لدينا في الكويت الكثير من الرموز الوطنيين المشهورين بمعاداتهم للفئوية، ولكن القليل منهم وطنيّون «كلمة وعمل» أو «قول وفعل». فعدد منهم شارك في صفوف الفئويين في غزواتهم على لحمتنا الوطنية، والعديد منهم تغيبوا مراراً عن التواجد في خنادق الدفاع عن نسيجنا الوطني إبّان تعرّضه لحملات نَخْره. والأغرب، أن من بين هؤلاء «الرموز المتغيّبين» من سارع في الحضور للدفاع عن الفئويين، كلما تعرّضوا لضغوط من قبل جهات داخلية أو خارجية.
في الكويت، نتجنّب عادة استثارة الآخر المختلف في الانتماء القومي أو الطائفي، بدرجة أننا نتفادى تسمية الفئة المختلفة في حضور أحد منتسبيها. وإذا اضطررنا لتسميتها، نَقْرِنُها بالتأكيد على احترامنا لهذه الفئة. ولكن تخلّلت هذه الحالة «السائدة الغالبة» موجات تطرف «واسعة عارمة» ضد فئات مختلفة. الشاهد، أننا متذبذبون في علاقتنا مع الفئات المجتمعية الأخرى. فحسب الخطاب الغالب أو الحالة المجتمعية السائدة، إما نُبالغ في احترام الفئات الأخرى وإما نُفْرِط في معاداتها.
لا أعرف شخصيّاً الأستاذ الدكتور هشام العوضي –أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في الكويت– ولكن جذبني إليه تصريح لا يصدر إلا من رمز وطني «قولاً وفعلاً». هذا التصريح المصوّر دفعني للبحث في أطروحاته الفكرية التوعوية، لأكتشف المزيد من التصريحات الوطنية والكتابات التي لا تُخط إلا بيد رمز وطني «قولاً وفعلاً».
رغم أنه ليس ناشطاً في مجال تحصين وتعزيز الوحدة الوطنية، العوضي، رمز وطني «قولاً وفعلاً» بجرأته في طرح وإبداء آرائه وأفكاره الموضوعية المهنية، وتحديداً الأطروحات الماحية والمصحّحة للمعلومات المزيفة والمفاهيم المغلوطة المغروسة والمرسوخة كمُسَلّمات وثوابت في العقل الجمعي.
وفق نطاق اطلاعي، العوضي مختلف عن الأغلبية، في كونه لا يُبالغ في احترام الفئات الأخرى، ولا ينتقي من رصيده المعرفي بغرض الإساءة إليها. في مشروعه التخصصي التوعوي، يتعامل مع جميع الفئات بمهنية، ضمن الإطار القانوني.
يمكن فرز مساعي العوضي لتوعية المجتمع وتحصينه من الفتن الفئوية إلى مسارين: الدعوة إلى التخلّي عن المنظور الفئوي عند قراءة ومراجعة الأحداث التاريخية، والتحذير من المصالح والدوافع السياسية في الأزمات الفئوية.
بالنسبة للمسار الأوّل، نشر العوضي عبر حسابه على منصة «إكس» مجموعة من مقاطع الفيديو حول أزمة المنظور الفئوي في قراءة التاريخ. فعلى سبيل المثال، في المقطع الرائع المنشور قبل أيّام في 28 مايو 2025، قال العوضي: إن المؤرّخ اليوم ليس حُرّاً في الحديث عن الماضي، لأنه مُقيّد ومُسجون، ليس بالقصص ولا بالمعلومات، بل بالبرمجة المعاصرة عند المتلقّي اليوم. وأشار من باب المثال إلى الآراء الفئوية المتناقضة المتبادلة تجاه كل من الشخصيّتين التاريخيتين البارزتين صلاح الدين الأيّوبي ومُؤيّد الدين بن العلقمي.
وبالنسبة للمسار الثاني، فقد تجسّد في مقال قَيِّم كتبه العوضي، نشر في 9 نوفمبر 2016، بعنوان «الطائفية دين أم سياسة؟!»، مزج فيه التاريخ بالحاضر، جاء فيه «ظهرت الطائفية لما انكمش الرُّشد، وتوغّلت السياسة في حياة الناس باسم الدين. وأصبحت السياسة هي التي تحدد متى نكون طائفيين ومتى لا نكون. لما تتقاتل تركيا العثمانية مع إيران الصفوية، يصبح المجتمع طائفياً، ولما يتصالحان يصبح الشعبان -بقدرة قادر- أمة واحدة! ولما تحدث الحرب العراقية - الإيرانية تُعتبر طائفة ما «طابوراً خامساً»، ولما يحدث الغزو نكتشف -بقدرة قادر أيضاً- أنه لا فرق بين طائفة وأخرى! خطير جداً أن يكون المجتمع رهين السياسة، والأخطر أن يكون رهيناً للسياسة باسم الدين».
نعم، وصلنا إلى المرحلة الأخطر. فمجتمعنا رهين للسياسة باسم الدين، بدرجة أنه منح صكوك الوطنية لنوّاب طائفيّين، هتكوا النسيج الوطني قبل سنوات وعلى مدى سنوات، ولنوّاب «من التوجّه البرلماني ذاته» خرسوا أمامهم إبّان تلك السنوات السوداء.
اكشفوهم وانبذوهم، حتى يتعافى نسيجنا الوطني للأبد «قولاً وفعلاً»، ويخرج المؤرّخ العوضي من سجنه... «اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه».