No Script

إطلالة

قصة المتسول الأخرس في لبنان

تصغير
تكبير

هناك الكثير من القصص المبهرة التي حدثت أثناء الحرب الأهلية في لبنان، ومن بين القصص المشهورة التي أبهرتني كثيراً هي قصة الجاسوس الإسرائيلي الذي مثل دور «المتسول الأخرس» في لبنان عام 1975 وحتى عام 1990.

انظر أيها القارئ كيف أجاد هذا الجاسوس دوره بامتياز من دون أن يتعرف عليه أحد، وكيف استطاع هذا الجاسوس أن يتحمل هذه الشخصية طوال هذه السنوات وسط حرب أهلية طاحنة في لبنان؟!

القصة بدأت أثناء الحرب الأهلية، كان المتسول الأخرس يتنقل في بعض شوارع بيروت بين حين وآخر، رجل كبير في السن، رث الثياب، كريه الرائحة، وشح الوجه واليدين، حافي القدمين، أشعث شعر الرأس واللحية، وكان فوق ذلك كله رجلاً أبكم، فلم يكن يملك ذلك المتسول الأخرس سوى معطف طويل أسود، بائس ممزق قذر يلبسه في فصل الصيف والشتاء، فعندما رأيت صورته بنفسي أعتقدت أنه عربي بالفعل، لأن ملامحه لا تبدو غير ذلك!

كان بعض أهل بيروت الطيبين يتصدقون عليه ويلاطفونه لأنهم يحنون عليه، كان عفيف النفس الى حد كبير، فإن تصدق عليه أحدهم برغيف خبز قبل منه، وإن تصدق عليه بربطة خبز «عشرة أرغفة» لم يقبل! وإن أعطاه أحدهم كأساً من الشاي قبل منه، وإن أعطاه الناس مالاً لم يقبل، وإن أعطاه أحدهم سيجارة قبل منه، وإن أعطاه علبة سجائر لم يقبل!

كان دائم البسمة، مشرق الوجه، مؤدباً في طباعه، ولطيفاً مع البشر صغيراً أم كبيراً، لم يكن له اسم يعرف به سوى: الأخرس، فلم يشتكِ منه أحد، ولم يشك به أحد، فلا أذى إنساناً قط، ولا اعتدى على أحد، ولا تعرض لامرأة، ولا امتدت يده الى مال غيره، ولا دخل الى بناء لينام فيه رغم الانفلات الأمني أثناء الحرب، فقد كان الأخرس يفترش الأرض، ويلتحف السماء.

كانت الحرب الأهلية مستمرة وكان الحديث عن ظروف الاجتياح وأخبار الناس وأحوالهم حديث الساعة، الى ان دخل الجيش الإسرائيلي الى بيروت واجتاحها من محاور عدة، إذ لاقى أثناء تقدمه البطيء مقاومة شرسة من أهلها الأبطال، فعانى أهل بيروت من القصف الوحشي والقصف المخيف والقذائف المدمرة التي استغرقت أشهراً عدة، بينما كان المتسول الأخرس يعيش في عالم آخر، غير عابئ بكل ما يجري حوله، ولأن الحرب كانت تشبه يوم القيامة - لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه - لم ينفع تنبيه الناس للمتسول عن خطورة الأوضاع ووصول الجيش الإسرائيلي الى تلك الشوارع والأزقة التي كان يتجول فيها وينام على قارعتها في بيروت الغربية.

ومع اشتداد ضراوة الحرب ووصول طلائع الجيش الإسرائيلي الى بيروت يئس الناس من تصرفات المتسول الأخرس، فتركوه يلاقي مصيره بنفسه، ثم وقف بعضهم عند زوايا الطرق وأبواب الأبنية يراقبون مصيره... تقدمت جحافل الجيش الإسرائيلي واقتربت من المتسول الأخرس عربة عسكرية ومصفحة تابعة للمهمات الصعبة الخاصة، فترجل منها ثلاثة ضباط، واحد برتبة مقدم واثنان برتبة نقيب ومعهم الجنود، ومن ورائهم عربات عدة مدججة بالعتاد، مليئة بالجنود فاقتربت المجموعة من المتسول الأخرس وهم يحملون بنادقهم المذخرة بالرصاص ويضعون أصابعهم على الزناد ويتلفتون بحذر شديد، كان الجو رهيباً مليئاً بالرعب والمكان مليئاً بالجثث والقتلى ورائحة الدم ودخان البارود، تقدموا هؤلاء من المتسول الأخرس وهو مستلقٍ على الأرض، غير مبالٍ لكل ما يجري حوله، وبدا وكأنه يستمع الى سيمفونية بيتهوفن (القدر يقرع الباب) وعندما صاروا على بُعد خطوتين منه انتصب قائماً ورفع رأسه الى الأعلى كمن يستقبل الموت سعيداً، والمفاجأة كانت عندما رفع المقدم الإسرائيلي يده نحو رأسه وأدى التحية العسكرية له، قائلاً بالعبرية: باسم جيش الدفاع الإسرائيلي أحييكم سيدي الكولونيل العقيد، وأشكركم على تفانيكم الرائع في خدمة بلدك إسرائيل، فلولاكم لما استطعنا دخول بيروت!

رد المتسول الأخرس التحية العسكرية بمثلها في هدوء، وعلى وجهه بسمة النصر قائلاً: لقد تأخرتم قليلاً، وصعد العربة العسكرية المصفحة وتحركت العربة وخلفها ثلاث عربات مرافقة للمتسول العقيد، تاركة في المكان كل أنواع الصدمة والذهول ومعها أطناناً من الأسئلة، والصدفة هنا كانت مع بعض المثقفين الفلسطينيين ممن يتقنون العبرية كانوا قريبين من المكان، وهم يسمعون الحوار ويترجمونه، وأعينهم تفيض من الدمع ولكنهم عجزوا عن ترجمة وجوه الناس المصدومة من هول الكارثة التي أحلّت على أهالي تلك الأحياء البيروتية التي عاش فيها هذا الوغد «الجاسوس الإسرائيلي».

ولكل حادث حديث،،،

alifairouz1961@outlook.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي