اقتصاد لبنان المنهَك يغرق في «طوفانات» غزة والشتاء... وفشل الدولة

دخان القصف المدفعي الإسرائيلي على مشارف قرية كفرشوبا (أ ف ب)
دخان القصف المدفعي الإسرائيلي على مشارف قرية كفرشوبا (أ ف ب)
تصغير
تكبير
منذ أكتوبر الماضي، يحتجبُ حُطام الواقع المالي والاقتصادي في لبنان خلف كتلة الدم والدمار في غزة.
ولم يطلّ الانهيار المتمادي منذ نحو 4 أعوام برأسه من فوق ألسنة النار والدخان في القطاع الذي تفتك به آلة القتل إلا حين قفزت على الطاولات في «بلاد الأرز» خطط طوارئ حكومية لجبة احتمالات توسع العمليات العسكرية على الحدود الجنوبية الى حرب شاملة.
والواقع أن الخطط «الوَرَقية» لم تجد مَن يكترث لها بين المواطنين أو الخبراء أو المحللين، في ضوء اقتناعٍ بأنها باب لاستجداء التمويل، في حين كانت مظاهر الدولة الفاشلة «تسطع» مجدداً وتكراراً مع «سقوطها» أمام «طوفان» الأمطار في أول أيام فصل الشتاء وعجْزها عن تخصيص القليل من المال العام لإنارة أنفاق (على طرق رئيسية) تسكنها العتمة ليل نهار.

وفيما تشهد «بورصةُ» الحرب تقلباتٍ يوميةً، بين اقترابها من الجبهة اللبنانية وفق سيناريواتِ «اقتناصِ اللحظة» من إسرائيل لتوريط «حزب الله» ووضْع رأسه تحت «المقصلة» نفسها مع «حماس» وفرْض أمر واقع على الولايات المتحدة الحاضرة في ميدان الردع حتى الساعة، وبين ابتعادِ الحرب ربْطاً بقرارٍ متعدّد البُعد من الحزب وإيران بعدم «ربط المصير» (مع حماس) وبـ «ضوء أحمر» أميركي أمام تل أبيب، تستمرّ المخاوف من التشظيات المالية – الاقتصادية لـ«الميني حرب» الدائرة على الحدود الجنوبية عملياتٍ ينفذها الحزب على طول الحدود وقصفاً إسرائيلياً لشريط بلداتِ التماس وتتوسّع رقعتهما بالتوازي بين الحين والآخَر، كما من الارتدادات المميتة لأي انفجارٍ عسكري يشرّع كل بوابات جهنّم على لبنان الذي لم ينفكّ ينتقل منذ 2020 من قعر سحيق إلى آخَر.
وما يعزّزالمخاوفَ أن عنادَ السلطات وهروبها المنتظم والمستمرّ بذرائع واهية من ضرورات الاصلاحات الهيكلية المطلوبة، تَسَبَّبا بقفل كل مَسارب الدعم الاقليمي والدولي، بما في ذلك نافذة اتفاق مع صندوق النقد الدولي كان أُنجز بصيغته الأولية في أبريل 2022 ولكنه عَلِقَ في «شِباك» الصراعات وتضارب الحسابات والمصالح اللبنانية، لتنعدم بذلك فرص الحصول على مساعدات خارجية بأشكالها كافة، هي التي كان يقدّر له أن تتكفل بترميم جزء من البنيان المتداعي جراء ما أمعنت السلطات عيْنها في هدمه من ركائز ومقومات اقتصادية واجتماعية ومعيشية.
ووسط مرحلة «الانتظار الثقيل»، تزيد كثافة الغيوم السود فوق السقوف الواهنة لمَرافق الإنتاج والاقتصاد التي تستعيد استطراداً مسار الركود وإحصاء الخسائر، بعدما استبشرتْ بقطرة ضوء حَمَلها موسم الصيف الذي كان استعاد زخمه في ميادين السياحة والفنادق والمطاعم ووفّر 5 مليارات دولار تدفقات «طازجة»، معزَّزاً بنجاحات مشهودة من قطاعات حيوية ومبادرات فردية في التأقلم المتقدّم مع وقائع الانهيارات المالية والنقدية التي بدأت طلائعها المخيفة خريف 2019.
وما زاد من قتامة المشهد الخفضُ الدراماتيكي للآمال الكبيرة المعقودة على ثروة الغاز والنفط، والتي تبدّدتْ أكثر بغموضٍ غير بنّاء يكتنف استنتاجاتٍ ملتبسةً تصدر عن هيئة إدارة القطاع وبصمتٍ مريب تمارسه الشركات الدولية المعنية بالتنقيب في البلوكات ولا سيما 9، فيما يكاد مطار رفيق الحريري الدولي يتحول مساحاتٍ خاليةً مع الهجرة القسرية لطائراتٍ تابعة للشركة الوطنية الوحيدة (الميدل ايست) وامتناع قسم كبير من الشركات الإقليمية والدولية عن استخدام هذا المرفق الحيوي، أو قصر الرحلات على الضروري والمُلِحّ فقط.
وبالتالي ما من معادلات - وحتى «التخيلية» التي تعتمدها الحكومة – قادرة على أن تؤمن، ولو بالقدر البسيط من التناسب، صدّ تَعاظم ارتدادات الكوارث المالية والنقدية المتفشية بأعلى سقوفها الرقمية وتداعياتها على مجمل مفاصل الحياة اليومية، والمتجمعة مسبقاً تحت لافتة الانحدار الحاد للناتج المحلي من نحو 55 مليار دولار الى نحو 16 ملياراً، والارتفاعات الصاروخية في تراكماتِ مؤشر التضخّم قاربت 5 آلاف في المئة خلال 4 سنوات، فضلاً عن تبديد احتياطات وافرة تزيد على 25 مليار دولار من العملات الصعبة من دون استخدام سنت واحد في معالجة فجوة الخسائر الهائلة التي تجاوزت 75 مليار دولار.
وهناك واقع مرير وخطير يستحيل إنكاره، وفق مسؤول مالي معني تواصلت معه «الراي»، ويتمثّل في أن المتبقي من صافي رمق الاحتياطات النقدية لدى البنك المركزي يقارب 7 مليارات دولار بعد احتساب قيود الخصوم او المستحقات. وهذا الرصيد «الممنوع من الصرف» لتغطية احتياجات الدولة بقرار هيئة الحاكمية، يقل أساساً عن حقوق التوظيفات الالزامية للمودعين في الجهاز المصرفي التي تناهز 13 مليار دولار، من دون احتساب التوظيفات الاستثمارية للجهاز المصرفي التي تفوق 85 مليار دولار.
وفي المقابل، يرجح تسجيل انخفاض ملموس في تدفقات العملات الصعبة عقب «الأفول» القسري لحركة السياحة والخروج المتوالي للرعايا العرب والأجانب من البلد منذ «طوفان الأقصى» وتحريك جبهة الجنوب والهجرة التحوطية «لمن استطاع إليها سبيلاً» من اللبنانيين. وهو ما سيسبّب تقلصات مضطردة في كميات عروض الدولار لدى شركات الصرافة، ويصعّب عملياً مهمة تأمين دفق مستدام لرواتب القطاع العام، وفق النمط السائد منذ ربيع العام الجاري، بسعر 85.5 ألف ليرة لكل دولار.
وفي المقلب المعيشي والاجتماعي، سجّل لبنان ثاني أعلى نسبة تضخّم اسميّة في أسعار الغذاء حول العالم بين الفترة الممتدّة بين أغسطس 2022 والشهر نفسه من 2023، محققاً رقم 274 في المئة كنسبة تغيُّر سنويّة في مؤشّر تضخّم أسعار الغذاء، مسبوقاً من فنزويلا (318 في المئة) ومتبوعاً من الأرجنتين (134 في المئة) وتركيا (76 في المئة).
وفي الرصد الأولي لانعكاسات المستجدات الميدانية، من غزة الى الجبهة الجنوبية للبنان، يقدّر رئيس الهيئات الاقتصادية الوزير السابق محمد شقير أن الوضع الاقتصادي في لبنان يتدهور بشكل دراماتيكي من سيئ الى اسوأ بعد حرب غزة والأحداث الدائرة في الجنوب، ما ينذر بانهيار كافة القطاعات الاقتصادية بعد أربع سنوات من المعاناة جراء الأزمة الإقتصادية والمالية.
وإذ لفت شقير إلى أن كل ما جنتْه القطاعات الاقتصادية خلال موسم الصيف الماضي يجري استنزافه حالياً، بل ان «ما لم تستطع الأزمة الاقتصادية فعله في أربع سنوات، يجري الآن وبشكل متدحرج على صعيد القضاء على القطاع الخاص اللبناني وارتطام الاقتصاد الوطني والبلد في قعر الهاوية».
وفي إدراج لمستجدات المعطيات والأرقام والإحصاءات التي تم جمعها من المعنيين في مختلف القطاعات الاقتصادية، يتبيّن أن قطاع المطاعم، سجل انكماشاً كبيراً حيث تراجع حجم الأعمال في المطاعم بين 80 و90 في المئة. وكذلك سجل قطاع الفنادق تراجعاً كبيراً حيث تقدر نسبة الأشغال حالياً بين 5 و10 في المئة، كما أن هناك فنادق شاغرة تماماً. وبالمثل يسجل قطاع تأجير السيارات تراجعاً حاداً بنسبة فاقت 90 في المئة. ولا يخرج قطاع المطاعم والملاهي والحفلات عن السياق النسبي عينه.
وريثما تتضح معالم المرحلة الجديدة التي يطأها لبنان منهكاً ومفلساً، قدّر البنك الدولي في أحدث تقاريره، تسجيل نمو اقتصادي بنسبة 0.2 في المئة في السنة الحالية، وهو النموّ الايجابي الأوّل منذ خمسة أعوام. إلّا أنّه توقّع أيضاً أن تبقى نسبة التضخّم مرتفعة عند 231.3 في المئة.
وقد عزى البنك الدولي هذا النموّ المرتقب إلى حركة السياحة والتحويلات الوافدة إلى البلاد وإلى استقرار الحركة الاقتصاديّة، لكنه حذّر من أنّ توقّعات النموّ هذه خاضعة لدرجة عالية من عدم اليقين ولا سيما استناداً الى فرضيّة استمرار الفراغ السياسي حتّى نهاية السنة، بدءاً من رئاسة الجمهورية، مروراً بحكومة تصريف أعمالٍ مقيّدة في عملها بـ «سلاسل» سياسية قبل الدستورية، وصولاً لشبه تعطُّل آليات العمل التشريعي وانتقال قيادة البنك المركزي الى حاكم بالانابة.
ولا تقل خطورة شبح الفراغ الذي يخوم فوق قيادة الجيش ابتداءً من 10 يناير، ما لم يحصل توافق على تعيينٍ لا تتوافر ظروفه لبديل من العماد جوزف عون، لأنه سيكون «هدية» لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل لا يريد أحد منحه إياها - من حلفاء وخصوم - وتمديدٍ شائك حتى الساعة يُرجّح أن تُكشف أرضيته الدستورية التي أُعدت لها أكثر من «محاكاة» في ربع الساعة الأخير أو في التوقيت المناسب، وكان طيفُه حَضَرَ أمس في جلسة مجلس الوزراء ولكن أُعلن أنه «بحاجة إلى مزيد من النقاش كي لا يكون الموضوع في إطار التحدي لأي طرف».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي