خيرالله خيرالله / بعض من عقلانية في «قمة سرت»

تصغير
تكبير
ثمة جوانب إيجابية في القمة العربية التي استضافتها مدينة سرت الليبية. في مقدم هذه الجوانب أن بعض العرب بدأ يفكر في ضرورة إصلاح البيت الداخلي أوّلاً. ولذلك، بدا أن القمة العربية الأخيرة تميّزت بمقدار من العقلانية على عكس مما كان متوقعاً. سادت القمة الأجواء التي تحكمت بالسياسة الليبية في مرحلة ما بعيداً عن أي نوع من التهور. انها الأجواء التي مكنت الجماهيرية من تجاوز الحصار الذي فرض عليها بسبب قضية «لوكربي»، ثم بسبب سعيها إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل. استطاعت القيادة الليبية، وقتذاك، بفضل السياسة الواقعية التي انتهجتها ابتداء من العام 2000 فك عزلتها والعودة إلى ممارسة دورها على الصعيدين الإقليمي والدولي. هل تستخدم هذه القيادة القمة من أجل اظهار أنها قادرة على اتباع سياسة بناءة في المدى البعيد؟ هذا السؤال في حاجة إلى جواب مقنع بعدما بدا في الأشهر القليلة الماضية أن هناك عودة بين الحين والآخر إلى ممارسات عفى عليها الزمن، خصوصاً في مجال التعاطي الليبي مع اوروبا.

إن السؤال في مجال استخدام العقلانية لا يزال مطروحاً على الصعيد الليبي نفسه، ولكن ما يمكن قوله بعد الذي شهدته القمة إن هناك ميلاً ما للتفاؤل بتحسن الأداء العربي عموماً في ضوء القرارات العملية التي اتخذتها القمة، بما في ذلك البحث لاحقاً بتطوير جامعة الدول العربية كمؤسسة، وربما الانتقال إلى قيام الاتحاد العربي استناداً إلى الاقتراح اليمني الجديد- القديم الذي أعاد الرئيس علي عبدالله صالح طرحه في «قمة سرت».

يترافق البحث في تطوير مؤسسة جامعة الدول العربية مع التفكير في إيجاد روابط مع دول الجوار، على رأسها تركيا والتشاد. وكان ملفتاً أن كلمة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في الجلسة الافتتاحية للقمة تركت أثراً عميقاً لدى المشاركين، خصوصاً بعد تشديده على أهمية القدس وما تعنيه لدولة مهمة في المنطقة اسمها تركيا.

في النهاية، كانت قرارات القمة في المستوى المطلوب نظراً إلى ابتعادها عن المزايدات والكلام الفارغ الذي لا يقدم ولا يؤخر. كرر العرب مرة أخرى أنهم يسعون إلى السلام، وأنهم يريدون ترتيب بيتهم الداخلي بدليل القمة الاستثنائية التي ستنعقد قبل نهاية العام للبحث في مستقبل جامعة الدول العربية كمؤسسة. وضعت كلمة أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في الجلسة الافتتاحية التي سلم فيها رئاسة القمة إلى العقيد معمر القذافي الأسس للتفكير ملياً في إصلاح البيت العربي. قال أمير قطر صراحة إن: «العمل العربي المشترك يواجه أزمة مستعصية ولن نخدع أنفسنا وشعوبنا». أراد القول صراحة إن على العرب الابتعاد عن الأوهام من جهة وتحمل مسؤولياتهم من جهة أخرى، خصوصاً لجهة فك الحصار الظالم عن قطاع غزة.

بعد القمة، جاء دور المواجهة. الأكيد أن هذه المواجهة لا يمكن أن تكون عسكرية، إلا إذا كان مطلوباً استخدام الفلسطينيين مرة أخرى وقوداً في معارك ذات طابع إقليمي لا علاقة لهم بها تعود عليهم بالويلات. جرب الفلسطينيون السلاح فكانت النتيجة معروفة، خصوصاً أن لا وجود لأي طرف عربي، أو غير عربي يريد فتح جبهة جديدة مساندة لهم. من هذا المنطلق وفي غياب النية العربية في خوض حرب، ونظراً إلى وجود استراتيجية عربية تقوم على السلام كخيار استراتيجي، ووجود مبادرة السلام العربية، لا بديل من العمل من أجل تحديد طبيعة المعركة مع الاحتلال الإسرائيلي. وهذا ما فعله رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيد محمود عبّاس (أبو مازن) أمام المشاركين في القمة. ركز «أبو مازن» على المصالحة الفلسطينية- الفلسطينية مؤكداً السعي من أجل هذه المصالحة، واستعداد «فتح» لتوقيع الورقة المصرية اليوم قبل غد. وشدد على أهمية القدس مشيراً إلى أن «لا معنى لدولة فلسطينية مستقلة من دون أن تكون القدس الشريفة عاصمتها». فوق ذلك كله، أوضح أن لا مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل من دون وقف الاستيطان، ومن دون مرجعية محددة هي حدود العام 1967.

وضعت «قمة سرت» الأسس للهجوم العربي المضاد. انه هجوم ديبلوماسي أولاً وأخيراً يعتمد على أن هناك اجماعاً إقليمياً ودولياً على أن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والقدس الشرقية لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. حتى الإدارة الأميركية تبدو مستعدة للمشاركة في الضغط على إسرائيل وحكومتها اليمينية المتطرفة التي تسعى إلى تكريس الاحتلال لجزء من الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية.

كيف سيتحرك العرب بعد القمة؟ المهم أنهم بدأوا يتحدثون عن ضرورة إصلاح أوضاعهم. كان السيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية في غاية الصراحة عندما ركز في كلمة أمام الجلسة العلنية، وفي مؤتمره الصحافي، على مخاطر المذهبية التي بدأت تهدد المجتمعات العربية. انه كلام شجاع يصب في حماية الأمن العربي وفي جعل العرب يعون أن عليهم النظر إلى ما يدور داخل مجتمعاتهم قبل إطلاق الكلام الكبير عن المقاومة والممانعة وما شابه ذلك من مزايدات لا طائل منها.

كان مفيداً أن تنعقد القمة في ليبيا التي لاحظ وزير خارجيتها السيد موسى كوسة أنها المرة الأولى التي تستقبل حدثاً في هذا المستوى. ربما كانت أهمية ليبيا بصفة كونها البلد المضيف، أنها استطاعت التخلص من العقوبات الدولية التي فرضت عليها في مرحلة ما بفضل الديبلوماسية. أدركت ليبيا في مرحلة معينة أن الشعارات شيء والواقع شيء آخر، وأن بعض العقلانية أكثر من ضروري في حال كان المطلوب الخروج من العزلة الدولية. لم تترك أي مجال لأدنى شك في أنها ستتخلص من مشاريع تستهدف الحصول على أسلحة كيماوية، أو أي شيء له علاقة بما يسمى أسلحة الدمار الشامل. فتح ذلك لها كل الأبواب أمام الخروج من عزلتها. يفترض في العرب التوقف أمام هذه التجربة والاستفادة منها في معركة القدس... بغض النظر عما إذا كانت الجماهيرية ستعود إلى لغة المزايدات أم لا.





خيرالله خيرالله

كاتب لبناني مقيم في لندن
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي