مصطلحٌ ازدهر في الحرب ويُستخدم كلما دعتْ الحاجة

«فيديرالية» لبنان.. عصا سياسية

«فيديرالية» لبنان.. عصا سياسية
«فيديرالية» لبنان.. عصا سياسية
تصغير
تكبير

راجتْ في لبنان زمن الحرب (1975 – 1990) وما شهده من انقساماتٍ حادة، طائفية وسياسية، طروحاتٌ تقسيمية واتهاماتٌ بالانعزالية، انتعش معها خطاب «الفرز والضم».

و«ازدهرت» عملياً الإدارةُ المدنية التي مارستْها الميليشيات في البيروتيْن الشرقية والغربية في إطار الإدارة الذاتية لمناطقها.

تلك المرحلة الدامية والعبثية شهدتْ تطهيراً طائفياً وحملاتِ تهجيرٍ مناطقية، على وهج الجنوح نحو شعارات التقسيم. ورغم كل دورات العنف الجارف التي عرفها لبنان، خَتَمَ اتفاقُ الطائف هذه الشعارات بـ «الشمع الأحمر»، وأرسى لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه بحدوده المعترَف بها.

في الأيام الأخيرة وبعد سجالٍ سياسي بين «القوات اللبنانية» و«حزب الله»، عاد الكلامُ عن الفيديرالية في لبنان من بابٍ واسع.

ورغم أن هذا المصطلح في معناه القانوني والسياسي لا يضمر التقسيمَ فإن الخلاف السياسي المستعر أخيراً بين الحزب ومعارضيه أعاد نبش ذاكرة الحرب وشعاراتها. ورغم أنها ليست المرة الأولى في الأشهر الأخيرة يتم فيها التداول بقضايا تلامس السجالَ حول الفيديرالية من بعض جوانبها، إلا ان الضوضاء التي أثيرت أخيراً اتخذت طابعاً مختلفاً، وله موجبات عدة ومحاذير... كثيرة.

ليس خافياً أن شخصياتٍ وقوى مسيحية هي التي اتُهمت خلال الحرب بأنها تُعْلي فكرة الفيديرالية وإعتُبرت حينها نوعاً من أنواع التقسيم.

واليوم يتكرر الأمر عيْنه، بعد ظهور عدد من الشخصيات السياسية ترفع شعار الفيديرالية وتطالب بها، على خلفية الإنقسام السياسي الحاد وتحديداً مع «حزب الله». والمفارقةُ أن الكلامَ الذي يتردّد تبريراً للفيديرالية لا يستهدف طائفةً في ذاتها بل حزباً سياسياً هو «حزب الله» بما يمثّله من أكثرية شيعية.

ومع تردُّد بعض هذه الشعارات برز كلام رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل مراراً، وقبْله رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون، ومناداته باللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، وهو ما أخذه عليه حلفاؤه لإعتبارهم ان الأمرَ ينطوي على منحى تقسيمي بمجرد ان طالب باللامركزية المالية علماً ان اللامركزية جزء من إتفاق الطائف الذي لم يُطبَّق كاملاً. وتمت مناقشة مشاريع عدة حيالها في الأعوام الأخيرة على مستوى رسمي ولا سيما بعد عام 2005، لكنها لم تَرَ النور.

حَمَلَ باسيل هذا الشعار في معظم حركته السياسية وخطبه، منادياً بتطبيقها كجزء أساسي من معالجة الخلل القائم على مستوى الإدارات والوزارات وتوزيع المساعدات والعائدات البلدية والمالية على المحافظات والمناطق، بما يضمن تجهيزها وإنماءها بصورة عادلة.

لم تلاقِ طروحات باسيل ردات فعل سياسية بالمعنى السلبي المطلق، كما حصل مع السجال الذي نشب بعد رد «حزب الله» على رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أخيراً. فجعجع تناول الحزب (في معرض حديث تلفزيوني أخيراً)، وتعطيله الإنتخابات الرئاسية لمصلحة الإتيان برئيس من فريقه، ملوّحاً بما فُهم منه أنه إبتعاد كلي عن الطرف الآخر وهنا المقصود الحزب إذ قال «إذا تمكّن حزب الله من أن يأتي برئيسٍ له، سنعيد النظر في كل شي. كل الخيارات مفتوحة. لن نقبل العيش تحت سيطرة حزب الله».

ردّ «حزب الله» على جعجع بلسان نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم حيث تحدّث عن ان «أحد أركان السياديين يدعو إلى التقسيم إذا لم يتمكن من الإتيان بالرئيس الذي يريده!» لتردّ «القوات» لاحقاً على نحو عنيف بأن «حزب الله هو أكثر فريق عمل على نسف الجمهورية اللبنانية من أساسها وضرب كل الفرص والطروحات والإتفاقات التي تسعى لبناء الدولة بدءاً بإنقلابه المتواصل على إتفاق الطائف مع تَمَنُّعه عن تطبيقه عبر رفضه تسليم سلاحه».

لا شك في أن السجال الأخير، وقبله مناداة باسيل باللامركزية الموسعة، عَكَسَ في وجه من الوجوه حقيقةَ الإنقسامات السياسية والتي غالباً ما تتحوّل طائفية في بعض المجالات وخصوصاً بعد حدوث توترات على الأرض كما جرى في الطيونة - عين الرمانة في اكتوبر 2021، ومن ثم المشكلات العقارية في مناطق مثل لاسا وأخيراً في رميش، بين مناصري «حزب الله» وقوى مسيحية سواء من «القوات» أو «الكتائب» أو حتى من أبناء تلك المناطق.

وجاء تَمَسُّكُ «حزب الله» باختيار رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية كمرشح للرئاسة ورفْض كل من «القوات» و«التيار الوطني الحر» و«الكتائب» لهذا الخيار، ليضع الحزب في مواجهة القوى المسيحية التي تعارض فرْض الحزب خياراته عليها بما في ذلك «التيار الوطني» الذي شنّ مناصروه حملات أخيراً على الحزب من موقع المعترض على فرْض خيار فرنجية وصولاً لتحذير باسيل يوم الأحد بأن أي تَجاوُز للمسيحيين في الملف الرئاسي «ضرْب جنون».

عملياً لا شك في أن التوتر القائم بين «حزب الله» والقوى المُعارِضة له منذ عام 2005 لم يتخذ منحى تقسيمياً، لا بل ان «قوى 14 مارس» رفعتْ دائماً شعار وحدة الدولة وسيادتها ورفضتْ أي كلام آخر.

وحين تفاعل وَضعُ «حزب الله» يده على السياسة اللبنانية الداخلية، أصبح التلويحُ بالشعارات الأخيرة أمراً مُتداوَلاً.

لكن عملياً لا يمكن البناء على مشاريع مماثلة إلا عبر حروب مدمّرة، والحرب اللبنانية لم تستطع رغم الفرز الجغرافي الذي أحدثتْه أن تَخْلص إلى هذه الوقائع.

فكيف الحال اليوم وما حصل بعد مرحلة الطائف من تَداخُلٍ اجتماعي وجغرافي من الشمال إلى الجنوب والبقاع يمنع كلياً حصول أي نوع من أنواع التقسيم على الأرض.

ورغم أن الانطباع بأن «حزب الله» له مناطق الحُكْم الذاتي الخاصة به، لكن الفرز الجغرافي الواضح لن يكون متاحاً في ظل وجود أقليات سنية ومسيحية في مناطق نفوذه، كما العكس تماماً.

هذا جغرافياً، أما سياسياً، فلا يمكن فرْض نموذج من النماذج المتداوَلة إلا في حال إتفاق دولي، وهذا غير متاح حالياً، في ظل انشغال العالم بمشكلات أكثر خطورة وانعكاساً على أوروبا والمنطقة.

إلا ان هذا السجال قد يفتح الباب عاجلاً أم آجلاً على تفعيل مشاريع اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، لأن فيها جزءاً من الحلول لمشكلاتٍ إدارية ومالية.

أما الحل السياسي المتعلّق بنفوذ «حزب الله» وتأثيراته في القرار السياسي بدءاً من اختيار رئيس الجمهورية، فمن الصعب البحث حالياً عن حلول له.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي