤكد على هذا البعد الدكتور عبدالرحمن تمارة في قراءة نقدية له:
«الأول أساسه تدمير القصدية الدلالية، وتفعيل آلية التأويل التي تقارب دلالة القصة وفق مبدأ البناء وليس مبدأ التعيين. الثاني قوامه التأكيد على اقتران أدبية النص القصصي بمدى «براعة» القاص في بناء لغة جديدة على أنقاض اللغة التواصلية العادية، بل إن كينونته وإبداعه مرهون بهذه اللغة المعتمدة في بناء النص الإبداعي؛ حيث «يظل وجود المبدع رهين اللغة التي يتوسل بها ليرتاد عالم الكتابة».
محاكاة رغبة في دواخل كل من القاص والمتلقي في رصد روح الجمال والشعر في اللغة والسرد، فكل نفس تحب تذوق الجمال فيما ترى وتقرأ، فاللغة بقدر ما تكون جميلة بقدر ما تكون أكثر اقناعا وتأثيرا.
الاغراق في لغة الكشف والوصف وتكثيف الومضات للتعبير عن مكنونات النفس بلغة توازي هذه الحالة الإنسانية التي تعاني من القهر من السلطة والمجتمع، وتضخم الذوات في مجتمعات استبدادية وقمعية، جعلت من المبدع يكون صوتا لها أو صوتا مضادا لها يحاول كشفها وتعرية واقعها عبر أدوات لغوية فعالة تتوسل الكشف والبوح، والإغراق في عالم الروح.
الاطلاع والالمام بالثورة المنهجية في العلوم لا سيما في النقد والأدب الحديث، من نظريات ومناهج أدبية ومفاهيم كالشعرية والأسلوبية، جعلت الأدباء يحرصون على اتقانها والإبداع فيها، حتى تكون العلاقة بين الأدب والنقد علاقة تكاملية بين النظرية والتطبيق، بدلا من النزوع إلى فجوات بين القراءات النقدية والأعمال الأدبية غير الموازية لها.
وبالالتفات إلى مجموعة القاصة الكويتية استبرق أحمد «عتمة الضوء» سيجد المتلقي نفسه أمام مستويات لغوية عدة، ودلالات لغوية عميقة، يهيمن عليها عنصر اللغة الشعرية المكثفة والانزياح اللغوي، والإضافة وحسن الاختيار للمترادفات، ما يجعل من قارئها يتوه في لغة القص، ويعتبرها جمالية فذة، ولا يصل للمعنى إلا بعد أن يتدارك نفسه، ويعيد القراءة مرة تلو الأخرى، لبلوغ مرامي المعنى.
فمن بعض نماذج اللغة الانسيابية في متوالية سردية تتوسل الانزياح اللغوي، والبعد عن الوصف التقليدي، فترسخت في المشهد التالي من قصة «براءة»: شعرية وجمالية الوصف:
«ساحة مضيئة، الشمس شاحذة سعيرها الحارق، الفصول متراصة، النوافذ تثرثر التماعا، هدوء قلق، سيارات تنتظر في الخارج لحظة الانعتاق ببلادة...». (المجموعة، ص22)
ومن المظاهر اللغوية البارزة في المجموعة أيضا، جمالية التكثيف والإيجاز، ويلا زمها جمالية الإضافة، ففي التكثيف يرى القارئ جملة تتكون من ثلاث أو أربع كلمات، تغني عن متوالية سردية تتكون من جمل عدة، فبدلا من وصف حالة إحدى الشخصيات، والرجوع إلى ماضيها أو التوقف عند راهنها، فإن جملة قصيرة تحيل إلى معان عديدة، وهذا التكثيف لم يتمكن إلا من خلال عنصر الإضافة، إضافة كلمة إلى كلمة مشعة وتضفي على الجملة ظلالا من المعاني الجميلة، فمن أمثلة التكثيف في قصة «حدس» وصف السارد مشاعره تجاه زوجته، التي يشك في سلوكها وممارستها للبغي في بيوت مارست الخدمة فيها، لتكون اللغة بإيجازها البالغ، والوصف المنجز للمعنى، مدارا لقراءة السياق ومعرفة ملابسات القصة، وأحوال الشخوص النفسية، ومغنيا عما يقوم به الحوار من مثل:
( اشتعلت وساوس والدتي، علا دخان الرفض لها ولخدمتها لدى بيت النوخذة مساعد... هي تخدم لتهزم الأيام المثقلة بالجوع... جاء الطفل/ الثمرة يحمل صورة أيام خدمتها).
كل ما مضى من أوصاف موجزة ومكثفة يشي بأحداث وأحوال، على القارئ التقاطها من اللغة بما تحمله من دلالات، ولا تطلب من القاص شرحها وتفسيرها، لأنه يتعامل مع ومضات سريعة ولمحات خاطفة لذهنية متوثبة ومتحفزة للقراءة.
الدكتور عبدالرحمن التمارة « جماليات الانزياح اللغوي/ قراءة في «علبة البندورا» لأنيس الرافعي، مجلة الفوانيس القصصية، الأربعاء 7/4/2010.
* كاتبة وناقدة كويتية
Mobdi3on@windowslive.com
... اللغة في النص الأدبي بشكل عام أصبحت إضافة إلى انها لغة الخطاب والتداول بين المرسل والمرسل إليه، لغة تحمل أبعادا جمالية ودلالية شديدة الحساسية والتأثير، بما تحمله من حمولات معنوية وفكرية ومعرفية، تعد هي بنفسها آلية مهمة وفعالة في قراءة وفك شفرات النص، فقد تكون لفظة بحد ذاتها مشعة ومحملة بعدة سياقات ودلالات تؤجج فعل القراءة، وتحفز فعل التلقي، وإن كنا نبتغي الدخول في دائرة اللغة القصصية، فإن القصة شهدت قفزات واسعة ومهمة على مستويات عدة، ولاسيما اللغة بما تسوقه معها من حمولات شعرية، واستعارات بلاغية مكثفة، وانحراف أسلوبي وانزياحات عن ضفاف المألوف وتوليف بين المتناقضات والمتضادات اللغوية، ليأخذ السياق في قراءات لا تحتمل التأويل المسبق، والقراءة الاعتباطية غير المتخصصة، بل إن قارئ القصة الحداثية التي جنحت نحو التجريب وتفجير طاقات اللغة وكسرت روتينية السرد، عليه أن يخوض في غمار النص باذلا من أجل بلوغ مراميه، ونيل متعة القص وجمالية التلقي، فالقراءات المتباينة، وتقليب معاني النص وفهم التراكيب اللغوية والانزياحات غير المألوفة، والتماس الإحالات الفكرية والمعرفية والاجتماعية وغيرها من التي يبني النص لغته من أجلها، وبعد كل هذا قد تتحقق القراءة الفعلية للنص أو لا يستطيع القارئ بلوغ بعض من مراميه.
و بمقارنة بسيطة بين القصة ببداياتها الأولى في الوطن العربي، وبين انقسامها إلى لغة تفخيمية تنهل من لغة السرد الأدبي في العصر العباسي وما بعده، مثلما برز لدى المنفلوطي وغيره من كتاب عصر النهضة، ونمط آخر للقصة يحتفي بآلية توصيل المعنى والفكرة القصصية بلغة أدبية رشيقة، مثلما في «عودة الروح» لتوفيق الحكيم.
ونظرة فاحصة للغة القصة المعاصرة، فإنها بلغت مناطق جديدة من الإبداع والخصوبة وتفجير طاقاتها الممكنة والمحتملة، والميل نحو بلاغة الانحراف والتكثيف تارة والتداعي الحر أحيانا أخرى، لأهداف متعددة نزع إليها القاص والروائي:
كسر الروتين والأسس التقليدية التي قطعت فيها القصة العربية حيزا زمنيا طويلا، وطرح نماذج إبداعية جديدة، تغاير المألوف وتدعو إلى خصوصية التجربة الإبداعية، وتفرد البصمة الكتابية الخلاقة عن الأغيار، وهذا الهدف يحاكي رغبة الإنسان المستمرة والملحة في البحث عن الجديد، والفذ، والمتميز، فباللغة الشعرية، يغاير المبدع طروحات الغير لنفس الفكرة والموضوع. وكما يؤكد على هذا البعد الدكتور عبدالرحمن تمارة في قراءة نقدية له:
«الأول أساسه تدمير القصدية الدلالية، وتفعيل آلية التأويل التي تقارب دلالة القصة وفق مبدأ البناء وليس مبدأ التعيين. الثاني قوامه التأكيد على اقتران أدبية النص القصصي بمدى «براعة» القاص في بناء لغة جديدة على أنقاض اللغة التواصلية العادية، بل إن كينونته وإبداعه مرهون بهذه اللغة المعتمدة في بناء النص الإبداعي؛ حيث «يظل وجود المبدع رهين اللغة التي يتوسل بها ليرتاد عالم الكتابة».
محاكاة رغبة في دواخل كل من القاص والمتلقي في رصد روح الجمال والشعر في اللغة والسرد، فكل نفس تحب تذوق الجمال فيما ترى وتقرأ، فاللغة بقدر ما تكون جميلة بقدر ما تكون أكثر اقناعا وتأثيرا.
الاغراق في لغة الكشف والوصف وتكثيف الومضات للتعبير عن مكنونات النفس بلغة توازي هذه الحالة الإنسانية التي تعاني من القهر من السلطة والمجتمع، وتضخم الذوات في مجتمعات استبدادية وقمعية، جعلت من المبدع يكون صوتا لها أو صوتا مضادا لها يحاول كشفها وتعرية واقعها عبر أدوات لغوية فعالة تتوسل الكشف والبوح، والإغراق في عالم الروح.
الاطلاع والالمام بالثورة المنهجية في العلوم لا سيما في النقد والأدب الحديث، من نظريات ومناهج أدبية ومفاهيم كالشعرية والأسلوبية، جعلت الأدباء يحرصون على اتقانها والإبداع فيها، حتى تكون العلاقة بين الأدب والنقد علاقة تكاملية بين النظرية والتطبيق، بدلا من النزوع إلى فجوات بين القراءات النقدية والأعمال الأدبية غير الموازية لها.
وبالالتفات إلى مجموعة القاصة الكويتية استبرق أحمد «عتمة الضوء» سيجد المتلقي نفسه أمام مستويات لغوية عدة، ودلالات لغوية عميقة، يهيمن عليها عنصر اللغة الشعرية المكثفة والانزياح اللغوي، والإضافة وحسن الاختيار للمترادفات، ما يجعل من قارئها يتوه في لغة القص، ويعتبرها جمالية فذة، ولا يصل للمعنى إلا بعد أن يتدارك نفسه، ويعيد القراءة مرة تلو الأخرى، لبلوغ مرامي المعنى.
فمن بعض نماذج اللغة الانسيابية في متوالية سردية تتوسل الانزياح اللغوي، والبعد عن الوصف التقليدي، فترسخت في المشهد التالي من قصة «براءة»: شعرية وجمالية الوصف:
«ساحة مضيئة، الشمس شاحذة سعيرها الحارق، الفصول متراصة، النوافذ تثرثر التماعا، هدوء قلق، سيارات تنتظر في الخارج لحظة الانعتاق ببلادة...». (المجموعة، ص22)
ومن المظاهر اللغوية البارزة في المجموعة أيضا، جمالية التكثيف والإيجاز، ويلا زمها جمالية الإضافة، ففي التكثيف يرى القارئ جملة تتكون من ثلاث أو أربع كلمات، تغني عن متوالية سردية تتكون من جمل عدة، فبدلا من وصف حالة إحدى الشخصيات، والرجوع إلى ماضيها أو التوقف عند راهنها، فإن جملة قصيرة تحيل إلى معان عديدة، وهذا التكثيف لم يتمكن إلا من خلال عنصر الإضافة، إضافة كلمة إلى كلمة مشعة وتضفي على الجملة ظلالا من المعاني الجميلة، فمن أمثلة التكثيف في قصة «حدس» وصف السارد مشاعره تجاه زوجته، التي يشك في سلوكها وممارستها للبغي في بيوت مارست الخدمة فيها، لتكون اللغة بإيجازها البالغ، والوصف المنجز للمعنى، مدارا لقراءة السياق ومعرفة ملابسات القصة، وأحوال الشخوص النفسية، ومغنيا عما يقوم به الحوار من مثل:
( اشتعلت وساوس والدتي، علا دخان الرفض لها ولخدمتها لدى بيت النوخذة مساعد... هي تخدم لتهزم الأيام المثقلة بالجوع... جاء الطفل/ الثمرة يحمل صورة أيام خدمتها).
كل ما مضى من أوصاف موجزة ومكثفة يشي بأحداث وأحوال، على القارئ التقاطها من اللغة بما تحمله من دلالات، ولا تطلب من القاص شرحها وتفسيرها، لأنه يتعامل مع ومضات سريعة ولمحات خاطفة لذهنية متوثبة ومتحفزة للقراءة.
الدكتور عبدالرحمن التمارة « جماليات الانزياح اللغوي/ قراءة في «علبة البندورا» لأنيس الرافعي، مجلة الفوانيس القصصية، الأربعاء 7/4/2010.
* كاتبة وناقدة كويتية
Mobdi3on@windowslive.com